الرمز الأكثر قدرة على التعبير عن العمق الحقيقي للوجود المهـرّج في الفـن التشكيلي
عندما نتحدث عن المهرج في الفنون إنما نتحدث عن الفن الأكثر إثارة وقدرة على الإدهاش، أي «المهرج» الذي ظهر منذ الحضارات الأولى، في قصور الملوك والأمراء، وفي الشوارع وخيمة السيرك… والمهرج هو بحق جوكر ذلك السيرك الذي يمتلك العديد من المهارات والمواهب، من رقص وموسيقى وتمثيل إلى جانب الأداء الحركي المقنع، بمعنى آخر هو يجيد إلى جانب تغيير الوجوه كل الألعاب لكنه يتعثر فيها متعمداً إضحاك الجمهور بعيداً عن الحالة النفسية أو الظروف التي يمر فيها..
إلى جانب ذلك، هو الشخص الوحيد الذي يقول الحقيقة مخلوطة بالهزل والسخرية، حيث يكذب الجميع، وهو أيضا غالباً ما يميل إلى الألغاز التي تنطوي على حقائق مؤلمة، لا يجرؤ أحد على البوح بها. وهذا ما أكده الكاتب الأمريكي آرثر ميلر الذي قال: «المهرج هو حقيقة الإنسان، إنه يمثل كل ما في مهزلة الحياة من سخرية. وهو الرمز الأكثر قدرة على التعبير عن العمق الحقيقي للوجود». ولو عدنا إلى المهرج في التاريخ العربي لوجدناه ملازما لكرسي السلطان، ولكنه كان هنا مسلياً للحاشية أكثر من قائل للحقيقة، ومع ذلك فإن حريته في القول كانت أكبر من حرية الآخرين، لأنه بدون ذلك يفقد القدرة على الإضحاك.
وموضوع المهرج اهتم به العديد من الكتاب حيث أُلف عنه حوالي 16 ألف كتاب بجميع لغات العالم.. كما اهتم به العديد من الفنانين باعتباره صورة كاريكاتورية للحياة التي نعيشها، لذلك تم تناوله في السينما والمسرح والفن التشكيلي، واعتبره الفنانون منبعاً خصباً للإبداع وللموضوعات الإنسانية. فمثلاً قدم في مجال السينما العديد من الأفلام العالمية التي تعبر عن هذا الموضوع، ويعد من أهمها فيلم «أعظم استعراض في العالم» الذي أخرجه «سيسيل دي ميل» عام2591. ويدور هذا الفيلم حول حياة مهرجي السيرك ولاعبيه متعرضاً لحالاتهم الإنسانية وعلاقاتهم ببعضهم وبالعالم الخارجي.
وقدمت في مجال المسرح والأوبرا عشرات الأعمال التي تتعرض لهذا الموضوع، لكن أهمها على الإطلاق هي «أوبرا ريجوليتو» التي وضع موسيقاها الموسيقار الشهير«جوسبي فيردي» ـ مؤلف أوبرا عايدة ـ التي عرضت في افتتاح دار الأوبرا المصرية القديمة «الأوبرا الخديوية». أما في مجال التشكيل فقد كان الفنان التشكيلي من أكثر المبدعين اهتماماً بهذا الموضوع باعتباره خامة جيدة تصلح للتشكيل، فهي مليئة بالحركة والألوان وبداخلها مشاعر إنسانية والكثير من التخفي والإفصاح، لذا فهي عالم ومادة مثيرة للتعبير.
ومن الفنانين الذين تناولوا المهرج على مسطحات لوحاتهم الفنان الأسباني فيلاسكيز الذي رسم في عام 1639 لوحة القزم «كالابازاز» عاقداً كفيه فوق إحدى ركبتيه وقد ارتدى ملابس المهرجين وارتسمت على وجهه ضحكة لا يعرف هل هي من مهام وظيفته أم نابعة منه.. وأيضاً كالأقزام رسم المهرجين في لوحة «دون جوان دى استوريا» 1643 ونراه قد أظهره كإنسان بسيط يأخذ وضع محارب ساخر وقد ألقى الخوذة والدرع عند قدميه وتبدو في المؤخرة سفينة حربية، وسبب تسمية هذا المهرج «بإستوريا» هو أنه اسم لبطل معركة «ليبانتو» التي نشبت في 7 تشرين أول 1571. ومهرجو القصر استغلوا هذا للإيحاء بأنهم شخصيات مشهورة.
ورسم الفنان «الفرنسي» رينوار مجموعة من اللوحات عن السيرك في مدريد، وكذلك رسم الفنان الهولندي «كيس فون دونجن» في عام 1905 لوحة «المهرج الأحمر».
أما الفنان «بيكاسو» فقد رسم مجموعة لوحات حول المهرجين وحياة السيرك، وما يدور في الخفاء من حكايات حزينة.. وكان من عادة بيكاسو زيارتهم عدة مرات في الأسبوع في سيرك «ميدرانو» القريب من محترفه، فرسمهم في مراحل حياتهم الضاحكة والتعيسة، لذلك حلت رسوم البهلوانات والمهرجين بعد عام 1905 مكان المرضى والشحاذين وظهروا في رسومه بملامح تعيسة، وأثارت لوحات بيكاسو مثل «عائلة البهلوانات» «1905 » و«المهرج» «1915» تعاطف من شاهدها، وكان الشاعر الألماني RAINER RILKE أحد الذين تعاطفوا مع تلك الأعمال وأشخاصها الأغراب الذين لا يعرفون الاستقرار ولا يسعون إليه، وكان ذلك الشاعر في كل يوم يذهب إلى قصر الأميرة هيرتا فقط لمشاهدة لوحة بيكاسو «عائلة البهلوانات أو المهرجين». ونظم هذا الشاعر قصيدة بعد أن شاهد لوحة بيكاسو التي تتحدث عن حياة المهرجين قال فيها: «ولكن من هم هؤلاء، أخبرني أرجوك، من هم هؤلاء المهاجرون سريعو الزوال كما نحن الذين أتوا من الهواء الناعم المزيّت جيداً ليهبطوا على السجادة التي بليت بفعل قفزاتهم المتواصلة، هذه السجادة الضائعة اللون».
وفي عام 1924 رسم بيكاسو ابنه البالغ من العمر ثلاث سنوات في ثياب مهرج وأطلق على اللوحة اسم «بول كمهرج» وبذلك عبر بيكاسو عن سعادته الخاصة.. وأظهر من جديد حبه لهذا النوع الخاص من الملابس الذي عبر عنه خلال المرحلة الوردية من حياته الفنية.
كما كان الفنان الروسي «مارك شاغال» معجباً بالعالم الحالم للسيرك وكان مفتوناً بما يقدمه السيرك من رقص ومرح وموسيقى ولغة، فرسم في عام 1926 لوحة «البهلوانات الثلاث» وفي عام 1930 رسم لوحة «البهلوان» وفي عام 1950 رسم لوحة «السيرك الأزرق». أما الفنان« تولوز لوتريك» فقد رسم لوحة شهيرة للمهرج «فوتيت» وآخرين من الفنانين أمثال «جورج روه» والفنان « فرناند ليجيه».
وفي عام 2006 قدمت الفنانة الأمريكية «ميريديث كورسون» من رمال شاطئ مدينة ترافموندة قرب هامبورغ مهرجا يبتسم من خلف أنفه الأحمر وقبعته الواسعة ويكاد يسخر من فضول المارة ويغمز لهم.. لولا أن الفنانة لم تزوده بعينين، وقد شاركت الفنانة في هذا التمثال إلى جانب79 فناناً من دول أوروبية مختلفة تناولوا من خلال أعمالهم «عالم السيرك» الجميل بمهرجيه وبهلواناته وقد تصدر المعرض الذي أقاموه على الرمال تمثال كبير لمهرج يرتفع 12 متراً عن الأرض.
أما في العالم العربي فقد كان الفنان المصري «سيف وانلي» وأخوه «أدهم» أكثر اهتماما وقدما أعمالاً من وحي السيرك سواء لفرق محلية أو أجنبية. وقد أظهر كل منهما براعة وقدرة عالية في استخدام اللون وتبسيط الشكل واختزال المشهد للتعبير عن هذا الجو الفانتازي المثير.. وقدمه الفنان المصري إبراهيم حنيطر بلغة ساخرة للواقع السياسي، وكذلك الفنان عبد العزيز درويش في لوحته المسماة بـ «المهرج الحزين».
وإذا كان بيكاسو قد ذهب إلى ما يدور في الخفاء من حكايات حزينة، لم يحفل الفنان المصري حسام غربية بما يدور في الكواليس من حكايات ولا بالجو الضاحك الذي يشيعه مهرجو السيرك وإنما توقف عند السيرك باعتباره مجالاً لاستعراض ذكاء الإنسان وقدرته على تحدي المعتاد من الأمور اليومية وقدرته على الاحتفاظ بتوازن دقيق حسب قول الناقد محمود بقشيش.
وتناول الفنان التونسي «محمد شلبي» المهرج بصورة مركبة معلنة وإيجابية ربما إلى حد التهريج أحياناً، والمهرج هنا في داخله مهرج آخر يخفي جروحاً ومشاعر نطاردها بالعبث واللعب والتهويل والتعرية.
كما وجد الفنان العراقي «حيان جابر» في المهرج بيئة ثرية فأعجب بشكله المنوع جمالياً فانجذب إليه وعبر عنه في مجموعة من اللوحات.
أما الفنانة السورية شلبية إبراهيم التي تناولت المهرج بلباسه المميز في أكثر من لوحة.. فقد قدمته عبر إطار رقيق وشفاف في التراكيب والخطوط، والألوان بتدريجاتها المتنوعة، الحارة والباردة، المضيئة والخافتة… وكذلك بامتلاءاتها وفراغاتها، بمساحاتها وآفاقها.. وما يميز أعمالها التي تدور حول المهرج بأنها تخلو دائماً من التفاصيل الدقيقة وتكتفي بالملامح الخارجية وبلباسه المزركش.
ومن الفنانين الأردنيين الذين تناولوا المهرج بكثرة على مسطحات لوحاتهم، رائد الفن التشكيلي الأردني الفنان مهنا الدرة، الذي عمل من خلال ضربات الفرشاة على إظهار وجه المهرج ـ بشكله المرئي ـ بكل ما يحمل من تعبيرات ثرية وخطوط وملامح، ومن الواضح أن الدرة لم يكن يرسم وجه المهرج اعتماداً على العجائن اللونية من خلال لغة الألوان وحركة الفرشاة حسب، بل كان يرسمها بقلبه ومشاعره، لذا استطاع أن ينفذ من خلال تلك العجائن التي عكست نبض الحياة إلى روح الشخصية وأن يترجم مشاعرها بأعلى درجات الصدق والعفوية.
وإذا كانت مهنة المهرج لاتزال قائمة فإنها قد تلاشت ولم تعد تجد أي مكان لها خارج خيمة السيرك، الذي عبّر عنه همنغواي بالقول:
«هو العرض الوحيد الذي يوحي لمشاهديه أنهم يحيون في حلم سعيد.. ألا يكفي هذا سبباً لنعشق السيرك». لكن ذلك السيرك الذي يتحدث عنه همنغواي والذي يعمل فيه المهرج بدأ ينحسر، وانتهى ـ المهرج ـ في زمن الفضائيات لصالح الكوميدي، لأن المضحك العصري يمكن أن يكون موظفاً في أي مكتب أو مؤسسة أو سائق حافلة، أو حتى رئيس دولة مثلما فعل الممثل شارلي شابلن مع هتلر.
أخيراً يبقى المهرج الذي برز في آداب كل الشعوب منذ الحضارات الأولى حتى يومنا هذا كشخصية ذات أهمية خاصة بملابسه الرثة، والمبهرجة، وحذائه الكبير، وسرواله المتهدل وأنفه المصطنع الذي يشبه أنف الدمية، ومساحيقه التي ترسم ابتسامة دائمة حول شفتيه وحول عينيه، هي شخصية حميمة ومحببة إلى نفوسنا منذ الصغر، وجزء لا يتجزأ من مشاعرنا لذلك تعاطفنا وضحكنا معها.
غازي انعيم
المصدر: archive.kuwaitmag.com/print.jsp?id=1133
التاريخ :2009-10-24