الفنان سعدي الكعبي


ان التعرف الصحيح على اي من الفنانين العراقيين يتطلب البدء بالتعرف على الحركة الفنية العراقية والاحاطة بكل الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياسية والتي تتصل بها، فبذلك فقط يمكن وضع الفنان وعمله في المكان الصحيح الذي يستحقه، ويصبح في متناولنا حق تقييمه والحكم علىفنه وفق قوانين المقارنة وأصوليات التوثيق والتاريخ. ولكي يتوضح ذلك بالنسبة لفناننا سعدي الكعبي ، فأني اميل الى الحديث عن الحركة الفنية التشكيلية في العراق، ولو بصورة سريعة خاطفة. وذلك سوف يساعدنا على متابعة وفهم الدور الذي لعبه ويلعبه هذا الفنان ،
للفنان والناقد جميل حمودي


جدارية بابل
في فندق بابل ببغداد في ربيع عام (1986) وامام جدارية الفنان سعدي الكعبي ، وجدتني استعيد محطات ذاكرتي عن هذا الفنان الذي عرفته منذ اكثر من ثلاثين سنة حين كان يتهيأ لادخال فنه معركة الاسلوب والتقنية. وأقول الحق أني كنت أمام هذه اللوحة الكبيرة الحجم والرائعة القيمة أشعر بالكثير من الإعجاب واتمتع بلذة التفهم والتعمق في تجربة هذا الفنان ذات النكهة الابداعية الخاصة.

رابط المزيد من صور لاعمال الفنان سعدي الكعبي

موضوع هذه اللوحة واضح، وهو ملخص اختزالي ومكثف ومعاصر لحضارة العراق القديمة. ويمكن أيضا ً انه يخص الحضارة البابلية بالذات ، هذه نقطة ارتكاز مهمة في عملية النقد التحليلي التي احاول ان اعيشها هنا مع القاريء الكريم . فمن الموضوع يمكننا الانطلاق للتعرف اولا على الخطة الاساسية ثم نتدرج في فهم الامور الاخرى التي تختلف بين التكوين العام للوحة، واسلوب التعبير الفني، والمادة الفنية عبر ارتباطاتها الغنية بالقيمة التشكيلية من جهة، وبالمضمون المزدوج المطلوب من هذه الجدارية أي صلة بتراث الماضي من خلال إبداع بنفسانية وبروية معاصرة.
بابل في التاريخ، مثلما هي في الفن مسألة معقدة لانها لاتقتصر على كونها ذكريات مبعثرة عن خرائب وبقاية لمدينة ازدهرت في الالفين الثاني والاول قبل الميلاد، انما هي هنا حضور تعبيري عن حضارة تكاملت عناصرها في قمة المفاهيم الحضارية السالفة وعبر ازدهار لم يعرف العالم غبره من قبل. ومن هنا نبدأ الشعور بتبين الصعوبات الاولى التي تطرح نفسها على فنان تشكيلي يحرص على انجاز عمل له غده الوثائقي ومستقبله الثقافي والفني الصرف.
ونحن نعرف من البداية في أعداد الخطة وتجميع العناصر المختلفة للوصول الى وضع المخطط الاساسي للتكوين، تتطلب عملا جادا ً ومتعمقا ً في البحث والمتابعة وان مثل هذا العمل يجب ان يكون مماثلا ً لاي بحث علمي ومشابها له في الدقة والتوازن وخصوصا ً في التكامل المنطقي.
ولا يكفي في هذا المجال في اعتقادي اللجوء الى الاثار ومخلفات العصور القيمة الأستيحائها بالشكل السطحي الذي يكاد لا يبتعد عن التقليد أو الاستعارات المختزلة للاشكال المعروفة ، قصد تثبيت مظرية للموضوع .
فالمطلوب إذن في مثل هذا العمل الابداعي ، ان يذهب الفنان بكل حماسة الى كل الاعماق التي يشتملها الموضوع، وان يتوفر له كل مايجعل الرؤيا تتكامل من حيث كونها وثيقة تسجيلية ذات طابع تعبيري فني معاصر وليس هذا فحسب، بل عليه كذلك ان يحسب حسابا ً دقيقا ً لدوره الواضح في الابتكار. ففي هذا الدور يكمن سر المعاصرة وحداثة الاسلوب. جلست متأملا هذه الجدارية مدة طويلة اجيل انظر في ارجائها لاكتشف اشياء كثيرة ساعدتني على فهم ذلك العالم الابداعي الذي عاش، ويعيش فيه سعدي الكعبي.

ومن هذه الاشياء نقاط احاول تلخيصها هنا:
يتواصل الكعبي في هذه اللوحة الى نتيجة ناضجة تتعلق بقيمة الفضائية على الصعيدالتشكيلي الصرف وكذلك على الصعيد التعبيري. حيث يظهر بوضوح التكامل في التأليف بين العناصر الموجبة والعناصر السالبة، بين الكتل والاشكال المليئة وبين الفراغات والفضائيات. ويحقق ذلك بعقلية رياضية تدري حسابات التباين المختلفة التي وحدها تعطي للعمل الفني اسباب توازنه.
في هذه الجدارية المرموقة ، يظهر أسلوب الكعبي في طريقة الاستيحاء والتحوير في شكله المتكامل بعد مروره بمختلف مراحل التطوير والتغيير قصد اخضاعه للزوميات الرؤية الشخصية للفنان. وعند التدقيق بدراسة المفردات المختلفة للوحة يجد الناقد ان بعض الاشكال وخصوصا ً الاشكال الانسانية قد أخذت هنا قالبها النهائي بحيث ان كل تغيير جديد يليها في المستقبل سوف يكون تغيرا ً جذريا ً في الرؤيا عند سعدي الكعبي. وهذا لو حصل فانه يعني نوعا من التمرد على الذات المبدعة لنفسانية المؤثرات الخارجية.
تظهر في اللوحة بوضوح نتائج الصراع الذي لابد انه كان حادا ً على الصعيد انتقاء اللون . وهنا يأتي انتشار بعض الانعكاسات اللونية من خلال ذلك الجو القهوائي والترابي الذي عهدناه في أعمال الكعبي، بمثابة رد فعل اغنائي احس الفنان بالحاجة اليه استجابة لضرورة بث الشاعرية والموسيقى عبر تلك الاشكال الغامضة التي يلفها السر، وتلك الفراغات التي ترن فيها الوحشة.
يبرز موضوع البعد الثالث، عبر تجسيد الاشكال المرسومة في نتوءات المادة ونفورها عن السطح العام للوحة، مسألة هامة في التناغم مع النور من ناحية، ومع الملمس التشكيلي الصرف وهنا تقترب صفات اللوحة الزيتية من صفات المنحوته الجدارية (الباريليف). وعند سعدي الكعبي يساهم اللون في اعطاء البروز حضورا ً يدعم قوته التعبيرية.
في العودة الى دراسة الخطوة التكوينية للوحة الجدارية نلاحظ للوهلة الاولى ان الفنان قد تحرر من الكثير من القواعد التقليدية في التاليف وتمر على طريقة مركزية الموضوع وحصره في مكان منتخب من اللوحة، في الوسط مثلا، هل حصر همه على توزيع العناصر المشاركة، على سطح اللوحة على مسألتين هما الشكل العام الذي اراد له ان يشمل كل مساحات القماشة، والصياغة التي يفرض عليها لعب الدور المكمل في التكوين. ولعل المتأمل في تخطيط الجدارية يرى انه مرحلة البداية التي لا تعني شيئا بحد ذاتها، وانها مجرد اقتراح ودعوة للعمل الابداعي. هذه بعض الناقط التي تبلورت في ذهني وانا اتفحص جدرية بابل للفنان سعدي الكعبي. وأصارح القاريء اني كنت خلال ذلك شديد الحذر من الخلط او الانغمار في تأثيرات الذوق الشخصي. لكني مع ذلك تذكرت اعمال الفنان العراقي حميد العطار والذي عالج مواضيع مختلفة تستوحي الحضارات العراقية القديمة من سومرية وبابلية وآشورية. وخطرت ببالي الحضارات. لكني خرجت من تلك المضامين الحضارية المذكروة لدعم أسلوبه ولم يتردد من اخضاع تلك المضامين الحضارية المذكورة لدعم أسلوبه ولم يتردد من اخضاع تلك المضامين الى ظروفه الابداعية الخاصة.ولم يتساهل في استعارة الملامح التقليدية المعروفة في تلك الحضارات الا اللهم ما شعر بضرورته للتاكيد على الهوية ولتثبيت الطابع التاريخي والوثائقي لعمله الفني.

وهنا نجد التفسير المنطقي لبعض المظاهر الفيزيائية التي تخص الوجوه والوضعيات في رسوم الاشخاص ، والتي ترينا لباقة الفنان في وضع هذه المظاهر في التأليف بعمق الصلة بين الفنان وموضعه وبين نوعية رؤية لذلك الموضوع من اجل الوصول الى المعالجة الاصيلة التي تظل ايجابية رغم الحرية المطلقة التي اشترطها الفنان على نفسه وهكذا يبقى مضمون اللوحة الجدارية أمينا ً في التعبير عن عالم بابل وعن ملامح حضارة وادي الرافدين، وكذلك يبقى اسلوب اللوحة ابتكارا ً اصيلا ً يشير الى خصوصية الفنان واسلوبه التشكيلي المعاصر والمتميز. وتتوزع الاشكال الانسانية والهندسية والعناصر الاخرى تحيط بها خطوط بارزة تغنيها المادة الفنية ويمسحها اللون بهالة من القدم، بينما تتسربل وجوه الاشخاص ورؤوسهم بالغموض والغرابة. وبهذا نفهم القوة الجاذبة في هذا الفن الذي يتشابه في دوره الثقافي مع بعض الفلسفات المعروفة. فهو يفرض عليك الانجذاب اليه عبر جماليته التشكيلية المتفردة. لكن وانت تدخل عالمه لاتجد امامك غير الاسرار والالغاز. ومع ذلك فانت تظل في دائرة الجاذبية الفنية مكتفيا ً بالتذوق ومأخوذا ً بشاعرية التعبير وسحره. هكذا سنحت لي فرصة لدراسة سعدي الكعبي في فندق بابل ببغداد في الربيع الماضي. لكن هذه الدراسة لم تظل مناسبة عابرة فاللقاء بالفنان وزيارتي له في مشغله بالوزيرية وتكرار هذا اللقاء زادني انشدادا ً الى فنه وساعدني على العمق في فهم تجربته واستيعاب طلاسم تطورها عبر حوالي عشرين سنة من العمل الابداعي المستمر. ولعل من الانصاف ان اذكر أن هذا الفنان قد بلغ في اعتقادي المستوى المتميز في انتاجه بحيث يمكن تقديمه كنموذج مرموق في الفن العراقي المعاصر. ومن هذا المنطق فاني رأيتني مهتما ً بمتابعة المراحل الحياتية ولابداعية التي عاشها سعدي الكعبي وفنه.
أضاءة على حركة التشكيل العراقي
ان التعرف الصحيح على اي من الفنانين العراقيين يتطلب البدء بالتعرف على الحركة الفنية العراقية والاحاطة بكل الجوانب التاريخية والاجتماعية والسياسية والتي تتصل بها، فبذلك فقط يمكن وضع الفنان وعمله في المكان الصحيح الذي يستحقه، ويصبح في متناولنا حق تقييمه والحكم على فنه وفق قوانين المقارنة وأصوليات التوثيق والتاريخ. ولكي يتوضح ذلك بالنسبة لفناننا سعدي الكعبي ، فأني اميل الى الحديث عن الحركة الفنية التشكيلية في العراق، ولو بصورة سريعة خاطفة. وذلك سوف يساعدنا على متابعة وفهم الدور الذي لعبه ويلعبه هذا الفنان ، ولاشك أن من راقب تطور حركة الفنون التشكيلية في العراق يستطيع اليوم ان يشهد، صادقا ً بجدارة هذه الفنون لان تتبوأ مكاناً عاليا ً مرموقا ً بين الفنون الحديثة في العالم. ويمكنه كذلك وبدون صعوبة كبيرة ان يكتشف الطريق التي سلكتها هذه الفنون، وتفرعاتها المختلفة التي تتألف اليوم عبر الذكريات الموثقة والفعاليات والمشاريع التي تسير نحو التكامل، من اجل تسجيل وتوثيق تاريخ صحيح ومنسق وجاد للفن الحديث في العراق . ويمكن لهذا المراقب أن يتبين النقاط البارزة في مسلسل حركة الابداع التشكيلي العراقي، من خلال التجارب التي عاشها الفنانون المبدعون العراقييون الذين ساهموا حقا ً في تكوين الشخصية المتميزة للفن العراقي الحديث. وليس هذا فحسب، فهو يستطيع كذلك أن يتلمس اهمية الدور الذي لعبه ومايزال يلعبه كل من هؤلاء الفنانيين المبدعين الذي ساهموا بطريقة ما وبدرجة ما في بناء الكيان المتنامي والمتطور بأستمرار للفنون التشكيلية في العراق.
على ان دور كل فنان- حين يوجد هذا الدور حقا- يختلف أهمية وتأثيرا ً باختلاف الظروف الزمكانية والاجتماعية والثقافية التي عرفها العراق منذ استقلاله السياسي في أعقاب الحرب العالمية الاولى. ولابد من القول بان الصدفة كانت مساهمة ايضا ً في توفير الاجواء المناسبة او غير المناسبة للفنان. وهذا يشرح لنا ظهور بعض الاسماء واختفاءها، وايجابية بعض الادوار او سلبيتها. ومن خلال معرفة المراحل التي عاشتها الحركة الفنية العراقية. منذ بداية الثلاثينات ، يمكننا أن نضع الامور في اماكنها الطبيعية وان نؤشر الموقع الذي يحتله الفنان في موكب الفنون التشكيلية العراقية. هذه الحركة التي لا يناقش أحد اليوم في موضوع نضوجها وتطورها المستمر والاساليب والتقنيات والمضامين المختلفة.

ولعل من المهم ان نذكر هنا التاثير الايجابي والمباشر لعدد من الفنانيين الذين جاهدوا حقا ً من اجل تثبيت الدعائم والاسس لانطلاقة الفنون التشكيلية وتطوراتها، فقد كان لاؤلئك الفنانين الرواد دور كبير لايمكن أن ننساه حين نتطرق لموضوع بناء الحركة الفنية وتأسيس هيكلها الذي نفخر اليوم به كمظهر رائع من مظاهر نهضتنا الثقافية المعاصرة. وللبعض من هؤلاء الفنانيين الرواد تبرز أسماء يجدر بنا اعتبارها رموزا ً لنهضتنا الفنية وإشارات لمستوياتها المتميزة. ومن بين هذه الاسماء اود ان اذكر الفنانين المرحوم جواد سليم وفائق حسن وحافظ الدروبي وعطا صبري وأكرم شكري وعيسى حنا وجميل حمودي وخالد الجادر وإسماعيل الشيخلي وأسماء أخرى علامات مضيئة على درب الابداع التشكيلي العراقي.
ولم يقتصر دور هؤلاء الفنانين في مرحلة الريادة التي عاشوها على مجرد الجهد الإبداعي وعلى التطور الذاتي كان نموذجا رائعا ً للروح العصامية فحسب، ولكنه كان أيضا ً عنصرا ً من العناصر الايجابية المهمة في تطور حياتنا الثقافية، وسندا ً قويا ً من لعملية التحويل الحضارية التي عشناها خصوصا ً في الفترة التي توسطتها الحرب العالمية الثانية. ولم تكن الريادة حينذاك في الانتاج الفني وحده انها كانت ايضا ًَ في تلك المحاولات (الفردية) الكثيرة التي كانت تهدف لايجاد البيئة المناسبة لاحتضان ذلك الانتاج وتتقبله كجزء منها. واكثر من هذا ، بل أهم من هذا بأعتقادي، ضهور تلك الدعوة الجريئة(في بداية االاربعينات)التي كانت ترمي الى خلق جمهور مثقف يتذوق الفنون الحديثة ويرحب بقيمها الجمالية ومفاهيمها التشكيلية المتطورة.
كل هذا يتحقق بفضل جهود عدد قليل جدا ً من الفنانيين وبمعزل عن الجهات الرسمية ألا اللهم بقدر محدود يكاد لا يذكر. وكان هذا القدر المحدود من الاهتمام يرجع الى بعض العلاقات العائلية والاجتماعية ولا علاقة له بأي وعي حضاري أو خطة تنمية ثقافية معينة.
وماأظن الكثير من مسؤولي تلك المرحلة التي كان الفنانون العراقيون فيها يعانون الصراع المرير عبر الاساليب والتقنيات ومذاهب التعبير الفني كانوا على علم، مجرد علم بما يجري، بل كان البعض منهم يتلهى بالنكات الاذعة عن الفن والفنانيين لكن ذلك لم يمنع الرواد الذين نذروا انفسهم للفن من أن يتجمعوا في معارض وفعاليات لم يدعمهم فيها سوى حماسهم وحيوية رغباتهم المبدعة (كجماعة أصدقاء الفن ومعارضها وجماعة الانطباعيين العراقيين وجماعة الرواد).
في بداية الاربعينات كان الفن العراقي يعيش هنا وهناك في بيوت الفنانين المعزولة عن بعضها لحظات ابداع وابتكار رائعة تمخضت فيها بعد عن أمور حاسمة وهامة جدا ً في تاريخ هذا الفن، فقد كان فائق حسن وجواد سليم يتفيأن في ظلال الانطباعية التي جاء بها الفنانون البولونيون الى العراق بعد أن تلقوها من استاذهم الفرنسي بونار . وكان عطا صبري وحافظ الدروبي يعيدان ذكريات اللمسات الاكادمية التي تعلماها في روما بينما كان آخرون يعالجون أساليب تترد بين التقاليد المدرسية الاوربية ومحاولات الخروج الى منطلقات جديدة، منطلقات تحكي للجمهور قصتهم الابداعية. وأخرون غيرهم كانوا يعيشون تجارب مختلفة آخرى بحثا ً عن وجودهم التعبيري النابع من آفاق حياتهم والمستوحى من تراثهم.
وتبرز المنمنمات والزخرفة العربية الاسلامية والخط العربي عناصر تشغل أفكار أولئك الفنانين الباحثين وهم يسيرون على طريق الابتكار الاصيل.
على ان الاجيال لا تدع مجالا للانقطاع. فكان التواصل أمرا ً حتميا ً لا مفر من التعايش معه . وتشبكت في عراق يتقدم وينهض، جهود وتجارب الفنانين من مختلف الاجيال من أجل بلورة الاهداف المركبة والتي تسير بغالبيتها بأتجاه خلق مدرسة عراقية أصيلة في الفن التشكيلي المعاصر.

تجارب الإبداع
وبين الاسماء التي لمعت في مجال البحث عن الهوية الشخصية ضمن المنطلق العام الذي يتحقق في العراق، يأتي اسم سعدي الكعبي مرادفا ً لجهود ونشاطات أبداعية كبيرة جعلت منه نقطة تلتمع اليوم وسط حركية فنية ترتفع بمستواها الابداعي على الصعيدين العراقي والعالمي لتستحق الاعجاب والتقدير في مجالات الفن الرفيع.
ويحضرني اليوم ذلك اللقاء الذي كان بين سعدي الكعبي واسماعيل فتاح وبيني في مكتبي ببغداد في أعقاب عودة هذين الفنانين من ايطاليا عام 1976 حيث اشرفا على تنظيم المساهمة الفنية العراقية في بينالي فينيسيا. فقد كان بيننا حديث رائع عن الفن التشكيلي المعاصر وأساليبه ومدارسه، عن حركات التحرر الاسلوبية في التعبير وفي الصياغة ، وعن الاتجاهات الجديدة الجديدة في تنظيم المعارض وتقديم الاعمال الفنية المختلفة من نحت ورسم وحفر وسيراميك وما الى ذلك . في ذلك الحديث أكتشفت بعضا ً من هموم سعدي الكعبي فيما يخص نقطتين على الاقل:
أولهما:
تنضيج وتعميق التجربة الابداعية الشخصية التي يعيشها هو في فنه.
وثانيا ً:
مسألة ايصال الفن التشكيلي العراقي الى المستوى التنظيمي الذي يضعه في المكان الائق به في المجال العالمي. وكان رد الفعل الي لمسته عند الكعبي وفتاح يتضح بايمان هذين الفنانين بالمستوى العالمي الرفيع للفن التشكيلي العراقي المعاصر . وكان ذلك اللقاء كذلك فرصة جيدة للتعرف على ما في نفس الفنان الكعبي من طموح ومواقف في مجال تنظيم الحياة الفنية.
وقد تحقق لهذا الفنان امران مهمان هما:
احتلال المكانة المتميزة في مجال الابداع الفني الصرف وبروز دوره كفنان تشكيلي معروف ونشيط واحتلال المكانة الوظيفية التي تتيح له التحرك في مجال تنظيم الحياة الفنية في العراق، حيث انه اليوم يشغل وظيفة مدير الثقافة الفنية في دائرة الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة والاعلام.
وأعود للكلام عن الحركة الفنية التشكيلية في العراق رغم اني كنت أفضل الاختصار في هذا. فالمراحل التي مرت عبرها هذه الحركة بالسرعة التي عرفناها وبالمستويات الرفيعة التي شهدناها، لم تكن لتحتل تلك المكانة البارزة في المسيرة التاريخية للعراق المعاصر لولا الطموح الفني الرائع الذي عرفناه عند عدد كبير من الفنانين العراقيين والذي اقترن بالعمل الدؤوب والمثابرة الجادة في البحث عن الآفاق والعناصر الجديدة التي تعمق القيم التشكيلية في مجال التعبير وتعتقها من آسر المفاهيم التقليدية التي جاء اكثرها من الغرب. أن هذ الطموح الابداعي لعب دورا ً هاما ً جدا ً في العمل على خلق االشخصية المتميزة في الفن العراقي المعاصر.
لافي حدود مدرسة اسلوبية عراقية فحسب بل حتى في طرفي حدود هذه المدرسة. ففي داخلها نجد تعدد الاتجاهات عبر تفرد الكثير من الفنانين بأساليب وتقنيات خاصة بهم، ونجد كذلك التجمعات الفنية التي خلقت محطات لا سبيل لنكران تأثيراتها المباشرة. أما في خارج تلك الحدود فاننا نرى بعض البحوث والتجارب الفنية العراقية وقد مارست في عدد كبير من اقطار الوطن العربي، بل حتى في أوربا وامريكا، تأثيرات هامة جدا ً لعل أبرزها مسألة استلهام الخط العربي في التكوين الفني التشكيلي المعاصر.
كل هذا حصل، ويحل اليوم غيره كثير بعد أن وصلت الحياة الفنية العراقية الى مرحلة مركز صدام للفنون الذي أعتقد انه أعظم انجاز في تاريخ الفنون التشكيلية في الوطن العربي، ومهرجان بغداد العالمي للفنون التشكيلي وهو أنجاز عظيم أخر ودلالة مهيبة على التطور العظيم الذي تعيشه الفنون في حضارتنا الراهنة رغم كل الظروف السلبية التي تحيط بنا. يتحقق هذا رغم الكثير من المصاعب والمعوقات، ليزيد في غنى تراثنا الفني المعاصر ، وليؤكد على الصحة والعافية التي تتمتع بها الحركة الفنية مستمدة قوتها وحيويتها من الاصول الراسخة ومن الاصالة التي هي جزء متضامن من وجودها والتي نتمسك بها بوعي وإصرار.
والكتابة عن سعدي الكعبي الانسان، كالكتابة عن سعدي الكعبي الفنان ، كلاهما ينطلق من نفس المعين الذي يوحي بالكثير من التأملات في عطاء فني مستمر ملتزم وغني. ولايظن أحد ان هذا العطاء قد تحقق بسهولة بل لابد من التفكير بأن وراءه جهود والتزامات وتضحيات الى جانب ماهو اساسي في الموضوع واعني وجود الموهبة الابداعية والحماس وما يحيط هذا من خبرة مهنية وصياغية. ودراسة اعمال الكعبي توصلنا الاكتشاف كل هذا بشرط التمتع بالبحث. غريب كان بالنسبة لي ذلك الطموح الممتزج بالثورة والتمرد الذي كان ينطبع حياة وفن سعدي الكعبي. إلا ان متابعة الطريق التي قطعها هذا الفنان ، والتصاقه المستمر بهدفه المزدوج الذي يكاد يفسد علينا محاولة الفصل بين ابداعه الفني الخالص وبين حياته، هذه المسألة تتطلب الكثير من التأمل والكثير من الصبر.
فأن هذا الفنان النشيط بطبيعته ، يسعى الى تحقيق آمال ظلت وتظل اليوم كذلك، تتعدد وتكبر عبر الفن وعبر الحياة. واكثر من هذا انه كلما كان يوغل في معركته الطاحنة في وجوده اليومي والاجتماعي الى جانب وجوده الابداعي، كان التناقض يشبع حياته مراره مثلما يشبع فنه غنى. ولكنه يقطع الطريق وهو مثقل بالقلق. كل ذلك القلق الذي يعيشه رغما عنه أحيانا ً عبر الزمان والمكان.

ذكريات وملامح
ان سعدي الكعبي في اعتقادي رجل يريد ان يصل الى تلك النقطة المضيئة التي تتراى له من بعيد. ثم حين يصل اليها يكتشف لتوه انه يرى نقطة مضيئة اخرى، أو لعلها هي النقطة ذاتها التي كان قد رأها ، لكنها هنا ابتعدت الى افق جديد لابد له من الوصول اليه وهكذا يظل المدار يتجدد.
كنت قد عرفت الفنان سعدي الكعبي في منتصف الستينات ووجدت فيه فنانا طموحا ً نشيطا ً وشديد الحماس للفن. وشاءت الظروف أن أكون مهتما ً بدراسة التحولات والتطورات التي يعيشها الفن التشكيلي في العراق، فاتاح ذلك التعرف على مراحل التحول والتطور في فن الكعبي الذي اوحى لي كثيرا ً من الثقة بالخط الابداعي الذي كان يسير عليه. ورغم الحذر الذي علمتني اياه الضروف، فقد كان لدي شعور بنجاح تجربة هذا الفنان وكان ذلك بصورة خاصة بعد مشاهدة معرض شخصي لاعماله أقيم في قاعة نادي العلوية، كما اتذكر. وكان ذلك المعرض قد ضم طائفة من اللوحات التي تعالج مواضيع ريفية عراقية .
وقد جاء الكعبي في تلك اللوحات بأمرين هامين:
الاول:
منها اختيار الحياة في الاهوار العراقية موضوعا ً لتلك الاعمال وتخصيص اهتمام كبير لرسم الحيوانات وخاصة الجاموس. التظاهر بصياغة جديدة تعطي للاشكال المرسومة على خلفية ذات فضائية مغبشة نوعا من النتوء والنفور من سطح اللوحة. والقصد من ذلك كما اعتقد كان مركبا ًً ، لانه ساعد من جهة أضاف للقيمة التشكيلية الخالصة ملمسا ً غنيا ً يوحي بالبعد الثالث تاركا ً للنور امكانية المساهمة في الوظيفة الجمالية للوحة ومنذ ذلك المعرض نال الفنان أهتمامي فتابعته برؤية الناقد وبحماس الموثق.
واني اليوم وانا اكتب عن تجربته التشكيلية المتميزة، شديد الاعتزاز بالتكهنات التي صدرت عني بشأنه لانه كان حقا ً جديرا ً بالتقدير والتقييم العالي. لكن هذا لايعفيني من متابعته هنا ولو بشيء من الاختصار عبر حياته الفنية ، عل هذا يساعدنا على توسيع آفاق فهمنا لانتاجه ومن خلال هذه المتابعة يتبين لنا هذا الفنان مليئا ً بخزين كبير من الآمال الابداعية والافكار والمشاريع التي تظهر أحيانا ً وكانها تثقل عليه. وهو من ناحية اخرى لايكف عن البحث عن وسائل للتعبير عنها لاخراجها والتعبير عنها طريقة خاصة واسلوبا ً معيناً له صفات محددة تتناسق وتنسجم مع الرؤيا الداخلية التي تتحرك في ذاته. وانني مازلت أحتفظ بذكريات زياراته لي حين كان يتوثب نحو المستقبل في رغبة شديدة للتوغل بحديثه الى أعماق المفاهيم والقيم الانسانية في الفن والى كل ماعاشته وتعيشه الفنون التشكيلية من تطورات وتحولات . كان انفعاله المستمر دليلا ً واضحا ً على اندماجه في المناخ الابداعي.
في الطريق الذي قطعه سعدي الكعبي وفنه محطات اعتقد ان من الممتع الوقوف عندها لاغناء معلوماتنا ولوضح مراحل التطور في حلقاته المنطقية. ومن هذه المحطات تلك التي بدا بها الكعبي تظاهراته الاسلوبية حين ساهم بمجموعة من لوحاته في معارض جماعية (الانطباعيين) التي كانت تلتف حول الفنان حافظ الدروبي وكان لي في تلك الجماعة والتي كان ينضم اليها الفنان علاء حسين بشير، رأي يتعلق بالنسبة. فقد وجدت العلاقة بين اساليب اعضائها وبين الانطباعية وفلسفتها غير موجودة او انها موجودة بنسبة تكاد لاتذكر. بل ان القسم الاكبر من فناني هذه الجماعة كان يمارس أسلوبا ً قريبا ً جدا ً من التكعيبية. والمهم ذكره هنا هو التفرد والذهاب في منطلقات اسلوبية متميزة. وكان الكعبي آنذاك يعتمد الخط والسطح الملون في جو رومانتيكي مأساوي يجد العتمة آفاقه المعبرة عن الاسرار . بينما يضل الخط عنصر الحركة الاساس، عنصر الربط بين الكتل والسطوح والفراغات. وكانت المواضيع التي يعالجها والتي يستوحيها من البيئة الاجتماعية والجغرافية التي يعيش فيها تهبه الكثير من حرية الاختزال التي تعفيه من تفاصيل التشريح الاكاديمي والمنظور الواقعي والقواعد التقليدية في التشكيل الجمالي. في تلك المرحلة(مرحلة الخمسينات والستينات) كان اسلوب الكعبي يتأرجح بين التعبيرية والتكعيبية والتجريدية مع اعتماد خفي على الرمز. وكل ذلك كان متصلا ً اتصالاً عضويا ً بالشكل ، اكثر من صلته بالمضمون وهنا أود ان اشير الى الدور الكبير الذي يلعبه لالختزال في فن الكعبي.
ويظل الموضوع بصورة عامة منطلقا ً من الريف ومناخه الطبيعي والانساني. ولكن عملية التبسيط والاختزال تدفع في الغالب الى تكثيف المفهوم وتحميل العنصر التشكيلي مهمة التعبير المضاعف ليصبح غموضه سببا ً منطقيا ً للالتجاء الى القيمة الجمالية الخالصة. وهذا يؤدي لاتخاذ الاشكال طابعا خاصا ً يكمن فيه سر الغنى وأحيانا ً الازدواجيات في التعبير التشكيلي. لكن هذا لايتحقق الا عبر أبعاد رياضية تخترق فضائية اللوحة في مختلف الاتجاهات . ومن هذه النقطة تبرز في الفضائية امكانية احتضان مايتزاحم في التكوين من عناصر ورموز. على ان هذا يضل رهن الرؤية العامة ويصبح أحيانا ً مجرد اضافات تزخرف الموضوع وتعطيع ليونته من خلال اللون والتقنية والتجانس.
وفي مثل هذا الصراع والتشابك بين العناصر التاليفية يصبح من المستحسن تدخل قيم هندسية شفافة تعمل على تقسيط ثقل بعض الاجزاء. وبهذا يتحقق التوازن. هذا هو الانطباع النقدي الذي ظل في ذاكرتي عن اعمال سعدي الكعبي في تلك المرحلة. لكن الحركة والحياة ظلت تدفع بتلك الاعمال الى مراحل اخرى تتجدد رغم انها صارت اقل ميلا ً الى الانقلاب والتمرد على المنطلقات الاساسية واصبح التجدد يتحقق خصوصا ً في أغناء الموضوع ةتكثيف القيم العبيرية في المضمون. لكن هذا بالذات دفع ريشة الفنان الى نوع أخر من التجربة التشكيلية للمفاهيم، فبدأ عهد ابداعي جديد أخر وهنا، هنا نرى كيف ان التناقض قد تحقق عند سعدي الكعبي بطريقة يقبلها الذوق على صعيد المفهوم الجمالي المعاصر، ويفرضها واقع البيئة من المضمون الملتزم. وليس اروع من الفن (كل الفنون) مجالا لتعايش المتناقضات ، فهو وحده القادر على خلق الامكانيات التعبيرية ذات المعاني والدلالات المتعددة.
تابع المزيد …
الرؤيا المتفردة
وظهرت من بين كل ذلك الزخم الابداعي ، وحتى عبر بعض فترات القلق والتردد، أعمال تلمسنا فيها الجديد في نقطتين هما:
الابتعاد، بالاستعانة بالرمز والتشذيب عن الرؤيا الواقعية واللجوء الى الصياغة الماهرة والتفرد في التنغيم اللوني . لكن لابد من الاشارة كذلك الى تقييم جديد للعلاقة بين الكتلة والفضاء ، فقد رأينا الكتلة تتحرك عبر المساحات في اللوحة بحرية تكاد تكون منفلتة لولا الالتزام بالتوازن الذي يأتي عن طريق اللون والخط والروابط التشكيلية التي يلتقطها حس الفنان في لحظة العمل الابداعي.
في غمار هذا نجد سعدي الكعبي مغمورا ً بحماس البحث عن الهوية الشخصية وعن الاسلوب الذي يستطيع قولبة رؤيه الفنية فيه ليصبح له طابعه الخاص الذي لاشبيه له. وظل يبحث عن هذا الهاجس حتى بعد أن تحقق له. وهذا دون شك رد فعل طبيعي للحرص على البقاء امينا ً على صدق التعبير في ظروف الالتزام بالمضمون، ةعدم التفريض بالنتائج الفنية الخالصة التي امضى الفنان كل وجوده من اجل الوصول اليها. لذلك نرى سعدي الكعبي يعاني نفس ضروف الصراع الابداعي امام كل لوحة جديدة امام كل موضوع جديد. ويظل من خلال التعامل الجاد والمثابرة على التحدي التقني، يطيل البحث متغلغلا الى اعماق الحياة المحيطة به كوسيلة للذهاب الى الافاق التي يريدها. في مثل هذه الحالة ياتي الشكل المجرد أو الذي يسير في ركاب التجرد كأفضل جواب. لكن كيف كان تاثير هذا بالوقت الذي ياتي به سعدي الكعبي الى لوحته الغذراء وهو مثقل بالافكار والمفاهيم التي تتخذ من الانسان المثل الاعلى؟..
الذي يتامل في مسيرة انتاج الكعبي حسب تسلسلها الزمني يكتشف ان لجوءه الى الشكل التجريدي كاد ان يبعده عن القيم الانسانية وعن مشاكل الحياة التي تحيط به. ويتمثل هذا بظهور المساحات ذات الحركة الحية ببعض الاشكال الرامزة للانسان- انسانه الغامض الذي يشبه في هيئته ذلك الوجود الحي الذي نراه يترجح تحت عدسة الميكروسكوب . ومع ذلك فهو انسان برأس واكتاف يعبر عن حضور بشري يتكيء عليه الفنان في التعبير عن مضمونه الذي يريده جامعا ً لكل عناصر الصراع الذي يتحرك في أعماقه.
وقد ساعد هذا الشكل الرمزي للانسان على تخفيف يبوسة الاشكال الهندسية، ودفعها لان تتداخل احيانا ً في بعضها البعد أو تلتجيء للاختفاء وراء هلات مدورة تملؤها الرموز، فأصبحت بفضل الخطوط العريضة الناتئة ذات شفافية تدمجها احيانا في الحركة العامة لفضائية اللوحة وعنصرا ً مؤثرا ً في الاصطحاب اللوني لها.
لم يكتف عدي الكعبي بمتابعة مسيرته في خلق الاشكال التجريدية التي أوصلته اليها بحوثه، لانه كان مرتبطا ً بالكثير من الوشائج الحياتية التي تهمه وتتصل بآماله وطموحاته . وكان ذلك يفرض عليه احيانا التفكير بالعودة الى نماذج واقعية للانسان وللحياة، تتنفس خارج رئة القيم التشكيلية. ومع ذلك فانه لم يحاول الرجوع الى مثل تلك الواقعية التي لم يعد قريباً منها.
تابع المزيد …

الصحراء
وعاش الفنان فترة من الصمت.
ومرت الايام بألوانها المتفاوتة. وكان ذلك الصمت كان غربالا ً لها. وبرزت الصحراء، في ضروف اخرى ، ملهما جديدا ً للكعبي. وكانت صحراء الجزيرة العربية التي عاش بها بضع سنوات من العوامل الايجابية التي ساعدته أن يتغلغل الى أعماق الحقيقة التي بحث عنها من خلال واقع حياتي معين واقع مليء بأصداء المأساة التي يعيشها البشر. لكن المأساة تظهر في لوحاته نظيفة صافية صعيدها البساطة وركائزها تقاليد وهبتها الطبيعة للانسان في وحدته التي تظل تسير به نحو ذلك الهدف الذي يقصده مهما ابتعد مادامت الشمس تغذيه بالنور: وينتقل الفنان من تكوين الى تكوين ومن مناخ فني الى مناخ آخر ومن منطلق الى آخر عبر مادة فنية هيأتها لمسته هو، وكأنها جزء لايتجزأ من العمل الفني الذي يبدا بالقماشة التي يقوم بأعدادها هو قبل غمس فرشته باللون الذي هوالآخر لا يسلم من لمساته. وهل هذا غير طبيعي بالنسبة لفنان يشعر بمسؤوليته الابداعية متكاملة.
وهكذا وانت تتابع سعدي الكعبي، تحس العطش يملأ اجواءه . وهكذا هو يركض أبدا ً نحو الواحة الوارفة الظل . ولكن ذاكرته التشكيلية ظلت عبر سنوات طويلة، وتستمر اليوم أيضا تحتفظ بذلك الانغمار اللوني الذي اوحته له الصحراء، صحراء الحياة مثل صحراء الطبيعة التي عاش فيها اهم حالته الانسانية.
وتظل الخيمة، ويظل التراب ويظل البدو يسكنون لوحات الكعبي التي فقدت تلك الالوان المتباينة والمتعددة التي عرفناها في بدايته. وتضيع من فضائية لوحاته لمسات الفرشاة الممسوحة التي ظلت لمدة طويلة انطباعية في اغنائها وفي تجاورها، كما تضيع الخطوط الملونة التي كانت تحدد السطوح مثلما كنا نرى في لوحات فترة الستينات. ويسود صمت الصحراء الوبري.
هل قلت صمت؟.. بل عليه ان اقول التأمل. ذلك التأمل الذي نقله الكعبي بريشته من صمت الرمال. لكن هل الصحراء هي التي رسمها سعدي الكعبي بهذه النفسانية الراكدة الكئيبة؟..لا .
ان صحراء سعدي الكعبي. انها تجربة الكعبي الفنية التي جاءت عبر تجربته في الحياة. حتى لوحة(عرس في الاهوار) التي تذكرنا ببعض المنحوتات الجدارية الآشورية ، حتى هذه اللوحة تشعرك بعطش وجفاف الصحراء.
في المجموعة التي اريد ان اسميها (صحراوية) تبدلت عند الكعبي كثير من الاصول التشكيلية.. الإنشاء ارتباطات الكتل قيمة الخط التعبيرية دور اللون في التوازن وفي التعبير الالتزام التقني الذي كان يعتمد القواعد التكعيبية (ولو من طرف خفي احيانا ً) .. وبعد كل هذا دور الانسان في مضمون اللوحة كل هذه الأمور اصابها شيء من التغيير أو التطور او التحول.
فاالإنشاء صار اكثر مركزية بسبب الشكل الذي يمثل الخيمة او الخيام متجمعة، والكتل صار لها نوع من الاستقلال بحيث اصبح ارتباطها يتكامل مع بقية اجزاء اللوحة بصورة اكثر تجريدا ً.
اما الخط فأنه اصبح اهم حضورا ً وتأثيرا ً لافي وظيفة الربط فحسب بل في عملية تحرير الفضائيات الجزئية المتحركة عبر العناصر المرسومة وفي دوره المركزي بصورة عامة. واللون هو الاخر تحولت وظيفته حيث تداخل وتفاعل مع التراب اللذي احرقته الشمس فضاع منه بريقه ليزداد عمقا ً في التاثير وفي التعبير. على ان مساحة النور في اللوحة صارت اكثر اشراقا ً وشملت وظيفتها التاليفية كل أفاقها.
ولم تاتي هذه المرحلة في فن سعدي الكعبي رغبة عابرة او عن طريق الصدفة. بل هي حلقة في سلسلة التطور الاسلوبي له. ولو تذكرنا تجربته القديمة التي حقق خلالها لوحات رسم فيها بعض الحيوانات (الجاموس والبقر) وكذلك اجواء الريف في الجنوب والاهوار، لفهمنا انها كانت تجربة هامة تظهر فيها ميل الفنان لإضافة العمق كبعد ثالث في اللوحة عن طريق أغناء مادة بعض عناصرها وخاصة الخطوط.

تأملات في الانسان
ومثلما تكبر تجربة الكعبي الفنية الخالصة من خلال مثابرته على العمل وعلى مواصلة المسيرة الصياغية، تكبر تجربته في الحياة ويثقل كاهله بأعباء طموحاته الشخصية التي تحتل ودوده الداخلي وكذلك تتطور طبعا. وبتأثير ذلك ، ارتباطاته وعلاقاته بالبيئة وبالآخرين . ومن هنا نرى انبثاقه لا اريد أن اسميها جديدة لكنها دون شك نقلة هامة جدا ً وهي انه ثبت أصوليات وقواعد خاصة به استطاع بها ان يجعل تجربته تتحدد بمنطلق اصيل ، كما حقق بها امرين في وقت واحد هما:
والالتزام الفكري والانساني من خلال الرؤيا الرمزية للوجود من خلال العذاب الذي يخترق هذا الوجود والألتزام الفني ضمن الطابع الشخصي المميز.((هذا سعدي الكعبي)). تقولها وانت تمر من امام اي لوحة من لوحاته دون تردد. ولكنك ان اردت الوقوف طويلاً امام لوحاته الاخيرة فانك تصبح امام امرين : فأما ان تتعب نفسك قليلا ً وتقتحم عالمه لتستمع صيحة الانسان وهو يثور ويتحرك متمسكا ً بكل ولتشاركه تأمله في الحياة والإنسان وما يحيط بهذا وذاك من أحداث واحوال. او انك تظل بعيداً بعض الشيء عن الحقيقة التي تنبض بها اعماقه فنا ً وفي هذه المرحلة التي اعتقد انها صارت قريبة جدا ً من التكامل وبلغت في حيوتها ما يتوخى منها النضوج (واقول هذا بنفسية من يأمل الكثير من سعدي الكعبي).
استلهام الخط العربي
ان كل العناصر التي اغنت تجارب هذا الفنان لم تحجب القيم تملأ الفضاء من حوله عنه اشاعات التجارب الأخرى وخاصة تلك التي تتعلق باستلهام الكتابة والخط العربي. وكان الكعبي قد اكتشف في هذا التيار ينبوعاً رائعا ً ينسجم مع فنه بعد ان استتب له كل المقومات الذاتية التي ترفعه الى مستوى الاصالة والتميز . ألا ان معالجة الكعبي لفكر استيحاء الخط في فنه التشكيلي برزت بصورة تدريجية على شكل وحدات زخرفية ذات هدف اغنائي ثم تطور حضور الحروف والكلمات في لوحات سعدي الكعبي حتى أصبحت تظهر في افايز تقطع اللوحة أفقيا ً او عموديا ً. ثم ظهرت داخل اشكال هندسية مختلفة متشابكة لوحدها عبر تقنية فنية خاصة بالكعبي. وبعد فترة التجارب والبحوث في هذا المنطلق، وجد الفنان في الحرف معينا ً غنياً يروي عطشه التعبيري عندما يريد اللجوء الى التجرد. والحرف تجرد عبر المعنى. ولابد هنا من التركيز على نقطة مهمة هي ان الكعبي لم يستخدم الخط والكتابة العربية في لوحاته كحشورات تزيينية يستعين بها لملأ الفراغات وتحقيق التوازن التشكيلي، على حساب المضمون او القيمة الجمالية المعبرة. انه على العكس من هذا اعطى لهذا النوع من الاستلهام نوعا ً من الهيبة والتقديس خصوصا ً حين نجده في بعض لوحاته يكتفي بالتقطيعات التي تملؤها الكتابات وتعترضها الحروف في جو تشكيلي رفيع المستوى، مع ذلك فأن استلهام الحرف عند الكعبي لايفرض عليه الاختناق في منطلقه كقدر محتوم. وذلك لان سليقة هذا الفنان اعتادت الحرية المطلقة في التعبير وهناك لوحات تتجاوز زمنيا ً مع أخرى تستلهم الحرف، وهي خالية منه على ان من المفيد هنا ان اذكر ان طريقة الكعبي في استلهام الكتلة تظل متصلة برغبته في الاغناء المزدوج ، حيث يتحقق التواصل التشكيلي الخالص مع المضمون اللغوي الذي ينبعث عبر جمالية التخريم الحروفي في اللوحة . وهذا يختلف جوهريا ً عن الاسلوب والفكرة الاساسية التي كان لي شخصيا ً شرف ممارستها منذ عشرات السنين حيث ينتقل الحرف من حالته اللغوية الصوتية الى قيمة ورؤية تشكيلية صرفة، وحيث يكون في متناول الفنان ان يتعامل مع الكتابة والحرف بكل الحرية التي تنسجم مع اسلوبه حتى في حاله ابعاد الحرف عن مدلولاته اللغوية الصوتية.

اما سعدي الكعبي فهو لايذهب مع هذا المنطلق الى حد ان قيمة الخط في تحديد الاشكال الانسانية وغيرها، هي ذاتها تصبح اقرب الى الكتابة. وهو يكتب الؤى والمعاني معتمدا ً على التناسق وبأغناء المادة التشكيلية والوصول بها الى نوع جديد من الشاعرية والتنغيم الموسيقي. وفي كل هذا نجد متعة لاحد لها عبر الاصغاء الحسي لذلك الاصطحاب النتجانس بين العناصر المرسومة(الاشكال الانسانية الافاريز الهندسية، الدوائر، الاشكال المعمارية، الطبيعة في الصحراء، الخ..) وبين الحروف المكتوبة عبرها او المجاورة لها . وفي هذا المنحى نرى تعلق الفنان بالمعاني وبالعبر التي تأتي في اللوحات رموزا ً لابد منها لخلق التوازن بين الفكرية والعقلانية والقيم الحسية والعاطفية. كما انها تقوم احيانا ً بوظيفة التعويض مستعينة بالتحويل الشكلي او اللوني، عن العناصر المباشرة التي تثقل التكوين في اللوحات الاخيرة التي حققها سعدي الكعبي نجد ان الكتابات تتخذ فيها موقع الصدى امام التكوينات الهندسية والاشخاص وغير ذلك مما وصل الى حد كبير من الاختزال والبساطة. ولكن هذا الصدى يظل كذلك عنصرا ً ايجابيا ً للموازنة بين القيم الروحية والرمزية التي تغني المضمون وتكثيف مدلولاته ، وبين القيم الفنية والتشكيلية الصافية. والتنوع في اعمال الكعبي الفنية كبير، لاشك في ذلك. ويمكن ان يستشف المتفحص في تلك الاعمال منذ لوحة (مغتاظة) ومشابهاتها ذلك الجو الدرامي المشبع بالنفس الشعبي وحتى لوحات الصحراء التي يظل يعيش فيها العطش لونا ً وشكلا ً ثم حتى جداريات بناية وقصر الضيافة والمطار وفندق بابل، وأخر الاعمال، أن المدار المركزي فيها هو الانسان، الانسان في بيئته الحياتية النتحركة بين المتناقضات وفي كل الاعمال تتبين أهمية الموقف ذلك الأمر المهم في حياة الفنان المعاصر. فالموقف من المجتمع، ومن البيئة السياسية، ومن المناخ الاقتصادي ومن الثقافة هذا الموقف هو الذي يضع للفنان ركائز تعامله مع الاسلوب الابداعي الذي يختاره ويملي عليه احيانا ً بعض مواصفات صياغته. لان الانتاج الابداعي يخضع بطبيعة الامر للرؤية التي يوجبها ذلك الموقف الذي يفرض بدوره روح الالتزام . وبعد فسعدي الكعبي فنان تشكيلي ملتزم والالتزام عنده مركب فهو إلتزام اسلوبي وتقني لكنه اجتماعي وسياسي وقومي وديني.
وكل هذه الالتزامات تصبح عند الفنان الاصيل المخلص لفنه والصادق في ابداعه وتعبيره ، التزاما ً واحدا ً، أو دعني اقول قوة ابداعية متجانسة العناصر.
وإذا اردنا ان نضع كل ماأوردناه في هذا التقديم النقدي للفنان سعدي الكعبي في المدار الزمكاني لحياته، فأننا لابد لنا من العودة الى عام 1937 حيث ولد في النجف الاشرف لنتابعه بعدئذ في شوارع هذه المدينة المقدسة صبيا ً يتحرك. مع كل ماهو حوله يتنفس تناقضات الحياة في مراحل تتابعت عبر العذاب والطموح والتمرحل بين الفشل والنجاح. لكن ذلك الصبي اكتشف طريقا ً في الحياة يملؤه النور هي طريق الابداع الفني التي سار عليها درسا ً وصراعا ً وابتكارا ً ليجد نفسه يوما ً امام الجمهور مسؤولا عما يعمل وعما يقول باللون والشكل والتعبير والتشكيلي الذي يصبح اليوم جزءا ً من التراث الحضاري لعراقنا المعاصر.
جميل حمودي
باريس 30 أيلول 1986

المصدر (موقع الفنان):

saadialkaabi.com/press01.html
Crritical analyzing study for saadi al kaabi’s works.
Contemporary Artist born in Najaf/Iraq held many solo exhibitions and participated in several exhibitions in Baghdad, Paris, Rome, new York, Moscow, Stockholm, Berlin, Prague, Beijing, Ankara, and all the Arabic countries.
Education:
Diploma of fine art in 1960, Baghdad-Iraq.
Participated in the following exhibitions and festivals:
1998 The international festival of plastic arts and graphics, Mouscron, Belgium.
1990 The 3rd international European Asia biennale – Ankara, Turkey.
1986 The first biennale of Baghdad and the second in 1988, Baghdad – Iraq.
1986 The 3rd biennial of Dacca, Bangladesh.
1986 The first Cairo Biennial, Egypt.
1982 The 5th Triennial of India, New Delhi – India.
1981 Kuwait Biennial – Kuwait.
1980 Cagnes – sur – mer, festival, France.
1976 Venice Biennial, Italy.
Awarded the following prizes:
1998 Award of Excellence from the international festival of graphics (MUSCRON BELGIUM).
1990 The 3rd Award of the 3rd international European Asia biennale – Ankara, Turkey.
1986 The golden Prize of Dacca biennale.
1982 The Silver prize of the 5th triennial of India.
1981 The golden Prize of Kuwaiti biennale.
1980 The Honorable Award of Cagnes – sur – mer festival, France.

His paintings are displayed at the following museums:
New Delhi, Prague, Lisbon, Stockholm, Baghdad, Amman, and Doha.
Career Experience:
1981 – 1985 / Director of the theatre production in the cinema and theatre foundation and theatre and he designed the decoration of many plays and movies. 1985 – 1988 / Director of The Artistic Culture in the ministry of Culture.
1985 – 1987 / founder & head of The Iraqi plastic art club.
1986 – 1990 / he was elected as a President of the Iraqi plastic artists association.
1999 / he was chosen as a member of the international jury of Dacca biennale – Bangladesh.
2004 / he was chosen as a member of the jury of Islamic art biennale Tehran – Iran.
He also has a daughter and son engaged in the art field
Mohanad Al Kaabi
Hind Al Kaabi
Critical analyzing study for saadi al kaabi’s works.

saadi alkaabi

سعدي الكعبي ولد في النجف- العراق 1937 أقام العديد من المعارض الشخصية والمشتركة في بغداد – باريس- روما- نيورك- موسكو- ستوكهولم- لندن- براغ- بكين- أنقرة- وارشو وكافة العواصم العربية شارك في المعارض الدولية التالية:

1976 بينالي فينيسيا العالمي- أيطاليا
1980 مهرجان كان سورمير العلمي- فرنسا
1981 بينالي الكويت العربي- الكويت
1982 ترنالي الهند العالمي- نيودلهي- الهند
1986 بينالي القاهرة العالمي الأول- مصر
1986 بينالي دكا الآسيوي الثالث- بنجلاديش
1986 مهرجان بغداد العالمي الأول، والثاني 1988 – العراق
1990 بينالي أنقرة الآسيوي الأوربي الثالث- تركيا
1998 المهرجان العالمي للفنون التشكيلية والكرافيك (موسكرون- بلجيكا)
حائز على الجوائز التالية:
1980 جائزة تقديرية مهرجان كان سورمير العالمي- فرنسا
1981 جائزة الشراع الذهبي بينالي الكويت العربي
1982 الجائزة الأولى ترينالي الهند العالمي
1986 الميدالية الذهبية- بينالي دكا الآسوي
1990 جائزة بينالي أنقرة الآسوي- الأوربي الثالث
1998 شهادة التميز في الكرافيك من المهرجان العالمي للفنون التشكيلية والكرافيك (موسكرون- بلجيكا)
له أعمال فنية في المتاحف العالمية التالية:
بغداد- لشبونة- ستوكهولم- نيوديلهي- براغ- عمان
المجال العملي
1960 – 1966 درس الفن في المدارس الثانوية في العراق
1966 – 1970 درس الفن ومديرا ً لقسم الفنون التشكيلية في معهد التربية الفنية في الرياض- السعودية
1981 – 1985 شغل وظيفة مدير للانتاج المسرحي في مؤسسة السينما والمسرح وصمم العديد من ديكورات المسرحيات ومديرا ً فنيا ً ومصمم ديكور لفلمي المنفذون والبيت.
1985 – 1988 شغل وظيفة مدير للثقافة الفنية في وزارة الثقافة.
1985 – 1987 مؤسس ورئيس لنادي التشكيليين العراقيين.
1996 – 1990 أنتخب رئيسا ً لجمعية الفنانيين التشكيليين العراقييين.
1990 أختير عضوا ً للجنة التحكيم الدولية لبنالي دكا الآسوي- بنجلادش.
1994 أختير عضوا ً للجنة التحكيم لبنالي الفن ألأسلامي – طهران.
من اولاده في المجال الفنون: مهند الكعبي وهند الكعبي
دراسة تحليلية نقدية للأعمال وحياة سعدي الكعبي الفنية.