يعتبر الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي شخصية متميزة في طاقتها الفكرية والإبداعية خصوصاً في تنوع أعماله ومفرداته البصرية المبتكرة وأسلوبه الجميل.كما يعدّ واحداً من أهم الشخصيات تأثيراً في الفن الإفريقي والعربي وذلك من خلال كونه مفكراً وفناناً متمرّساً وايضا اتساع أعماله الفنية التي تطرّق فيها إلى كافة استراتيجيات الرسم جعلت من مشواره الفني نموذجاً مهنياً يقتدي به الكثير من الفنانين التشكيليين، حيث إنه أسهم بشكل أساسي في الحركة الحديثة للفنون البصرية الإفريقية والعربية.
Invalid Displayed Gallery
ان ممارسة الرسم عند الصلحي لا تقتصر على البعد الجمالي العملي وحده بل تتعداها نحو السعي الفكري لتأسيس إشكالية فلسفية حول دور الفنان في مجتمعه. فالناظر إلى أعمال الصلحي القديمة والحديثة يلمس بسهولة أن الرجل لم ينقطع أبداً عن تعلّم التقنيات والأساليب الجديدة واستكشاف الرؤى الإبداعية المخالفة لكل ما عهد عنه في أوقات سابقة. وأهمية الصلحي في مشهد التشكيل السوداني المعاصر إنما تأتّى من طريقة الرجل الرائدة في مقاربة الممارسة الفنية بانتباه نوعي لبعدها الاجتماعي. وهذا أمر لم ينتبه له جيل الرسامين السودانيين الذين سبقوا الصلحي، بل لم ينتبه له نفر كثير من جيل الصلحي نفسه).
ولد إبراهيم الصلحي بمدينة أمدرمان في الخامس من سبتمبر عام 1930م. وفي أمدرمان تلقى تعليمه العام والثانوي إلى أن التحق بمدرسة التصميم في كلية غردون التذكارية، 1948. قضى الصلحي في مدرسة التصميم ثلاث سنوات يدرس الرسم والتلوين ودرّس بها قبل أن يبعث لبريطانيا لمواصلة دراسته في مدرسة سليد للفنون بجامعة لندن في النصف الثاني من الخمسينيات. وبعد أن قضى النصف الأول من الستينيات يدرِّس الرسم والتلوين لطلاب كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم، سافر صلحي لنيويورك لدراسة التصوير الفوتوغرافي لمدة عام في جامعة كولومبيا.
ويحدثا الصلحى عن تلك الفترة قائلا : تبدأ المرحلة بالدراسة والملاحظة بدءاً من مرحلة الخلوة التي بدأت فيها التعلم خطاً، رسماً وزخرفةً علماً بأني بدأت الدراسة في الخلوة وعمري سنتان، ثم جاءت مرحلة الدراسة في نظام التعليم الأساسي وهذه المرحلة مع إنعدام التوجيه والتربية الفنية لم أجد الفرصة للتعبير والتركيز إلا في المرحلة الثانوية حيث وجدت رعاية خاصة من قبل أساتذتي (معلمي التربية الفنية) تلت هذه المرحلة فترة إلتحاقي بمدرسة التصميم بكلية غردون التذكارية وتلك الرعاية الخاصة التي وجدتها أيضاً من قبل أساتذتي ، ثم جاءت مرحلة دراستي بالخارج على أثر إلتحاقي بمدرسة الإسليد(Slade) بجامعة لندن والتي اشتملت على دراسة تاريخ الفنون وعلم المنظور ومشاهدة نماذج حية من الفن الأوربي تتلمذت عليه لعدة سنوات وتمكنت من خلالها استخلاص ما يعينني على التعبير من خلال الصورة. عدت بعدها إلى السودان محاولاً عرض أعمالي على الجمهور السوداني بالخرطوم لتواجهني صدمة أثرت كثيراً على مجرى حياتي كرسام إضطررت معها لإكتشاف ما صعب علي فهمه بحسب عزوف الجمهور عن تذوق ما اكتسبته في الخارج.. وبالبحث أدركت قيمة ما كنت أقرأه منذ صغري من حولي ولم أدرك قيمته الجمالية التي وجدتها في الخط العربي ونماذجه التي وجدت مكاناً لها في البيت السوداني من آيات قرآنية وأشعار وحكم وأمثال تمثل لدى المشاهد السوداني قيماً تصويرية، فعكفت على الإستفادة من الخط العربي بالإضافة إلى الزخرف الأفريقي الذي وجدته ممثلاً في كافة المنقولات البيتية والأثاثات وعموم الحرف والصناعات الشعبية وهنا بدأت مرحلة ما أطلق عليه لاحقاً في أوائل الستينات إسم مدرسة الخرطوم والتي رغم عدم إصدار بيان بها كانت تسعى إلى تكوين أبجدية تصويرية تمثل لوناً جديداً في تكوين الصورة. جاء بعدها الإنتاج مع تبسيط عناصر الصورة شكلاً ولوناً. ثم جاءت فترة عقب أحداثٍ مررت بها(إستضافة الدولة لي بسجن كوبر من 8 سبتمبر1975م إلى 16 مارس 1976م) عقب هذه الفترة إتجهت إلى التركيز على اللون الأسود والأبيض في معالجة الصورة بحثاً عن درجة رمادية واستمرت هذه المرحلة منذ أواخر السبعينات وحتى منتصف التسعينات بعد التوصل إلى غرضي لدرجة لونية رمادية مع الإبقاء على كثافة الأسود ونقاء اللون الأبيض دون مزج بالإضافة إلى تكثيف العامل الدرامي في صنع الصورة وجاءت من خلال هذه الناحية عدة موضوعات أنجزت بها أعمالاً كثيرة يتم تركيبها بتكوينات مفصلة كانت في نظري على غرار نمو عضوي للصورة إذ كان هناك مركزاً يتفرع منه أجزاءاً أخرى تكون الصورة وهذه كانت بالنسبة لي تمثل علاقة الجزء بالكل كما تمثل علاقة الفرد بالمجتمع.
وداخل السجن أتيح لي أن أنفرد بذاتي كثيرا وكانت فترة صاحبتها الكثير من التأملات في ما يتعلق بالنفس وأمور الكون وتصريفه ففي أثناء وجودي بكوبر ظهرت لي أشياء بجلاء في حياتي وبالفعل كانت فترة ترسخت فيها مفاهيم روحية عميقة كان لها التأثير الكبير في تفكيري ونهجي في الحياة إضافة إلى أن مايتعلق بدرجات الأبيض والأسود ودرجات اللون البني له علاقة تقنية بالبحث والتجريب زائداً ما ذكرته عن الطبيعة والبيئة اللونية إذ أن بلادنا تتميز بوجود الشمس الساطعة والمعروف أن الضوء القوي الساطع كشمسنا يسطح الأشياء ولا يعطيك (الفورم) الحقيقي لللأشكال المجسدة حيث ترى فقط الألوان القاتمة كل هذه الأسباب إضافة إلى أن في تقديري الخاص أن كثافة الألوان أو قوس قزحية الألوان لا تعطيك المعنى والعمق الحقيقي للأشياء وكل هذه الأسباب مجتمعة دفعتني لإختزال الألوان في تلك الفترة إلى البحث والتجريب وإكتشاف تلك الدرجات اللونية كما ذكرت. ثم جاءت بعد ذلك فترة حاولت فيها التفرغ للإنتاج الفني جاءتني فيها فكرة النمو على غرار شجرة تمثل الإنسان وقد أخذت بفكرة أو بقصة شجرة الحراز التي حاربت المطر والتي كانت بالنسبة لي بمثابة تفرد الفرد وتميزه على غيره وعدم تابعيته واعتداده بنفسه وذاته. هذه المرحلة بدأت في البداية برسم الشجرة بأسلوب هندسي ثم تطورت بمرور الزمن إلى رسم مجرد أضعه بالمسطرة في خطوط مستقيمة (لا عوج فيها) وملء الفراغ بسنة دقيقة حادة الدقة أوجد بها الدرجة الرمادية في الصورة حيث استعملت فيها ألوان الحبر على ورق مقوى ووجدت في هذه الألوان رونق لم أجده في ألوان الزيت ولفترة عدت مرّة أخرى إلى استخدام ألوان الزيت على القماش لانى في العادة لا أركز على الجانب النفسي فقط ولكن أركز أيضاً وأهتم بالجانب التقني على إيجاد عناصر الصورة إن كانت من ناحية خطية أو غيرها.. الرسم بالخطوط والخطوط العربية، النظر إلى تكوين الصورة نفسها، فالعمل يبدأ من نقطة ثم إلى خط موصل بين نقطتين والشكل المفتوح والشكل المغلق إضافة إلى عنصر التجريد من أشكال المرئيات إلى رمز مجرد يحمل في طياته لفظاً تتكون من الأحرف والكلمات والجمل وبالتالي الصورة الخطية، هناك أيضاً تبسيط الكتلة بالشكل والخط الخارجي الذي يحتوي تعرجاتها وأشكالها المختلفة (شيئ بين الحاجتين) ويكون الخط له فاعلية كبيرة في إعطاء الفكرة التي تمثل الحجم والكتلة.
يقول الصلحي حول توجهاته الجمالية في أعماله الفنية «لقد وصلت أخيراً إلى نتيجة مفادها أن العمل الفني ماهو إلا نقطة انطلاق لذهنية الفرد، وكأنه مرآة عاكسة تعيدنا إلى ذواتنا».
مضيفاً: كنت مهتماً بدراسة الطبيعة ووجوه البشر أكثر من أي شيء آخر،لأن الطبيعة هي التعرف على المكان، ويأتي هذا التعرف عن طريق الملاحظة الدقيقة كي يستطيع الإنسان أن يزاوج في عمله بالشبه الكبير بين ما تراه العين وما تراه البصيرة من الداخل.
و الرسالة التى أحرص على إيصالها من خلال أعمالى الفنية هي ببساطة مخاطبة الذات الأخرى إذ أحاول دائماً أن يكون العمل منطلق فكري يحرك وجدان الآخر لرؤية داخلية حتى يبدع المشاهد ويتجلى أمام نفسه. علماً بأني أؤمن بأن العمل الفني ما هو إلا مركبة تعيد نظر المشاهد إلى داخل نفسه حتى تتفاعل المرئيات التي أقدمها في أعمالي… بمعنى آخر هي مجرد تذكرة موجهة نحو الذات , وعن الإتجاه نحو العالمية يقول إن ما يقدمه الفنان من منطلقه المحلي هو تقديم مختصر يمثل قيمه وأفكاره إلى مجتمع الكل كإضافة جمالية يؤمن بجدواها وأثرها العميق في مجرى التفاعل الجمالي وإضافة مفهوم محلي إلى المائدة العالمية في الفنون الجميلة أو الفنون عامةً كإضافة يؤمن بها الفرد ويؤمن بقيمتها في إثراء حياة البشر.
وعن التغيرات العالمية التي فرضت قوانينها الأدبية والمادية على مكونات الخطاب الفني الجديد للفنان السوداني يقول : في نظري أن الفنان في عصر العولمة أو ما قبلها عليه أن يخاطب ثلاث جهات في آن واحد .. بدءاً بمخاطبة ذاته.. مخاطبة النفس وإلا لم يكن هناك عمل يقال عليه… ويضع الميزان شخصياً إن كان متأثراً بغيره أو نابعاً من ذاته، الجهة الثانية التي يخاطبها الفنان هي الآخرين من حوله وهم أهله وذويه ومواطنيه ومن هم في دائرة وجوده الثقافية، والجهة الثالثة الأخيرة هي مخاطبة الكل حيثما وجد الإنسان. هذه المخاطبات الثلاثة إن كانت في عصر ما قبل العولمة بمكتشفاتها الحديثة أو في عصر العولمة ذاتها بما هو مفروض على الفرد أينما كان بحسب وسائل الإتصال الحديثة وبأنواعها المختلفة بهذا فإني لا أرى غضاضة أو شيئاً جديدا فيما يتعلق بعمليات الأخذ والعطاء والتأثير والتأثر والمهم في الأمر ورغم التغيرات التي حدثت في دائرة المعارف الإنسانية فلا زال الوضع من وجهة نظري كما كان وأن على المبدع أن يقدم إضافة جديدة في مجال عمله إزاء المائدة التشكيلية العالمية والأساس في ذلك أهمية البحث عن الذات (الهوية) ثم الإيمان ومن ثم محاولة التأثير على الآخرين حتى لا يكون الفرد إمعةً ومسخاً مشوهاً يأخذ مما يقدمه غيره بدون حساب لما هو مفيد له يظن معه أنه خاضعاً لثقافةٍ يظن أهلها أنها الكبرى، فعملية التأثر والتأثير كمقارنة بين المحلية والعالمية هي عملية مقلوبة لها وجهان فمن ناحيتنا نعتقد أن ما يخصنا من ثقافة وفنون هو شيئ محلي وهو جزء من كل إزاء العالم من حولنا لذلك نخضع له ناسين أو غافلين عن أن ما بالعالم أيضاً من ثقافات وفنون هي أيضاُ محلية إذا عكسنا منظورنا للأشياء فهم محليون أيضاً إزاء العالم من حولهم (ونحن جزء من هذا العالم) فلماذا نأخذ ونتأثر فقط ولا نؤثر نحن بما نمتلكه من مخزوننا الإبداعي والثقافي .. ولماذا لا يكون لنا تميزنا وتفردنا ( كشجرة الحراز) أمام ما هو حولنا بل بالعكس تماماً ربما كان ما يقدم فيه الكثير مما يساعد ويعين على تطوير قدراتنا الذاتية والتزود بما هو مفيد وهذا كله يخضع في الأساس لفهمنا لأنفسنا (الذات والهوية) والإيمان بها.
وعن رؤية الفنان للربيع العربي الذي تعيشه المجتمعات العربية يقول: إحدى لوحاتي القديمة التي رسمتها منذ سنوات وتعرض الآن في أكبر متاحف بريطانيا بجانب لوحات بيكاسو سميتها «الذي لا مفرّ منه» وهي كانت تنبؤاً حقيقياً لما حدث ويحدث في العالم العربي.
اللوحة عبارة عن يد ضخمة ترمز للشعب الذي يمسك الوطن بيديه لا بيد الحاكم، وهي لوحة تشير للمستقبل بكل تفاصيله، ثم يضيف: لدّي تفاؤل كبير بشأن المستقبل.
عرض صلحي أعماله منذ مطلع الستينيات في كل أنحاء العالم في العديد من المعارض الفردية والجماعية. ومن بين المتاحف التي تقتني أعماله نجد متحف (الفن الحديث) بنيويورك، وبمتحف (المتروبوليتان) بنيويورك، متحف (الفن الأفريقي)، معهد (الإسميث سونيان) بالولايات المتحدة، وبالصالة الوطنية ببرلين وبمتحفين بأستراليا إضافة إلى عدد من جهات الإقتناء الخاص بعدد من الدول الأوربية والأمريكية وأفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة بالسودان .
ذكر الفنان الصلحى فى عدة كتب وهناك مشروع توثيقي قامت به (جامعة كورنيل) بولاية نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2000م. تم من خلاله توثيق شامل وكامل لكافة أعمالي منذ الخمسينات وهنالك كتابين لسيرته الذاتية أولهما باللغة الإنجليزية يشتمل على عدة مراحل مر بها في تجربته التشكيلية والآخر باللغة العربية أيضاً لسيرته الذاتية ضمنتها كثيراً من التفاصيل بحياته في السودان وخارجه تنوي جامعة (كورنيل) أيضاً نشرهما، هنالك كتاب آخر يحتوي على حوار متبادل بينه وبين الفنان ( حسن موسى ) بفرنسا جرى بينهما عبر ثلاثة عشر عاماً وهو باللغة العربية وتعد أيضاً جامعة كورنيل لنشره، هناك أيضاً كتيب يعد له ( فتحي محمد عثمان ) من واقع مقابلة أجراها معه في سنوات مضت، هناك كاتب سوري الأصل كتب عن الفن العربي المعاصر به أيضاً بعض اللمحات عن أعماله، هذا بالإضافة إلى بعض الأوراق التي قدمها عن أعمال له تنشر بفرنسا وألمانيا، أيضاً هناك وفي مجال تاريخ الفن تقدم دراسات عن أعماله في كليات عدد من الجامعات الأمريكية.فهل لديكم مقالات اخرى عن الفنان ابراهيم الصالحى …..