الفنان حامد عبدالله


أشجار تشكيلية باسقة وحياة لا تختلف عن اللوحة

في الخامس والعشرين  من ديسمبر عام 1985 عاد حامد عبدالله  أبو مؤنس وسمير وانيسة  من زوجته الدنماركية الجميلة كرستين  التى تعرف عليها فى المستشفى مند زمن بعيد بعد أنفصاله عن الفنانة تحية حليم التى رفضت الإقامة معه فى باريس فترة طويلة  وعادت بعد ستة أشهر إلى القاهرة تاركه بصمة مهمة فى أعمال عبدالله وأخذت منه بصمات عدة وتعلمت أشياء كثيرة من زوجها  ومعلمها الأشهر الذي عاد الي منزله بعد عناء من رحلة علاجه بمستشفي منربناس من داء السرطان اللعين .

دق جرس تليفون عبدالله وإذا بصوت جورج بهجوري “حمد لله علي سلامتك يا عم حامد أنا كنت جاي وجايب معى مني زعلوك  لزياراتك”
حامد عبدالله بروح المصري الصعيدي يرد علي بهجوريٍِِ” انت تجيب معك مني زعلوك دي مني ست لكن تجيب معاها عشرة  رجال مثلك ”
وتنتهى المكالمة مع الضحك الذي يغلف غرفة الفنان المحترم سيد اللون ورائد التجديد  وحامل رأية الفكر والفسلفه الحرة عمدة  المصرين بباريس وسيد الكرم رمز الحكمة القوة المعارضة والشموخ  فى هذا الزمن من عمر المحترف المصرى والعربي.
وبعد أسبوع  تقريباً من عودة الفنان لمنزله  جلست مني زعلوك رحمها الله تدير قرص التليفون تبلغ الفنانين العرب تهاني رأس  السنة وتدعوهم لقضائه فى رحاب منزل حامد عبدالله ، يوافق الجميع ويتصلون بالتليفون قبل الذهاب ليلاً لمنزل عبدالله  التليفون  يرن مرات عديدة ثم يأتى صوت مؤنس  حامد عبدالله في حزن شديد” صعب عليكم يا أصدقاء أبي قضاء رأس هنا في منزلنا لقد  رحل أبى أختار يوم الميلاد ليحتفل  علي طريقته الخاصة ”
يغلف الحزن قلوب العرب في باريس والفرنسيين.

ستظل الأشجار واقفة

حامد عبدالله هو سيد اللون ومعلم الأجيال هو أكاديمية الفنون التى واجهت كلية فنون الزمالك هو الرائد الذي خرج من عباءة  الكثيرين من تحية حليم والنجدى وغيرهم هو مدرسة الأفنجارد والتاريخ المشرف والرمز المشرق.
في أحد الأيام وصل حامد عبدالله خطاب من هيئة اليونسكو يخبره بإختياره رئيساً للجنة الفنون التشكيلية في المنظمة مزق الخطاب  وصمت بعد أن عرف إن هناك عضواً من عصابات الإحتلال داخل اللجنة رافضاً التفاوض أو مشاركة عدو فى شئ وقائلا عبارته  الشهيرة مواقف الرجل المحترم تحسب عليه من البداية وليس فى المحطات التالية هذا موقف حامد عبدالله الكبير الذى تسرب  السرطان إلى دمه يوم توقيع اتفاقية كامب ديفيد.

النشأة

ولد حامد عبدالله في عام 1917 بحي منيل الروضة وتعود أسرته إلي أصول عريقة في صعيد مصر حضر والده و والدته إلي  المنيل تلك الأرض الواسعة علي ضفاف نيل مصر قبل أن تتحول إلي واحدة من أكبر أحياء القاهرة الاَن ، درس في مدرسة  الصنايع قسم زخرفة الحديد بدأ يرسم الطبيعة كما هي دون حذف أو إضافة لكنه كان يرسم بوعي تقني أبهر من حوله فهو يرسم ما  يريد لا ما يفرض عليه المنظر كما كان يفعل المعلم الكبير سيزان أبو الحداثه الاوروبية لكن عبدالله كان يرسم بسهولة شديدة ما  يرغب في إيصاله إلي الملتقي.
في هذه الفترة بدأت الجماعات المتمردة علي الفنون الكلاسيكية تنتشر في مصر إبان الحرب العالمية الثانية ومنها جماعات  المحاولون و الفنانون الشرقيون وجماعة الفن والحرية والسرياليون كان هذا الجيل ينحت طريقه أو طريق تمرده فى صخر الحياة  بفكرة الطليعى ، فحامد عبدالله ولد في جيل يضم رمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل و سمير رافع  بالإضافة إلي إنجي  أفلاطون جيل سعى أبنائه لحمل راية التجديد و إدخال المذاهب الحديثة الي المحترف المصري  محترف الكبار والرواد فى هدا  الزمن ولقد نجحوا في خلق مدرسة ذات ملامح محلية  بحته هنا نجد فناناً مثل سمير رافع يحتل دوراً مهماً قبل عبد الهادي الجزار  وحامد ندا

الفطرية

أما الفنان حامد عبدالله فقد ذهب إلي قناة أخري ليحفر طريقاً خاص به وهو الإعتماد علي الفطرية مع وعي بالأداة التقنية ومساحة  الفطرة ليست بمفهوم السذاجة لكن بمفهوم البراءة والنقاء في تطوير المشهد البصري وتحديث اللون دون اللجوء لإرهاق الأساليب  الأكاديمية وهنا أخذ أسلوبه يتبلور ويتضح لوحة بعد أخري اعتمد  عبدالله علي الأجواء العامة المحيطة به  الفلاحون،الأهل ،حوار  المقاهي الشعبية فالموهبة عند حامد عبدالله سهلت له أشياء عديدة وكأنه كان يرسم الفلاحين وأحاديثهم ألم الوطن وأوجاع البسطاء  كان منحازاً للبسطاء يصورعيونهم وهم يهمسون بالحروف بينهم وهم يتالمؤن من وهم يحلمون بالثورة صور عبد الله  الأمل فى  أدائهم الحركى والبساطة فى خبزهم اليومى
حامد عبدالله فنان مؤسس لفكرة المرحلة هنا خلال المراحل نكتشف عالمه وجغرافيا المكان الذي رسم فيه ملامح أبطال لوحاته من  خلال التدقيق أكثر سوف نكتشف التاريخ أيضا فقد أرخ بالفن مراحل تاريخية عديدة من مراحل الفلاحين في المنيل ثم فيضان النيل  علي مصر النوبة مرحلة الثورة بناء السد العالي الهزيمة العسكرية لمصر 1967 الانتصار في اكتوبر1973 ثم كامب ديفيد  والهزيمة السياسية للسلام المصرى من وجهة نظره ونظرنا ثم مرحلة الحروفية .

فنان يرسم داخله العامر بالطهر والنقاء

حامد عبدالله لم يكن يكتب التاريخ كمؤرخ راصد لمجرد مراحل تاريخية يغيب عنها الإبداع لكنه عبر بصدق حقيقي عن كل  اللحظات التي تواجد فيها علي أرض الواقع فعجائن لوحاته مخلوطة بطمى الوطن وأحجار الثورة والحرية عبرعن هموم وأفراح  أهله رابطاً الجوهر الداخلي بالمظهرالخارجي فى اللوحة مبسطاً العناصر ومجردها إلى حد اللون الرقيق لون أحياناً وإلى تكثيف  المشهد اللونى على البصيرة أحياناً أخرى مؤكداً علي عنصر الزمن في العمل الفني ، لوحات عبدالله هي لحظات ميلاد جديدة في  اَفاق اللوحة العربية ولم يتعرض لها النقاد كثيراً بعد رحليه للأسف مثلاً لو أخدنا العنصرالزمني فى أعمال هذا الرائد فقد كان عند  حامد عبدالله شئ جديد حيث كان الفنانون الأخرون فى ذاك الوقت يرسمون لكن على الملتقي أن يقرأ بنفسه تاريخ صنع العمل  لاتوجد هوية للحظة أوالمرحلة دون النظر نحو تاريخ إنتاج اللوحة أما اللوحة عندعبدالله تحتفل بالتكامل النسبي في العناصر  المحيطة بها يجعلنا نتعرف علي محور الزمن ومرحلة الرسم بمجر النظر إلى اللون وطريقة تعامله مع السطح وخربشات الورق  فسطوح لوحات عبدالله هى وطن للمشاعر وأرضية للحلم والغوص بعيداً فى سفر طويل للقراءة والتأمل

نجم يسطع فى المكان

شارك حامد عبدالله في الحركة التشكيلية منذ عام 1938 حيث عرض لوحاته في صالون القاهرة السنوي الذي تقيمه جمعية محبي  الفنون الجميلة ثم سافر إلي أسوان والنوبة وهناك أقام لمدة ستة شهور متواصلة في الإبداع والإنتاج صوراً خلال هذه الفترة  مجموعات لوحات النوبة وهي إضافة تاريخية هامة لجغرافيا النوبة قبل الثورة أو بناء السد العالي وتجدر الأشارة إلي ضرورة أن  يكون هناك متحف لفنون النوبة يضم فلكلور هذة المنطقة الهامة مع رسوم فناني مصر الذين مروا عليها وهم كثر هذة أمنية أخرى  ضمن طابور الأمانى فى عصر سرقه اللوحات وممارسة أغتصاب حقوق البصر المصرى .
في عام 1942 أفتتح حامد عبدالله معهد تعليم فنون اللوحة التصويرية وهذه الفكرة كانت موجودة من قبل في الإسكندرية لكن مدرسة  أو معهد حامد عبد الله هي أول مدرسة خاصة في القاهرة وكانت أول تلميذة للفنان هي المبدعة تحية حليم التي كان يطلق عليها لقب  أم الفنانين المصرين ومن ثم الفنانة صفية حلمي المهندس وغيرهم وأستمر المعهد يفتتح أبوابه للطلبة لتعليم تقنيات وفنون التصوير  الزيتي ومهارة الرسم بالأقلام

أثر تحية حليم فى أعمال عبدالله

تزوج حامد عبدالله طالبته تحية حليم عام 1944 وأستمر يعملان لأربع سنوات قبل أن يقررا السفر إلي الإسكندرية وفى باريس  عام 1956 أنفصل حامد عن تحية حليم نهائياً وهنا نعود لنقطة ما تركته تحية من أثر على حامد عبد الله الذى بدء يرسم أسم تحية  حليم ويدخل الحرف العربى ويوظفه فى اللوحه كعنصر جمالى يتشابك مع المشاعر الحسية ويتقاطع مع الهوس والالم والحزن  الداخلى فى لوحات تحية أكتشف عبدالله الرغبة فى التصوف من خلال فكرة الأختصار فى الحرف واللون وتوظيف طهر وألم  الداخل وجع البعاد فى جماليات الصورة التشكيلية كحالة حسية رائعة ،في عام 1949 كان حامد عبدالله قد شارك في معرض مصر  ضمن قاعات متحف اللوفر خارج المتحف الأساسي وعدة معارض دولية ومحلية لكن معرضه في المركز المصري بباريس عام  1951 والقاهرة 1952 أثار اهتماماً كبيراًمن قبل نقاد فرنسا وفي عام 1956 اقام معرضاً شاملاً لاعماله خلال 33سنة بقاعة  المعارض التي كانت تابعة لجمعية محبي الفنون الجميلة وكان هذا المعرض حداً فاصلاً في رحلة حامد عبدالله

من نيل القاهرة إلى قطار الضواحى فى باريس

فى القاهرة كان شباك منزل أبو عبدالله فى منيل الروضة يفتح على النيل وخيال الفلاحين على صباح مصر النادى المعطر بموسيقى  لحن أصوات البائعين الفول الطازه ،العيش رائحة مصر وطمي الزرع الأخضر فالنظر من شباك منزل أبو عبدالله  وهذا أسم  منزل  أسرة حامد عبدالله إلى اليوم  كان يثرى ويغنى بالأمل شباك يفتح  نافذته على غد الحلم والثورة هنا شرب الفنان المعلم من نيل مصر  فمن أول شريط هذا النهر أنحدرت أسرته من أقصى الصعيدأما فى باريس فسكن فى منزل بمدينة “سان كلود “على شريط القطار  يفتح شباك نافدته على صوت القطار وصمته زاحفا فى هدوء على المحطة تناقض عجيب يفتح نافدة على ثلج الجمد فى برد وحر  باريس لا أصوات ولا غناء ولا لحن العابرين ولا صوت المؤذنين لكن هدوء ومناخ يجعله يسترد ويعيد منتج إبداعى خزن داخله   هذا التوازى بين هدوء المكان وأحياناً ذكرى الوطن خلق حالة الأشتباك الإبداعى داخله جعل حامد عبدالله يسترد عافيةالوانه  ويلتحف بخياله ليعيد رسم الأرض حتى جفافهاغياب النيل وعودته الفرح الحب كلها مجسدة فى لوحات عبدالله حتى المشاعر  والهوس هذه هى  لوحات الفنان فى معرضه في عام 1956حيث أقام معرضاً شاملاً لأعماله خلال 33سنة بقاعة المعارض التي  كانت تابعة لجمعية محبي الفنون الجميلة وكان هذا المعرض حداً فاصلاً في رحلة حامد عبدالله حيث قرر بعده السفر الي كوبنهاجن  بالدنمارك, فى الارض المنحدرة أرض الثلج المر عاش هذا الصعيدى الصلد عشر سنوات وتعرف هناك علي  فنانى جماعة الكوبرا  التي كانت تنتشر في أوروبا خاصاً فى الدول المنخفضة  في هذة الفترة ورفض أو أنسحب من الجماعة لدواعي  أنها لاتتفق مع  هوية الفنان لأن معظم المؤسسين من فنانى يهود أوروبا

حامد عبدالله رمز الوطن وملح الأرض

فكما أكد عبد الله أنه لايريد أن يدخل فى مزايدات  فى هذة الفترة الحرجة من عمر مصر السياسى أنسحب وفضل أن لا ينضم وهو  أصلا فى بلدة كان خارج السرب حر طليق لم يدخل أو يلهث وراء أى جماعة من جماعات الفن المؤسسة اَنذاك هو أصلا مؤسس  الأكاديمية الحرة للفنون فى مواجهة أكاديمية الدولة والنظام هو العصفور الذى يغرد على أشجار لايملكها أحد فى حديقة هو أبن  الأرض وملحها هو الصبار النبات وعشبها الأخضر فى أعمال عبدالله نلمح اَثار الوطن ونشم رائحة التربة .
كان حامد عبدالله دائب الحركة فقد عرض في باريس ،أمستردام ، سوريا ،نيويورك ،اليابان ،تايوان ،الهند كولومبو، طهران ،العراق  وبعد  ذلك قرر الإقامة في باريس عام 1967 مع زوجته كرستين وأبنائه سمير مخرج سينمائي حاز علي جائزة أولي من المهرجان  معهد العالم العربي عام 2000 ومؤنس وهو الأبن الأكبر ويعمل صحفياً ورث عن أبيه الثورة والتمرد  وأنيسة عازفة بيانو

فى عام 1967 كان  غريباً علي الفنان حيث أستقر في البلد التى أحبها لكن تأتي هزيمة 1967 العسكرية علي مصر يرفض حامد  عبدالله مثل كل المثقفين هذه الهزيمة وتتجلي مرحلة الحروفية في أعماله والحروفية هنا تعبرية وليست حروفية خطية فهو لم يكتب  خط  بأي شكل من أشكاله لكنه طوع الخط إلي فكر تعبيري رسم الحرف مدموجاً مع الأرض والبشر أو مستخرجاً الحرف من باطن  أشكالة عالج حامد عبدالله الحرف العربي علي أرضية ذات تقنيات عالية الأداء اللوحة مشققة مثل الأرض الجرداء ورمادية اللون  حيث أدمج الفنان الألوان الزيتية مع الوان الأكرليك ليخلق عجينة لونية أو تراكيب من طبقية اللون الخاص به ثم دخل من هذة  المرحلة إلي أخري بعد الأنتصار العسكري في 1973 حيث بدأ يدمج الالوان الأكرليكية مع الورق بعد طحنة في شكل عجائن  جديدة على سطح اللوحة وبدأت الألوان تعود إلي المراحل الأولي من شبابه حيث بدأ الأحمر الأصفر  يزحف بقوة مع الأزرق النيلى  وعاد الحب للوحة وبدأ عنتر يعانق عبلة في تلك اللوحات  بدأ الفلاحون والحدادين وأبناء الأحياء الشعبية يعودون لكن بشكل أكثر  أختزلاً في اللوحة ذات البناء المعماري المميز وبدأت الحروفية مثل قوة تعبيرية ذات أساس وعمق فكرى وجدانى تغيرت أسماء  اللوحات إلي “الحب” ومن نفس الكلمة يرسم رجلاً يصارع امرأة فتتحول الكلمة إلي ليلة عرس وتتحول اللوحة إلي حالة فرح عام   للوطن وأقام بهذه المجموعة معرضاً بالمركز المصري في باريس عام 1975 “الحب والأرادة و الأنتصار و القوة و الحرية  ما أخذ  بالقوة لا يسترد إلا بالقوة “عبارات تأتي كرسم مباشر مثير وتستمر رحلة الحرف عنده حتي العام 1976 حيث ينغلق علي نفسه إلي  حزن شديد بتأثير الأحداث السياسية بزيارة السادات إلي إسرائيل فيصاب بالسرطان وظل يحمل لوحاته ويسافر الي تونس ،بغداد ،  دمشق ، المغرب لا يشعر أحدا بأحزانه لانه يخفيها خلف  كبرياء الفنان وتحت معطفه الأسود كان رجلاً شامخ كريم  وهنا يقول حامد  عبدالله بنفسه الفنان المعاصر عليه إلا يخضع للتراث أو يكون عبداً له بل عليه أن يتناول بالنقد المعرفي والفن الاسلامي والفرعوني  هما مجالاً خصبا للمبدع الذي يستوعبه أنظر إلى لوحاته جوجان الذي نقل لوحة فرعونية بدقة شديدة لكنها ملونة بعالم جوجان  ضروري التعامل مع التراث لكن مع العلم بأننا في عصر الكواكب وغزو الفضاء فلأبد من أن نكون في مستوي العصر .
رحم الله حامد عبد الله  رمز الوطن وخبز الكرامة وثورة الفلاحين صوت الأرض ورحيق عطر شمس الوطن