من غير مقدمات، وجدت نفسى فى محطة القطار مغادراً أسوان متجهاً إلى الشمال دون الكتابة عن شخصية. لا أحد يذكر النوبة ولا يذكرها، وعزائي أن الرجل يفرد له دواوين وكتب لا تستطيع أن توفّيه حقه بما فعل بوجداننا وأحاسيسنا ولا أزال أتذكر “شبابيك” ونحن فى حرم الجامعة نلتحف بأحاسيسنا ونغنيها معا.
هو وجه القمر الأسواني وليس النوبي فقط. فكما سبق، ذكرنا أن الفن النوبي كان بعيد عن الذاكرة الفنية المصرية حتى مطلع القرن الماضي عندما أسس الفنان على كوبان أول فرقة نوبية تطوف مصر والعالم، فلم يكن كافياً للتعبير عن التراث النوبي.
ومع إهتمام ثورة يوليو بتوطيد العلاقة مع السودان وجنوب مصر، أٌنشِأت الإذاعة المصرية “إذاعة وادي النيل” لربط خطابها الأيديولوجي بإمتداد مصر الجنوبي ممثلا في السودان. لكن أحمد منيب وزميله الشاعر عبد الفتاح والي وَجَّهَا رسالة شخصية للرئيس جمال عبد الناصر طالبا فيها بالسماح للموسيقى النوبية بمساحة في الإذاعة المصرية كتأكيد على مصرية نوبيته. وإستجاب الرئيس لندائهما وجاء برنامج “من وحي الجنوب” ليسمع المصريين اللغة النوبية بلسان عبد الفتاح والي وألحان العازف أحمد منيب وعمالقة من النوبة أيضاً.
و كان يُذاع من إذاعة “ركن السودان” من القاهرة، كان ينتظره أبناء النوبة بشغف وكان الجميع يلتفون حول الراديو وسماع الإهداءات والأغانى مع موعد مائدة شاي الظهيرة، والقاسم المشترك هو المقتطفات النوبية من الأغاني وعادات وتقاليد النوبة وغيرها، لأن البرنامج كان موجها للقبائل النوبية (الكنوز، الفاديجا وعرب العقيلات)، وبالأصح موجهاً لجميع القبائل حسب الترتيب من الشمال للجنوب، والسبب في ظهور هذا البرنامج هو الفنان الراحل أحمد منيب “وجه القمر” الأسواني النوبي.
أحمد منيب
وُلِدَ الفنان فى 4 يناير سنه 1926 وأُشتِهر كعازف عود منذ بداية الخمسينات. وكانت بداياته عام 1954 مع إنشاء إذاعة “وادي النيل” والذي قدم فيها مع الشاعرعبد الفتاح والي العديد من الأغاني التراثية النوبية، كما قدم مع الشاعر محيي الدين شريف أغاني نوبية تتكون من قالب من أغان توارثتها الأجيال، بتنويعات لحنية ثابتة في الأفراح وحفلات الميلاد وأغنيات العمل.
يُعتَبر الفنان أحمد منيب أشهر ملحن مصرى نوبي، وأعظم ما قدم النوع النوبى فى الغناء والألحان وهو الذى إستطاع التأريخ لها، ودمجها بالفن المصري ولم يغير أبداً إنتماءه النوبي، أو يلحن أى ألحان غير نوبية فهو كما ذكرنا كان من أول من عزف على آلة العود فى النوبة.
وهكذا نجح منيب فى إنطاق الإذاعة بلغة النوبة كأولى خطوات الإنتشار للغة وموسيقى النوبة، وكانت عين منيب متجهة نحو القاهرة كطموح أى فنان، بحثاً عن توليفة تمزج الموسيقى النوبية التى لا يفهمها أهل الشمال، بالموسيقى الشرقية المسيطرة على كل ارجاء الوطن العربي. وبعد رحيل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم فى السبعينات وتراجع الموسيقار محمد عبد الوهاب في التلحين، ثم ظهور لون من الموسيقى الشعبية الجديدة بعد الانفتاح فى عهد السادات، الذى ظهر بموسيقى الحارة الشعبية وهبوط طبقات مثقفة وواعية وتواريها وإبتعاد الأضواء عنها، وابتدأت ألوان جديدة من الغناء تجذب آذن الشاب الجامعي، فنشأ جيل جديد من الغناء إنفرد به أحمد منيب.
الوجه الأخر للقمر
إلتقى أحمد منيب مع الشاعر الشهير عبد الرحيم منصور والتقيا مع الصوت النوبى الأصيل محمد منير عام 1978، ليكوّنوا أعظم فريق غنائي إستطاعوا من خلاله نشر الكلمة واللحن النوبى فى ربوع مصر، وإنضم لهم الموزعين هانى شنوده ويحيى خليل، وهانى شنودة صاحب تجربة غناء فرقة المصريين وثورة آلة الأورج الكهربائي، ويحيى خليل ملك الجاز الإيقاعي في السبعينيات ذو الثقافة العالمية، لتبدأ مسيرة النجم محمد منير والتى استطاعت تكوين قاعدة جماهيرية عريضة فى الوطن العربي، حيث إستطاع الثلاثي دخول كل بيت مصري.
وقام منيب بتلحين 45 أغنية لمحمد منير وحده، فى أول عشرة ألبومات، وقام بتلحين كلمات عمالقة الشعر فى مصر والوطن العربي فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبد الرحيم منصور، مجدى نجيب، أحمد فؤاد نجم، سيد حجاب، جمال بخيت، محمد القصاص، عبد الرحمن أبوسنة، عصام عبد الله وغيرهم.
وقدم أحمد منيب مع منير أجمل أغاني الثمانينات والتي كانت بوابة النجاح لمحمد منير والتى مر منها منير بمنتهى القوة والثقة، ومن تلك الأغنيات التى صنعت نجاح الإثنين “أم الضفاير، الليلة يا سمرا، شجر الليمون، بعتب عليكى، حدوتة مصرية، شبابيك، فى دايرة الرحلة، فى عنيكى غربة، عقد الفل والياسمين” وتلك الأغنيات التى مازال الجمهور يطالب بها منير لغنائها فى حفلاته حتى الآن ولم ينسها مطلقا، فتلك الأغنيات هى التى صنعت نجاح النجم محمد منير.
كما قدم أحمد منيب العديد من الأغنيات لمطربين آخرين منهم ، إيهاب توفيق في أغنيتى “اكمنى” و”علمى علمى”، ومحمد فؤاد” صدقنى يا صاحبى”، وعلاء عبد الخالق “الحب ليه صاحب”، وكتكوت الأمير “ماشى غريب”، و”فارس “هاكتبلك”، وحسن عبد المجيد “ربك هوالعالم”، وشاهندة “مشتاقين”، كما قدم لحميد الشاعري 4 أغنيات “ليلة” و”صديق” و”نص طريق” و”يخيلك”.
فارقنا أحمد منيب فى عام 1991 عن عمر يناهز خمسة وستين عاماً بعد رحلة حافلة بالعطاء والتجديد الموسيقى، وقدم خلال مشواره الفني الذي إقترب من الـ 30 عاما 96 لحناً غنّى منها بصوته 51 لحناً، ضمتها ألبوماته السبعة: “مشتاقين، ياعشرة، كان وكان، بلاد الدهب، راح أغني، قسمة ونصيب، وحدوتة مصرية”.
استطاع إبنه خالد منيب تكوين فرقة نوبية تسمى “منيب باند” وهى فرقة موسيقية نوبية تقدم كل الألحان التى لحنها الفنان أحمد منيب والتى غنّاها بصوته، تأسست الفرقة عام 2011 و ذلك في الذكرى العشرون لرحيل أحمد منيب.
والى لقاء آخر نسبح معا فى نهر فن الجنوب .