قبل أن نبدأ تصوير اللوحة ماذا نفعل؟ بدون شك تتعدد الطرق وتختلف من فنان إلى آخر، ومن موضوع إلى موضوع, ومن غاية الفنان في كل لوحة وكل مرحلة من إنتاجه الفني.
ولعل أبرز تقنيات ما قبل البدء بالتصوير هو التأمل، يحتاج الفنان ضمن أي مجال في الفن إلى نوعين من التأمل: تأمل مرحلي وتأمل آني، أما المرحلي فيتمثل في الصفاء الذهني والجسدي، حتى نستطيع التفرغ للشروع في عمل فني ما لا بد من أن نحدد مسبقاً أسلوباً في طرح الموضوع، والذي قد يكون مستوحىً من عناصر الطبيعة المرئية، أو من رموزها المجردة،
من الطبيعي ألا نتصور اللوحة بشكلها النهائي، وقد نتفاجأ بمدى التغيير الذي قد يطرأ على موضوع اللوحة أو تقنيتها أو توزيع عناصرها التشكيلية، ولكن عادة يمتلك الفنان رؤيا مسبقة فيما إذا كان يريد التصوير من وحي الواقع يحدد فيها رغبته في تمثيل الواقع كما هو بما يتضمنه من بساطة وعفوية المجريات بانطباعيتها أو بفظاظتها أو بخياليتها، أو حتى بالسعي لتجسيد مثالية ما في الرؤية والفكرة، يمكن أن نجزء عناصر الطبيعة المرئية إلى الجوامد والمنظر الطبيعي والكائنات الحية وبخاصة الإنسان، هنا لا بد للمصور الاستعداد الذهني والمراني في أسس بناء اللوحة التقليدية من تشريح ولون وضوء ومنظور ..إلخ،
ومن الطبيعي أن يطغى أساس على حساب آخر، كما طغى التشريح والمنظور في الفن النهضوي الذهبي في أوربا ثم طغت الإضاءة المتباينة في الباروك ثم الإضاءة المنتشرة في الروكوكو واللون، ثم يخبو اللون مجددا مع الكلاسيكية الجديدة، ثم يبرز مجدداً في الرومانسية حتى ليظن أنه أخذ مجده في المدرسة الانطباعية والانطباعية الجديدة،
إلا أن مع الاتجاه التعبيري وما بعده أصبح الواقع بما يحمل من عناصر مرئية حجة للتعبير عن مكنونات النفس وأصبح اللون وسيلة وغاية في نفس الوقت، وأصبح الفنان منتقياً لما يريد تأمله، فالتعبيريون يتأملون مأساوية المعيشة والشعور الإنساني فاتخذوا السواد واللون الصادم والخط المتكسر الانفعالي، والوحشيون تأملوا رغد الحياة واللون الصارخ المفعم بالحياة، وتأمل التكعيبيون الفراغ والكتل محطمين التشريح والمنظور، وتأمل المستقبليون الآلة وتطور الحياة الديناميكي وتسارع الحركة، وتأمل التفوقيون فضاء سطح اللوحة وتلخيص كل شيء مع الدقة في التنفيذ، الدادائيون تأملوا في ألا يتقنوا شيئاً، عدا الاستهزاء في ثقافة دولهم الفنية والإنسانية، بل من مخالفات مبدأ هذه المدرسة الاستعداد المسبق أو التأمل فيما قد تكون عليه اللوحة الفنية، ثم أوحي للسرياليين التأمل في العقل الباطن وخبايا النفس البشرية بعشوائيتها ولا منطقيتها، فتنوعت أساليبهم بين مستغل لمهارته بإتقان النسب في تحوير النسب، ومنهم من أتقن التلوين فاخترع توزيعاً جديداً لتشكيل الملامس، كل هذا وكانت لا تزال عملية التأمل مدعمة بالتحضيرات للوحة من خلال دراسات خطية ولونية،
ورغم أن طرق الإعداد المسبق هذه لاتزال مستخدمة حتى يومنا هذا، إلا أن الرموز المجردة من خط ونقطة ومساحة ولطخة ولصاقة، والتي برزت كغاية في أسلوب المدرسة التعبيرية التجريدية، لم تعد بحاجة للتحضير والدراسات المسبقة، فهاهو جاكسون بولوك يفرد اللوحة على الأرض ويسيح الألوان والخطوط حسب ما يمليه عليه فراغ اللوحة، دامجاً التأمل المرحلي بالتأمل الآني الذي لم يتطلب سوى سحب العصا من علبة الدهان أو ثقبها والتنقل فوق اللوحة، رغم اختلاف النتيجة إلا أن هذا التفاعل يذكرنا بفن تصوير الشرق الأقصى، وكذلك الخط العربي، فترى الفنان هنا يشتد تركيزه حتى تحسبه يصلي وهو ممسك أدواته متمعن في لوحته، وهذا التركيز هو المتطلب في التأمل اللحظي،
وفي عودة لممارسة الفنان الدارس، وأقصد بالدارس هنا هو الذي يعتمد على إبراز أسس العمل التشكيلي التقليدية، نرى الفنان يتأمل في عناصر الطبيعة قائساً نسبها وتناسبها، محدداً مصادر الضوء والظل، ونقاط الفرار، يتأمل الحركات والسكنات في الأجسام، حتى الطزاجة والجفاف، والقوة والضعف، حتى يأخذ من وحي رؤيته أسباباً ليصنع من لوحته نافذة لعالم آخر، أما اللاتقليديين والمعروفين بفناني ما بعد الحداثة فيصنعون لك من اللوحة بحد ذاتها عالماً آخر، ومهما فصلنا أو أوجزنا سيكون من العبث الخوض في التصنيف والتوصيف في الفصل بين أساليب وغايات فن التصوير، فعملية الإنتاج الفني والتحضير والتأمل ستظل حاجة للفنانين، والنتاج الفني حاجة لكل الناس.
Tags Ismail Alshykhooni إسماعيل الشيخوني