بقلم دكتور ياسر منجي
مِن أصعب الخِصال التي قد يتحلّى بها المرءُ في حياتِه، إنصاف عَدُوِّه، ومِن أندَر الفَضائل التي يمكن أن يتحلى بها إنسان، معرفة أقدار الخُصوم، وشجاعة الاعتراف بقُدرات المُنافِسين؛ فهي خَصلةٌ تستَلزِم قوةً نفسيةً هائلة، وفضيلةٌ تحتاج لقُدرة على ضبط النَفْس، والاعتراف بالحق، والتخَلُّص مِن شوائب الكِبْر ومرارة الحَسَد.
في نهاية عام 1959، سقط لاعب الشطرنج السوفيتي “ميخائيل تال” (1936 – 1992) – بطل العالم الثامن، وأحد أساطير فن الهجوم الحاد – مريضاً، بتأثير أزمة حادة من أزمات الكِلَى، التي ظل يعاني من آثارها معظم سنوات عُمره، حتى غادر الدنيا نتيجة تدهور حالته الصحية بسببها.
وفي أثناء وجوده بالمستشفى، تَلَقّى “تال” أغرب زيارة يمكن أن يتوقعها أحدٌ في هذا الوقت؛ إذ زاره في غرفته التي يرقد بها اللاعب الأمريكي الفَذّ “بوبي فيشر” (1943 – 2008)، بطل العالم الحادي عشر، وأحد أبرز الشخصيات في تاريخ اللعبة.
لم يَكُن سبب غرابة الزيارة مُقتَصِراً على كون “فيشر” أمريكياً وكون “تال” سوفييتيّاً – بما يعكسه ذلك من خلفيات صراع سياسي عالمي طاحن، آنذاك، بين المعسكرَين الشرقي والغربي – بل كان في توقيت الزيارة نفسها؛ إذ جاءت على أثر مجموعة من المباريات الشرسة، خاضها اللاعبان، أحدُهُما ضد الآخر، في تصفيات تأهيل المُرَشّح لمنافسة بطل العالم، التي كانت قد أُقيمَت في ثلاث مُدُن باتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية آنذاك، هي “بليد” و”زاغرِب” و”بِلجراد”، حيث فاز “تال” وقتها على “فيشر” في المباريات الأربع التي التَقَيا فيها، ليحصد “تال” أعلى النقاط، ويأتي “فيشر” بعده كأعلى تصنيف للاعب غير روسي.
وبرغم أن “تال” كان سبباً في تفويت الفرصة على “فيشر” للتأَهُّل لمنافسة بطل العالم، وبرغم انتصاره الساحق عليه في المسابقة، لم يتردد البطل الأمريكي في زيارة غريمه المريض، ومُلاقاتِه كصديق يحاول التخفيف عن صديقه بمجموعة من الأدوار الودّية، التي تبادلا خلالها الحديث الباسم.
الغريب أن “فيشر” كان لاعب الشطرنج الوحيد الذي زار “تال” خلال هذه الأزمة؛ فحتى الأبطال السوفييت مِن مُواطِنيه، لم يقُم أحدٌ منهم بمثل هذه الزيارة، مُنشَغِلِين بمتابعة الصراع على بطولة العالم المُرتَقَبة!
رؤيتُكَ لِفَضائِلِ عَدُوِّكَ تُضيفُ لرصيدك الإنساني، ومعرفتُكَ بأقدارِ خُصومِكَ تُقَوِّيكَ على صَغائِرِ نَفْسِك، واعترافُكَ بقُدراتِ مُنافِسيكَ يضَعُكَ في مَصافِّ كِبارِ النفوس.
بقلم دكتور ياسر منجي
Bobby-Fischer-Tal