الفنان مصطفى مشعل


عاشق الجسد والتراب والضياء

رحيل مصطفى مشعل (1944م _ 2010م)

بقلم: محمد كمال

بعد رحلة طويلة مع الإبداع فى صمت ، والإنجاز فى هدوء ، رحل عن عالمنا مؤخراً الفنان الكبير مصطفى مشعل ( 1944م _ 2010م ) ، حيث سطر لنفسه ملمحاً فنياً متفرداً ، منذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1967م ، وحتى وفاته منذ أيام قليلة ، وربما كانت إقامة مصطفى الدائمة فى طنطا ذات أثر بيئى واضح ، كمعظم بلاد الدلتا التى تتميز بخضار البساط النباتى ، وطراوة المهد الطينى ، ورقرقة الشرايين النيلية ، وبساطة الوجوه البشرية ، وهدوء الطقس اليومى ، وهى تركيبة تسمح بعمق التأمل الفكرى ، واستيعاب المشهد البصرى .. ورغم أن مشعل قد عاش فى دول أخرى ، مثل الجزائر التى مارس فيها تدريس التربية الفنية لمدة أربع سنوات من 1977م إلى 1981م.

إضافة إلى بعض مغامرات أخرى عارضة فى المغرب وفرنسا والأقصر ورشيد والعريش ، إلا أنه اختار طنطا كحضانة بصرية ، ساعدته على نمو مشروعه الإبداعى بشكل منطقى ، عبر اتساق بين الرافد البيئى والمصب التصويرى ، وربما ساهم ذلك الإستقرار  الجغرافى فى الوحدة العضوية لتراكيبه الفنية ، من خلال استخدامه لأكثر من خامة ووسيط تقنى ، مثل الرصاص والفحم والألوان الزيتية والباستيلية الطباشيرية ، على أسطح متنوعة ، بين الورق والتوال والخيش والسيلوتيكس .. وقد كان  مصطفى ولعاً بمفرداته إلى درجة التوحد معها ، ثم صهرها عند أعلى درجات الإندماج الوجدانى داخل بوتقة الجسد البشرى ، والأنثوى منه خاصة ، كوعاء تعبيرى رمزى ، كان الفنان يضفر مع نسيجه كل تجليات وهجه الإبداعى .. فقد كان غالباً ما يدفع إلى قاعدة مسطحه التصويرى بجسد أنثوى يبدو كجزع نخلة عفية ، ثم يبدأ فى بناء مشهده بشكل تصاعدى ، من خلال  تراكمات متوالية من أشلاء بشرية تظهر كسعف مترامى الأطراف ، وهو ماكان يجعل تكويناته قريبة من الإيماء الرمزى لحالة من الخصوبة الدافئة ، عبرعلاقة إيحائية بين الأرض والميلاد .. بين الحرث والنسل .. بين النبت والأجنة ، سيما وأنه كان يستخدم اللون البنى بتكثيف متدرج .

فى إشارة لمادة الطين التى تبدأ من اللزوجة إلى اليبوسة ، حتى تتحول إلى التراب الناعم ، وقد كان مشعل يوظف اللون الأبيض لخلق إيقاعات ضوئية غير معلومة المصدر ، تبدو وكأنها نبض نورانى متواتر ، نابع من فيض روحى سيال ، وهو مايظهر مصطفى مشعل فى تصاويره كعاشق للجسد والتراب والضياء .. وربما لعب السطح والخامة هنا دوراً محورياً فى صياغة الصورة عند الفنان ، فمع استخدامه للباستيل الطباشيرى ، كانت حبيبات الورق الخشن تبدو أحياناً كفصوص الطين أو فراكته عندما تلتحف بتدرجات اللون البنى ، وأحياناً أخرى كقطرات ندى الصبح ، وقتما تكتسى باللون الأبيض الناصع ، والذى يحتل موضعاً برزخياً فى تحويل الزخات إلى ماء ، والتراب إلى طين ، والعكس ، إضافة لمسحات الأخضر والأزرق كجسر نباتى ونيلى بين البيئة والمشهد التصويرى .. ونفس الآلية كانت تتكرر مع استخدام مشعل للألوان الزيتية على التوال والخيش وخشب السيلوتيكس المدرن ، عبر جزيئات نسيجهم الناتئة .. لذا فإن المتلقى كان يجول مع تكويناته  بشكل بندولى بين الغريزة الجنسية والشفافية الروحية .. بين الطاقة الجسدية والإنشطارات النورانية ، خاصة وأنه كان يحيط مشارف كتله بخطوط سوداء ، وكأنها حدود فاصلة بين الإنفعالات الإنسانية المختلفة .

وأعتقد أن تمكن مصطفى من تشييد تراكيبه البشرية التصويرية يأتى من درايته الواسعة بالتضاريس التشريحية للجسد الآدمى ، إضافة إلى كونه واحداً من أبرع رسامى الوجوه فى تاريخ الفن المصرى المعاصر .

ورغم أن هذا الفنان يعد من فصيل الكبار ، إلا أن كان بعيداً عن الكعكة المباركة ، عبر تمثيل دولى شحيح ، حيث شارك فى بينالى الإسكندرية الحادى والعشرين عام 2001م ، ثم معرض السلام الدولى الصينى عام 2005م بقاعة الهناجر بالأوبرا ، ليختتم مشواره الإبداعى بملتقى الأقصر الثالث لفن التصوير فى منتصف شهر ديسمبر من عام 2010م .. وفى افتتاح معرض جماعى كان مشاركاً فيه بقاعة قرطبة ، كان وجه مصطفى مشعل واجماً ، وكأنه يودع زملاءه من رفقاء الدرب ، ليرحل فى اليوم التالى مباشرة إلى مستقره الأخير فى حضن نور العرش ، كعاشق للجسد والتراب والضياء .

محمد كمال

مقالى فى جريدة الأهرام _ الخميس _ 30/12/2010م