الرؤية الإبداعية للمكان في أعمال كل من محمود سعيد، حامد ندا، حامد الشيخ
دراسة تحليلية
فاتن محمد طوسون
نبذة عن الفنان محمود سعيد (1897- 1964) (شكل رقم 1)
(شكل رقم 1 )
صورة شخصية للفنان محمود سعيد
ولد الفنان محمود سعيد بالأسكندرية في 18 إبريل عام 1897 وتوفى بها في نفس يوم مولده عام 1964.
درس محمود سعيد القانون … وتولى وظائف قضائية ولكن حبه للفن دفعة لدراسة التصوير بمرسم الفنان “زانيري” بالأسكندرية ثم درس بالقسم الحر تحت رعاية المثال إنطوان بورديل وبأكاديمية جوليان. بباريس إن موقع مصر الجغرافي وماضيها العريق أثرا تأثيرا كبيرا على شخصية الفنان محمود سعيد وعلى أسلوبه الفني بالرغم من تتلمذه على يد المصورين الأجانب ذو العقلية والمفاهيم الأجنبية فكان محمود سعيد من القلة الذين إستطاعوا صبغ أعمالهم بالشخصية المصرية البحتة فقد كان فكره موصولا بشخصية هذا البلد وبعمق روحها.
بدأ محمود سعيد حياته بإسلوب إنطباعي تمثل في لوحاته الأولى مثل صورة شقيقته 1918 ثم صورته الشخصية 1919 ثم تطور أسلوبه وأتخذ طابعا شخصيا يمكن أن يندرج تحت التعبيرية الواقعية حيث رسم لوحة شخصية تصوره إثرا أزمة نفسية ألمت به ويتضح فيها من نظرة العين معاناته وتفكيرهالعميق واللوحة بإسم الرسول 1924 والتي إنعكست فيها بعض ملامح الصوفية على ملابسة وشكله الخارجي.
لقد كان الموت محورا من محاور محمود سعيد الفنية إلى جانب العبادة “والإثارة” وخلال حقبة الثلاثينات يزداد فنه رسوخا وتعبيرا عن ذاته فقد تدفق من أعماله ضوء ساحر قادم من لا مكان … مثل لوحاته “حاملة القلل” “الدعوة إلى السفر” “الصلاة” “الذكر” “المدينة” وهي اللوحة التي نحن بصددها اليوم.
الوصف :
إسم اللوحة : “المدينة”
الحجم : 330سم×220سم
التاريخ : 1937
الخامة : زيت على قماش
مكان التواجد : متحف الفن المصري الحديث(شكل رقم 2)
(شكل رقم 2 )
المدينة – محمود سعيد – زيت علي قماش – 330سم × 220سم
1937 – متحف الفن المصري الحديث
التفسير:
ينقسم البناء الفني للوحة “المدينة” إلى ثلاثة محاور “محور رأس” وهو كتلة المنتصف “بنات بحري” ومحوريين هرميين على يمين ويسار كتلة المنتصف .
ففي “المحور الرأس” تتمركز الفتيات أو (بنات بحري) في وسط اللوحة بشكل بنائي رأس راسخ وكأنهن مركز الكون ونلمح في وجوههم وأجسامهم الإثارة التي كان ينشدها محمود سعيد في نشأته فملامح الفتاة هنا ذات عيون لوزية إخناتونية مميزة. ووقفتها وقفة بنائية هرمية الشكل تشعرنا برسوخها وسيطرتها على من حولها ، فبالرغم من أن الكتلة كلها ذات بناء رأس نجد أن الفتاه الوسطى واقفة وقفة هرمية مستقرة مسيطرة ، ومن الواضح هنا تأثير محمود سعيد بأصوله المصرية الصميمة فكما إن وجه الفتاه وعيونها بها شكل في عوني وبالأخص إخناتوني سنجد نفس الشيء أيضا في وجهه الرجل الجالس بإبنه فوق الحمار ، ولست أدري إن كان ذلك مقصودا أم لا وساءا أكان ذلك مقصود أم غير مقصود فهو يعبر عن ارتباطه بوطنه “مصر” فنحن نجد هنا أن وجه الرجل ، فوق الحمار.
( شكل رقم 3 )
تفصيلية للوجه الإخناتوني من لوحة المدينة
يبدو أيضا وجه إخناتون (شكل رقم 3) بشفاهه الغليظة وذقنه المدببة وعيونه اللوزية ونلاحظ هنا مدى تأثره بموديله التي يرسمها عادة فنكاد نلمح في هذا الوجه ملامح النوبة في الحواجب الرفيعة ، تماما كما يذكرنا تصوير إخناتون حيث كان المعتقد السائد في تلك الفترة إنه رجل وامرأة في ذات الوقت دليل على عدم الحاجة لغيره فكانوا يمثلونه بأرداف أنثوية.
وإذا دققنا النظر في هذه اللوحة سنجد أن موديله المستخدمة هي نفسها الموديل (*) الموجودة بالعديد من لوحاته مثل ” حاملة القلل” “الدعوة إلى السفر”(شكل رقم4،5)
(شكل رقم 5 )الدعوة إلي السفر
(شكل رقم 4 (حاملة القلل
“ذات الثوب الوردي” “العائلة” وغيرها فقد كانت هذه “الموديل” وإسمها “أم فوزي” وذلك هو الاسم الذي كنا نعرفها به- الموديل المفضلة عنده فقد توبت وكبرت في منزل عائلته منذ كانت في التاسعة من عمرها كانت أم فوزي دائمة الحديث عن الباشا (محمود سعيد) في مرسمه فكان ذلك من الأحاديث الممتعة ، المميزة والمفيدة . وكانت أم فوزي رحمها الله موديلا نرسمها أيام الكلية ، على الرغم من سنين عمرها التي تعدت الستون وكانت ذات شخصية قوية مسيطرة على من حولها من الموديلات وكانت ذات كلمة مسموعة بينهم رجالا ونساءا. فبحكم عملها كموديل للفنان محمود سعيد كانت متمرسة على مهنة الموديل ومتطلباتها ، فكانت ذات طبيعة خاصة ، تختلف
جذريا عن باقي الموديلات اللواتي كن يجلسن بطريقة نمطية لاحس فني بها كالتماثيل في أوضاع لا حياة فيها ، أما مع أم فوزي كنا دائما نجد التجديد والفهم والتميز والتمرس على المهنة وكيفية تلبية طلب الفنان بالسكون التام في لحظة معينة حتى يستطيع تجسيد رؤيته وكثيرا ما كنا نشعر بها وكأنها معلمة فقد كانت تقف أحيانا فجأة وتحثنا على أخذ الرسوم السريعة (الإستكشاف) لها في أوضاع مختلفة فتارة تنام على الطاولة واضعة يديها تحت رأسها وتارة تجلس رافعة أحد رجليها على أي شيء وهكذا … فكانت تخشى على أخذ الرسوم بطريقة سريعة وماهرة في الوقت نفسه.
ومن الجدير بالذكر هنا أيضا أن من أحد الأشياء التي كانت تشدنا لرسمها علاوة على حرفيتها هو لون شعرها فقد كانت ذات شعر برتقالي ونحاس اللون من جراء صبغة بالحناء ومما يذكرنا هنا بلون وجه كل من الطفل ووالده وبائع العرقسوس وحتى قدر العرقسوس نفسه أي في عناصر محمود سعيد المختلفة.
إن وجه أم فوزي كان به شيء من الجهود والقوة التي تذكرنا ب (كوديا الزار) في المناطق الشعبية برغم سنها كانت قوية البنيان ، حادة الذهن ، ممشوقة القوام، وعريقة العظام، لقد وجد فيها الفنان محمود سعيد الوجه الأنثوي المصري الصميم الذييستطيع تمثيل بنات البلد في المناطق الشعبية داخل لوحاته فبعيونها ولونها القمحي ، ورسمه حواجبها المميزة وقوامها الممشوقة ذو الملامح الأنثوية الصارخة استطاعت تجسيد صورة بنت البلد في الأحياء الشعبية وفي لوحة المدينة كانت ملامحها تطغى على كل من رسمه بدءا من الفتيات في منتصف اللوحة (بنات بحري) مرورا بالرجل الذي يمسك بإبنه على الحمار وبائع العرقسوس وحتى الحمار نفسه فعيونه عيون آدمية بنفس شكل وملامح عيونها وذلك حسب أقوالها عندما تكلمت عن علاقتها به وذكرياتها عند اللوحة.
إن بمجموعة الفتيات (بنات بحري) مناظر تجسم رمز للأنوثة الصارخة وكأن كل نساء في بحري لا بد وأن يكن بهذا الجمال والسحر والغموض فمتى لبهن الملاية اللف التي تبرز أكثر مما تخفي جعلهن أكثر إثارة فقد بدت من تحتها أثوابهم الملونةوالمزركشة وحتى الثقافة ويتضح تأثره بالفترة التي قضاها في إسبانيا في الفتاه ذات الثوب الأحمر الزاهي وكأنها راقصة من راقصات الفلامنكو الشهيرة . وحتى وقفتها والتي تبدو فيها وكأنها تستعد لوحة فنية أخرى وقفة بها شموخ وأنفه وذلك على عكس الحقيقة تماما فلا يوجد في الطبيعة من ترتدي مثل هذا الطراز من الملابس في حي شعبي. أو البرقع فهو يشد النظر لسحر النظرة وسحر العيون ولا يخفي سحرها هو مفترض.
التحليل: (شكل رقم 6)
(شكل رقم 6 )
تحليل خطي المدينة
والبناء الفني لتلك اللوحة كما سبق وذكرنا ذو ثلاث محاور فالمحور الأول هو كتلة المنتصف ذات الخطوط الرأسية الخارجية بينما جعل الفتاة المتمركزة في الوسط ذات شكل هرمي راسخ البناء. (شكل رقم 7)
(شكل رقم 7 ) تفصيليةلبنات بحري من لوحةالمدينة
وحتى يزن الفنان تلك الخطوط الرأسية والكتلة القوية اللون ، نجده قد عمد إلى رسم كتل بنائية رأسية على جانبي اللوحة حتى ينتظم التصميم، وحتى في هذا البناء نلحظ حاملة القلل الشهيرة تطل من أحد شبابيكه بدلال. أما في الجهة المقابلة ، فنجد في المبنى الأيسر إمرأته تتطلع من الشرفة إلى البحر وما وراءه.أما البناء الفني للكتلة اليسرى أي الطفل والرجل و الحمار فنجدهم ذوو شكل هرمي أيضا يعادله شكل وبناء بائع العرقسوس في الناحية الأخرى اليمنى.بحركة جسده المائل والتي رسمت مع رأسه وكتفة بقايا زوايا المثلث وإن خرجت بقيته من اللوحة إلا أنه رد النظر للداخل بالإبريق الذي يحمله وبقدر العرقسوس المتجه للداخل وكأنه يشير إلى العلاقة بينه وبين الفتيات.
نجد هنا أن نظر الفتيات الثلاث متجه ومركز على البائع بينما ينظر لهن هو أيضا وكان هناك لغة حوار خفية بينهم.(شكل رقم 8)
( شكل رقم 8 )
تفصيلية توضح إتجاه نظر الفتيات و بائع العرقسوس
أما الطفل في الناصية اليسرى فيتجه نظرة نحو البائع وكأنه يشتهي ما بيده (شكل رقم 9) وبينما أخذ بائع العرقسوس ينظر للفتيات نجد الجل ذو الوجه الإخناتوني الممسك بإبنه يغض بصره متغاطيا عند جمال الفتيات وسحرهن.
(شكل رقم 9)
تفصيلية لنظرة الطفل من لوحةالمدينة
أما الحمار ذو العيون الإنسانية في بحا يعبر عن إنقياد تلك الطبقة من الناس إلى مصير يعلمونه ويرونه جيدا ولكن لا حيلة لهم فيه.(شكل رقم 10)
(شكل رقم 10 )
تفصيليةتظهر فيها العين الآدمية للحمار
ويحاولون درئه بالدلاية التي بين أذني الحمار والعلق عليها الكف كوفر للوقاية من الحسد وتتجه حركة الحمار لخارج اللوحة بعيدا عن الإثارة المتمثلة في بنات بحري وما يحيط بهن من سحر ولكن تعود بنا نظرة الطفل لبائع العرقسوس مرة أخرى للحوار الدائر بين البائع والبنات وكأنه يلفت النظر لذلك .
ولقد إستخدم الفنان هنا قاعدة الثلث الذهبي حيث قسم اللوحة غلى الثلث والثلثان فنجده هنا قد رسم في الثلث الأعلى البحر والمراكب وكأنها رؤوس الدراوريش بلغات رؤوسهم وتظهر القلعة في الجانب الأيمن من أعلى حتى تزن وترد على روحانية الرجل ذو الوجه الإخناتوني والغاض بصره على اليسار.
كذلك نجد رموز إستخدمها محمود سعيد كثيرا في أعماله كل منها يؤدي دوره مثل الحماسة والتي توحي للسلام والرخاء والحرية ولكنها هنا على الأرض وكأنها مشدودة إلى واقعها مثل الحمار أما المجموعات اللونية هنا نجدها متركزة في التضاد اللافت بين الأسود والأحمر في كتلة المنتصف حيث يتحور العمل وحتى يزن تلك الكتلةفي المنتصفنجده قد وضع الوانا قاتمة في أسفل عند الظلال والتناغم بين الأحمر في ثوب الفتاه و الأزرق في ملابس الرجل فوق الحمار و كذلك على يمين البائع بينما جعل من اللون الأبيض دائرة تجعل نظر المتلقي يدور بين وحول محاور اللوحة كلها بداية من طاقية بائع العرقسوس مرورا بأشرعة المراكب فطاقية الرجل فوق الحمار فالحمار نفسه ثم نعود لملابس البائع مرة أخرى أما الضوء هنا فهو ضوء غير واقعي حيث مصادر الإضاءة متعددة فتارة يجئ الضوء من اعلى وتارة أخرى من الجهة اليسرى وكأن العناصر نفسها هي التي تشع ضوء يتردد صدارة في كل مكان بداية من العيون فالحلي والبيوت وهو ضوء داخلي ينبع من داخل فنان.
يستخدم الفنان هنا إيقاعا كالقافية الشعرية يتردد صداه في أنحاء اللوحة بداية من شراع المراكب إلى ثوب بحري جميلات بحري ثم وجه راكب الحمار فبائع العرقسوس حينئذ وكأنه رباط سحري يربط عناصر اللوحة سويا.
وبينما تشدنا كل تلك العناصر لمقدمة اللوحة نجد حاملة الجرة يبين كتلة الفتيات والرجل ذو الحمار تعطينا ظهرها وكأنها تدعونا للنظرإلى عمق اللوحة وخلفيتها وبينما نجد إسم الفتيات (بنات بحري)
إلا أن الماء المرسوم هنا يصور نيل القاهرة لا بحر الإسكندرية، فنجد الفنان قد صوره بين حنفيتين على إحداهما تبدو القلعة راسخة وبين الضفتين مراكب كمراكب النيل ذات الأشرع وليس كمراكب الصيد ، وهو هنا يذكرنا بمحبة المصريين للنيل وولائهم له.
لقد بط محمود سعيد بين حرية الفن في أوروبا وبين الهوية المصرية فإستحق عن جداره لقب الريادة.
الحكم :
إستطاع الفنان محمود سعيد أن يحقق القيم الجمالية الخاصة به في لوحة “المدينة” وهي لوحة ضخمة تكاد تبرز فيهاالأجسام والعناصر بشكلتحققت فيه الألفة بين المتلقي وعناصر العمل . فالنساء متجهات للأمام بأجسامهن البضة ونظرات عيونهم وملامحهن التي نكاد نراها يوميا في نساء الطبقة الشعبية ، كذلك في وجه بائع العرقسوس الذي نكاد نسمع حركات
صنجاقة في حي الحسين، بملامحه الجامدة والطيبة في ذات الوقت ، كذلك الرجل فوق الحمار بملامحة المصرية الصميمة وملابسه الريفية المألوفة لدينا حتى الآن.
ومن الغريب في هذا العمل تجمع هذا الحشد من العناصر في ذلك الحيز ، فلم يطغ عنصرا على الآخر ولكن كل منهم أخذ خطأ وافرا من الإهتمام و من الؤية لدى المتلقي.
والإيقاع في هذا العمل هو إيقاعصاخب ملئ بالحركة بدءا من حركة الفتيات وتقدمهن للأمام إلى حركة الحمار للخارج وحتى حركة حاملة الجرة داخل العمل وحتى بائع العرقسوس فيتضح لنا هنا الإتزان القوي بينهم والنسبة التي وضعها الفنان لكل عنصر بحيث يبدو وكأنه بطل ويصلح أن يكون لوحة بمفردة.
لوحة “موت البطل”
للفنان حامد ندا
الوصف :
الفنان حامد ندا 1924-1990
اسم الفنان حامد ندا
اسم العمل “موت البطل” أو جنازة في حي شعبي
الحجم 60 سم ×80 سم
التاريخ 1983
الخامة زيت على خشب
مكان وجودها متحف الفن المصري الحديث (شكل رقم 12)
(شكل رقم 12 )
لوحة موت البطل – حامد ندا – زيت علي خشب -60سم * 80سم – 1983– متحف الفن المصري الحديث
نبذه عن حياة الفنان حامد ندا(شكل رقم 11)
ولد الفنان حامد ندابحي الخليفة بالقرب من القلعة عام 1924ثم اقام بحي البغالة حيث عمل والده كشيخا لأحد المساجد فنشأ حامد ندا في بيئة شعبية ودينية يتابع عند كثب حياة البسطاء والمهمشين عن الناس كذلك يرى المجاذيب والدراويش ومعايشا لعادات تلك الطبقة التي يعتمد الكثيرين فيها على الخرافات و الموروثات الشعبية . فإختزل في ذاكرته حلقات الذكر والموالد جنبا إلى جنب مع الملاحم البطولية فإنعكست تلك الذكريات وتحورت حتى صارت رموزا فنية لديه يستقيها من واقع تجارية الخاصة و يضفي عليها روحه ويصبغها بفكرة حتى تعبر عن رؤيته الفنية.
شدنا حامد ندا للوحاته بولائها وغنتمائها “للشخصية المصرية” فأصبح حامد ندا رائدا لفن ” الإتجاه نحو الشعبية” بالرغم من دراسته الأكاديمية ورحلاته للخارج فقط ربط جذوره الشعبية بخبرته التكتيكية.
ولقد كان مرسم الفنان حامد ندا في المسا في حانة مما أتاح له الغلتصاق بالأحياء الشعبية التي أثرت في وجدانه.
ومن المعروف عن الفنان حامد ندا إستخدامه لأسلوب السيريالي التعبيري الذي تميز به لما فيه من غرابة وخيال مما كان له أثره الكبير في شهرته الواسعة، ونستطيع تلخيص مشوار الفنان حامد ندا في ثلالث محطات رئيسيةلقد كان الفنان الأستاذ / حامد ندا أستاذا لنا في كلية الفنون الجميلة ، ولقد عاصرناه عددا من السنين في أواخر سنين عمره وكثيرا ما كان يأخذنا إلى حي الحسين الشهير ، فكنا ننتظر حضوره على “مقهى الفيشاوي” ثم نحتسي معه الشاي المخلوط بأوراق النعناع الطازجة حين حضوره ، ثم نصعد جميعا إلى سطح فندق الحسين والأزهر الشريف لنرسم من هناك منظرا للحي من أعلى.فكان الأستاذ / ندا يخرج أوراقة وألوانه المائية ثم يبدأ في رسم المنظر برؤيته الخاصة ، وحينما نتسائل عن مغزى شيء كان يرد بقوله أنه يترك لنا تفسيرها كلن منا حسب رؤيته فكان يترك للمتلقي تعدد التأويلات النقدية بتعدد المتذوقين والمتلقين.
كان هذا هو الأسلوب التعليمي للأستاذ الفنان / حامد ندا ففي البداية كان أسلوبه واقعيا يسجل مايراهمن مشاهد تستهويه ويتمثل ذلك في لوحات مثل “ومتتظر من القاهرة”
وسبيل الصالح- نجم الدين أيوب (شكل رقم …،…) ثم تحول إلى الأسلوب التجريدي مثل لوحتي القاهرة والسلام وحارة في القاهرة، ثم بدأ إستخدامه للرمز مع الأسلوب التسطيحي في الستينات مثل لوحة “منظر الحارة في القاهرة” والتي نرى فيها بداية إستخدامه للأشكال الآدمية المحورة وإستخدامها كرمز من رموزة العديدة.
ثم المرحلة الأخيرة وهي التصوير السيريالي التعبيري مثل لوحة “موت البطل” أو كما أحب تسميتها “جنازة في حي شعبي” هي اللوحة التي نحن بصددها الآن.
التفسير:
تعتبر هذه المرحلة في فن الأستاذ الفنان / حامد ندا هي الأكثر تميزا وإنتشارا، كما توضح أسلوبه ومفرداته الفنية الرمزية.
ففي هذا العمل الذي يصور جنازة في أحد الأحياء الشعبية تخلى الفنان واقع المنظر كمكان معلوم يمكن تحديده في الطبيعة وركز على عناصر رمزية.
فترانا نلحظ في اللوحة مظاهر اندثرت في الحياة اليومية مثل فرق الموسيقى التي تسير أمام الجنازة وحتى من يحملون نعش المتوفي ويسيرون به فنحن نجد الفنان قد أبرز عناصره الرمزية ليوصل بها للمتلقي نظرة فلسفية بحته (شكل رقم 13)
(شكل رقم 13 )
تفصيلية توضح الفرقة الموسيقية التي تتقدم الجنازة
فلوهلةالأولى نحن نرى مشهدا حزينالنعش يمثل جنازة ، ولكن حين نسترسل في التعمق والمشاهدة ندرلو أن القصد والغاية هنا يتجه نحو موت القياده ، وما النعش هنا إلا رمزا للقائد المتوفي .
القائد هنا قد يكون رب أسرة أو قائد وطني فلقد رمز الفنان إلى تعطل العربة الحنطور بغياب الحصان الذي يجرها (شكل رقم 14)
( شكل رقم 14 )
تفصيلية توضح العربة الحنطور المعطلة في منتصف الطريق
وكذلك قائد العربة وتركها في هذا الوضع الذي سيعوق مسيرة الجنازة والتي تتجه نحوها وكأنه يتعمد ذلك وبدلا من أن يلقي ظل العربة الحنطور تحتها بطريقة واقعية نراه قد وضع ظلا لشكل آدمي برأس طائر محتضنا بيده عبارة (بلادي ، وطني ، حبي) ورسم سيفا معلقا بوسط هذا الظل الموحي على الارض والسيف هنا رمز للقيادة والقوة ، وقد وقفت بجواره سيدات متشحات بالسواد يرقبنه في صمت وكأنهن يعايننه ونرى ظلا لطائر يظهر عند الراس وكأنه الروح التي خرجت من هذا الكيان الممدد وطائرا آخر أسود يقف عند الكتف ينظر في صمت وترقب والمعروف عن الفنان حامد ندا أنه كان لا يتكلم عن مغزىأعماله ولا يصفها بل كان يترك للمشاهد قراءة العمل والشعور به دون التقيد لفكره.
التحليل:
(شكل رقم 15 )
تحليل خطي للوحة موت البطل
البناء الفني لهذا العمل يركز على جذب النظر إلى منتصف اللوحة (شكل رقم 15) حيث يركز العمل الفني الذي تمثل في شكل العربة الحنطور وبعد ذلك نجد خطوطا وهمية دائرية تسير بشكل محوري داخل العمل تدور معها العين لتطلع على عناصر اللوحة من بيوت شعبية أعلى اليمين ثم الحيازة والتي تتجه نحو الداخل بمساعدة الراية الحمراء على اليسار لتصل إلى مجموعة النساء ثم مع حركة اليد للظل الموحي على الأرض وبهذه الحركة الدائرية التي تكتمل بالعناصر المرسومة نشعر وكأن العربة الحنطور هي محورها واللوحة كلها تدورفي فلكها.
أما المعالجة اللونية لهذا العمل فهي في غاية في العبقرية ، وإن كانت لمشهد يشبه الحلم إلا إنها ترتبط بنوع من الواقعية خاصة مع اللون الأسود المميز لعربة الحنطور وفرشها الأحمر، كذلك لون الأخضرالمختلط بالأسود بشكل درامي والراية الحمراء التي ترد العين داخل اللوحة لكي لا تخرج ناحية اليسار وهذه المعالجة تعتمد على خبرةة الفنان من حيث الإحتكاك المباشر بالمناطق الشعبية فهو ستعامل مع حقيقة ملموية وعادات وتقاليد سرعان ما تتفاعل بداخله لتخرج على هذا النمو في المخرج بين الواقع والخيال والقدرة الفنية على التعبير بالحدث والإيحاء بالمكان الذي لم يعد كمكان يعرفه ولكنه أصبح مكان الفنان كذلك الحسابات الزمكاني التي نعرفها إختلف هي أيضا فأصبحت تلائم ذلك المكان لقد أستقر حامد ندا عناصره من العناصر البدائية على الفخاريات المنتمية لعصر “البدارى” 4000ق.م ،”ونقاده” 3400ق .م ، والتي تنقسم إلى “العمرى” “وجزرة” كما أصبح يتضح فيه إحساس البيئة من خلال البيوت الشعبية والكتابات التي تميزها على جدرانها . كما يقترب أيضا من الفنين الإسلامي والقبطي في تناوله للمنظور. اإن الفنان حامد ندا زوايا رؤيا متعددة من حيث رؤية الأشخاص من الأمام و جنب ، كما أن لديه في هذه اللوحة زوايا مستميلة فليس من المعقول رؤية الأشخاص من تلك الزوايا في نفس اللحظة . فالمنظور هنا هو منظور كوني ليس فيه مصدر واحد من مصادر الإضاءة ولكن مصدر الغضاءةهان غير مرئي ولكنه ينبع من ذات العناصر كما نرى في الخلف الأيسر الأعلى من اللوحة مجموعة من المقابر (شكل رقم 19)
( شكل رقم 19 )
تفصيلية توضح مجموعة المقابر بأعلي اللوحة من اليسار
وكأنها البر الغربي حيث يستقر المتوفي بعد رحلته الجنائزية فيبدو الطريق للمقابر وكأنه النيل العظيم الذي يضم كل الأحداث وولاذي يعبره المتوفي للوصول للبر الغربي حيث يستقر المتوفي بعد عناء الرحلة.
فنحن نلمح في هذه اللوحة حس بصري أصيل يبدأ من الشخصيات الرمزية ثم التابوت والعربة و كأنهما مراكب الشمس التي يعبربها المتوفي حيث الخلود ، لذلك تبدو هذه اللوحة ذات طراز خالد لكونها خالية من المؤثرات والعوامل الزمانية ، لذا تعطينا اللوحة إحساسا بالإنسانية والخلود ، كما نلحظ خلف الأشكال الآدمية بأسفل وخلف السيق شكل وكأنه خرطوشة فرعونية عليها نقوش تشبه الهيروغلفية وكأن عليها اسم المتوفي حتى يبعث مرة أخرى مثل المعتقدات الجنائزية الفرعونية.
الحكم:
حاول الفنان حامد ندا من خلال لوحة موت البطل أن يجسد روح الشارع المصري لحظة خروج الجنازة فهذا المشهد المألوف قد نراه ونحن نسير في الارع أو بالسيارة في أي مكان ونحاول إن إستطعنا الوقوف بإحترام للجنازة المارة ، فقد إستطاع حامد ندا تجسيد لحظة السكون تلك، أما الغريب هنا فهو التضاد بين السكون في مجموعة الأشخاص بأسفل العمل والحركة التي نراها في الأشخاص بأعلى والحاملين للنعش ، وحتى الفرقة الموسيقية وعلى الرغم من غرابة التناول فإن المتلقي يجد في العمل ألفه فهو ذو شخصية واضحة ومؤثرة في الوقت ذاته ، كذلك مجد من الغريب رسم ظل العربة وكأنه شخص آدمي بأذرع هزيلة كأنه المومياء وبرأس طائر وكأن راسه أصبحت محلقة إلى السماء ، وفوق كل هذا نجد الظل موحيا فعلا بموت البطل.
أما بالنسبة للإيقاع في هذه اللوحة فهو إيقاع هادئ و ساكن على الرغم من حركة الاشخاص أعلى ن أما وضع العربة الحنطور بمنتصف العمل والتي تعطي إنطباعا بانها تعوق المسيرة ، إلا أنها تعطي نوعا من الإتزان المحكم ومن التركيز على موضوع العمل الرئيسي في البوؤرة بالتضاد بين اللونين الأحمر والاسود ونجد أن الفنان قد أغفل بعضا من النسبة والتناسب بين حجم العربة وأحجام الاشخاص والبيوت فنرى هنا أيضا منظور غريب كما لو كان واقفا يراقب المشهد من أعلى.
لوحة “من الحي القديم”
للفنان حامد الشيخ
نبذة عن حياة الفنان حامد الشيخ (شكل رقم 20)
ولد الفنان حامد الشيخ في عام 1943 مبقرية البدارى بأسيوط ، وحصل على بكالوريوس الفنون الجميلة عام 1966م ثم توفى عن عمر يناهز الخمسون عاما ، عام 1933.
خرج حامد الشيخ من قرية البدارى بأسيوط حيث التقاليد القبلية الصارمة والتي لم تحتملها نفسه
( شكل رقم 20 ) صورة شخصية للفنان حامد الشيخ
الرقيقة ، إلى القاهرة ذات الصخب والعناصر المتعددة التي تقتحم روحه المتعطشة مرة بعد مرة،
فيستنجد بالفرشاه والألوان في بكاء صامت.
كان حامد الشيخ يسكن حي الزمالك أثناء دراسته بالكلية ثم بعد ذلك حي الكيت كات المقابل لها ، في شقة مع مجموعة من زملائه من الفنانين التشكليين وبخاصة النحاتيون .عندما ترى الفنان حامد الشيخ و هو سائر في الطريق يمشي بخطى ثابته منتظمة وئيدة ، يتجه نظره دائما نحو الأرض وكأنه يتحدث معها فتناجيه وتبوح له بأسرارها.
كان رحمه الله لا يجيد سوى العزف على الهدوء والتواضع ودماثة الخلق ، وكنا نراه يمشي بيننا بالكلية في هدوء غريب وكأنه النسيم ، كأنه غريب في مكان من المفروض أن يكون وطنه ، وحيد يعيش في عالم خاص به من العزلة بعيدا عن ذلك العالم الذي سخيا فيه.
له طريقته الخاصة في التعبير والحركة واللفتة وحتى المفردات الكلامية ، كلها نبتت من شعوره بالغربة وكثيرا ما كنا نشعر به يلفه الحزن واليأس والشعور بالظلم ، والمعاناة الصميمة والنفسية وتلك الأزمات التي لا حقته وهو في الأربعين من عمره ثم وهو في الخمسين إلى أن توفى وحيدا وغريبا ، متواضعا حتى الزهد والتقشف ودخل دائرة النسيان، فلعله إستراح أخيرا من معاناته وغربته.
يشكل الضوء في أعمال حامد الشيخ عنصرا بالغ الأهمية فهو بالنسبة للوحه كالهواء اللازم للتنفس.
والبنائية اللونية مليئة بالدرجات اللونية الدقيقة المنبثقة من بعضها البعض في تألف رقيق و دقيق.
وتعتبر مجموعة أعماله التي رسمها بعد عام 1983 مليئه بالرؤى الإبداعية التي تتسم بالصوفية و الإبتهال فقد أستوحى خلالها بعض حروف لفظ الجلالة وبعض الآيات القرآنية صافعة تناغم موسيقي شديد الخصوصيةوالتفرد كما لو كان يعزف لنفسه فقط.
نحن لا نستطيع النفاذ إلى مغزى العمل الفني دون أولا بحياة الفنان التي صقلت موهبته وأثرت في ثقافته وخبراته.
إن شخصية الفنان الأستاذ / حامد الشيخ شخصية تستحق التأمل والدراسة فقد كان فنانا متميزا وموهبا بحق يصور أعماله بشكل أكاديمي واقعي ولكن بعد إنصهارها في ذاته وشخصيته . فكان يتخدم الفراجية صغيرة الحجم ، وبعد أن ينتهي من عمله بعد ما عكف عليه مدة طويلة حيث كان يترك العمل في اللوحة ثم يعود إليها مرة ثانية لطمس بعض المعالم وإظهار غيرها ويظل يمحو أجزاء كبيرة من العمل وكأنه يبحث في داخله عن شيء فقده حتى يصل لما يوحيه عنها وكأنه قد وجد ضالته المنشودة ، وكأنه يرى ما لايراه غيره فتكون النتيجة مبهرة بحق ، لقد إنفعل حامد الشيخ مرة بتكوين كذا رسمه ، وضع وضعنا في المرسم “صحامة” فاقدة الحياه وتحتها قماش أحمر، فظل يتأملها فترة ثم جلس بيننا يرسمها وبعد ما أتم رسمها بجناحها المفرود وبريشه ريشه ريشه بفراجيين دقيقة ، وبعدما رسم القماش الأحمر كأجمل ما يكون بكسراته ولونه المميز الزاهي بدأ فجأة في وضع لون رمادي فوق اللون الأحمر للقماش فأخفائه بذلك ورويدا رويدا بدأ “به”ما بنى ثم فجاءة ضربت فرشاته اللوحة حتى طمست معالمها تمام.
إن الحالة النفسية للفنان إنعكست على تصرفاته حتى أنه قد دمر كل أعماله ولم يبق فيها سوى القليل الذي تحتفظ به أخته ولوحتان في متحف كلية الفنون الجميلة “من الحي القديم” في متحف الفن المصري الحديث.
كان حامد الشيخ دائم الصمت ، شارد الذهن حجرة الأساتذة بالكلية دائم النظر للخارج من شباك الحجرة وأمامه الحبر الشيني، ودائم الرسم لأشكال مستديرة تكاد تكون مجسمة ولكن لا علاقة لها بالواقع ويتحدث عنه أ.د. زكريا الزيني فيقول “أنه كان من أبرع من إستخدم الألوان الفلوماستر في الرسم” كما أنه يقول عنه أنه دمث الخلق ومهذب كما كان شديد الأناقة.
لقد كان رقيقا حتى في عمله ففي اللوحة (شكل رقم 21)
( شكل رقم 21 )
لوحة رسمها الفنان حامد الشيخ أثناء تواجده معنا في الكلية
حول حامد الشيخ تمثال جامد فاقد الحياة إلى لوحة زيتية تصيح بالحياة والأحاسيس والتأمل.
لقد رسم حامد الشيخ تلك اللوحة للوجه معنا في الأتيليه حتى وسط الطلبة كان يعيش عالمة الخاص.
الوصف :
اسم العمل : من الحي القديم
اسم الفنان : حامد الشيخ
الحجم : 110سم × 100 سم
التاريخ : 1983
الخامة زيت على قماش
مكان وجودها : متحف الفن المصري الحديث
التفسير:
إن اللوحة (من الحي القديم) زيت على خشب تصور منظرا من أحد لأحياء القاهرة القديمة التي حاول الفنان تخصيص عدة لوحات لها على مدار أكثر من عشرين عاما حيث كان دائم الرجوع إلى تلك الأحياء خاصة حي الحسين والقلعة محاولا استخلاص المناظر التي تتناسب إبداعية وتعبر عن رؤيته الخاصة تجاه تلك المناطق.
ولقد كان الفنان حامد الشيخ يعمل في صمت فهو دائم التأمل ، يفضل العزلة وانعكس صمته على أعماله مما أضفى عليها سكونيةرهيبة.
ففي هذه اللوحة التي تصور منظرا لبيوت شعبية نكاد نستشعر ذلك الصمت الذي يتنافى مع تلك الأماكن الصاخبة ، فلقد أضفى الفنان من صمته على طبيعة تلك الأماكن ممولا إياها من مكان صاخب ملئ بالحركة إلى مكان هادئ ، حالم ، وروحاني.
وإن كان هذا السكون مشوبا بالحركة من وراء أضواء الشبابيك فخلف السكون هناك حركة (شكل رقم 23)
( شكل رقم 23 )
تفثيلية توضح دور الإضاءة في لوحة من الحي القديم
التحليل :
والبناء الفني لهذا العمل يعتمد على الكتل المعمارية التي تحددهاخطوط رأسية كثيرة والتي ترسم معالم هذه المباني القديمة (شكل رقم 24) فهي عبارة عن عدة مستطيلات تقف جنبا إلى جنب ،
ولد بالغ الفنان في تسجيل هذه الخطوط خاصة وأن هناك خطا رئيسيا يكاد يقسم العمل إلى نصفين طوليين.
وعمل على تسطيح العناصر وإغفال المنظور الهندسي في منطقة الوسط ، بينما حاول رسم المباني على يمين.
( شكل رقم 24 )
تحليل خطي للوحة من الحي القديم
ويسار اللوحة بشكل منظوري يتجه نحو الداخل كنوعمن إخضاع قواعد المنظور التي توحي بالعمق داخل الوحة لرؤيته الإبداعية وعدم الإرتباط بالواقع المرئي على الرغم من اقتراب العناصر المعمارية عن ذلك الواقع.
فهو يجدهنا فكرة
الماورائية ، إنه يوحيبإيحاءات تترك للمتلقي إستشفاف ما ورائها ، فالمنازل المخلقة الشبابيك توحي بوحي بما ورائها من بشر وحياه تمارس فعليا بكل تفاصيلها ، إنه السكون الذي يختفي ورائه صخب والحياه و الديمومة، إنه لا يكشف للمتلقي كل أوراقة وأفكاره ولكنه يترك له تخمين ما يجري وراء تلك الشبابيك فذلك يعطي نوع من الغموض المثير للدهشة يشد المتلقي.كما حاول الفنان إقناص العناصر التي توحي بجو الأحياء القديمة والمميزة للمباني في تلك المناطق كالشبابيك ذات المشربيات الخشبية فتحاتها المميزة كما في المنزل على يسار العمل ، كذلك الشبابيك ذات النهايات المستديرة والتي تعرف بالعقد، كذلك الباب في بداية اللوحة من أسفل ، ولقد عمل الفنان على توضيح مدى تلاصق البيوت وتلاصق أرواح مكانها فهناك نوع من الحميمة بينهم.
إن عدم الإنتظار يعد سمة من سمات تلك المناطق في القاهرة القديمة وعدم الإنتظار ذلك هو نفسه الذي كسر الرتابة مع التنوع وكأنها لحن موسيقي من خلال التفاوت في إرتفاعات البيوت.
أما المعالجة اللونية لهذا العمل فهي تؤكد ما سبق أن قلناه من وحدة “بالته” ألوان الفنان وما حاول حامد الشيخ التركيز عليه من خلال البناء الفني للوحة وإختياره لزاوية المنظر حيث إعتمد على عنصري الضوء والظل في إحداث خطوط توحي بالمنظور ويتجه إلى عمق اللوحة بالرغم من تسطيحها وكذلك لإحداث إنكسارات حادة في الخطوط الرأسية التي تحدد المباني وهذه الظلال والأضواء توهم بأن هناك نوعا من الشفافيات في المسطحات فيبدو السطح وكأننا نراه من خلف سطح آخر شفاف يغير من لونه .
ويهدف الفنان إلى إنارة الشبابيك في المبنى بمنتصف اللوحة لجذب النظر نحو هذا الضوء المبهر و هي بوئرة العمل الفني لتوحي بالحياة داخل عالم اللوحة نفسه.
ومن ناحية الوسط لتكون نقطة تبدأ منها عين المشاهد في متابعة عناصر العمل لتتذوقه وتدور مع إنكسارات الضوء على المباني المحيطة ثم تعود مرة أخرى إلى نقطة البداية ، ولقد حاول الفنان إظهار ذلك الضوء بنوع من التضاد احاد بين المسطحات المضيئة وإحاطتها بمساحات قاتمة مما يجعلها كأنها تومض وسط هذه الظلال.
المعالجة الفنية:
وإستخدام الفنان اللون البني القاتم وكذلك الأخضر واللون الأوكر (الأصفر الأوكسيد) بالإضافة إلى الأبيض للتعبير عن ألوان البيئية للمناطق الشعبية القديمةوحاول معالجة سطح العمل بحيث يبدو متآكلا تتداخل فيه كل الألوان التي إستخدمها ، وهذه المعالجة تعتمد على طلاء سطح اللوحة قبل التصوير عليها بلون واحد كالبني القاتم ثم تحديد المنظر ووضع الألوان الأخرى ، ويحافظ الفنان على إبقاء أجزاء كبيرة من هذا اللون التحضيري وبذلك يحقق نوعا من التجانس والتناغم بين ألوان العمل ويساعد على تحقيق ما يهدف إليه الفنان من ملامس وأسطح خشنه توحي بتآكل الجدران للمباني القديمة المتهالكة.
الحكم:
نجد في لوحة للفنان حامد الشيخ ،أنه إستطاع أن يجسد رؤيته الخاصة وإحساسه الدفين بالحزن بمشهد من مشاهد حي الحسين وخاصة حي الجمالية فالمشهد يذكرنا بالأماكن الواقعية التي تؤكد حقيقته . ففي بعض الأعمال الفنانين آخرين نتعرف على ماصية المكان من بيوت ومعالم تحدد معالم وصفات المكان أما الفنان الاستاذ حامد الشيخ فقد تحولعنده المنظر إلى عالم خاص به وفيه التضاد بين السكون الذي يجسده شكل المنازل بالشبابيك المغلقة والحركة داخل تلك المنازل والتي تجدها الأضواء المنبعثة منذ تلك الشبابيك الأخرى .
فالضوء هنا هو الدليل على وجود الحياه والديمومة فااللوحة تجمع في طياتها بين الألفة والغرابة ألفة البيوت التي نشعر بها و الغرابة في تناول الفنان لتصوير تلك البيوت.
أما الإيقاع هنا فهو إيقاع متناغم وهادئ كأنه لحن موسيقي يعضده تفاوت إرتفاعات البيوت وكأنها جمل موسيقية ذات لحن خاص به.
كما أن نواحي البيوت إلى جانب بعضها البعض يعطي نوعا من الرسوخ والإتزان وأن كان إنكسار الضوء يعطي نوعا من الحركة رغم سكون العناصر .
حافظ الفنان أيضا على النسبة و التناسب في لوحته من حيث أحجام البيوت وأحجام الشبابيك والمخارج.
(*)الموديل : هي النموذج البشري الذي يستخدم في العمل الفني