Home | فنون جميله | هيئة قصور الثقافة تعيد اكتشاف شاعر الإسكندرية كفافيس والمأساة بترجمة سلام

هيئة قصور الثقافة تعيد اكتشاف شاعر الإسكندرية كفافيس والمأساة بترجمة سلام

ليس المهم في هذه القصائد ما تقوله، بل ما تنم عنه. تحسب أنك تقرأ حكاية من حكايات كل يوم، عن لقاء عابر، عن ليلة تضيئها الشموع، فإذا ما تقرأ هو في الوقت ذاته مأساة الإنسان إزاء قدره. تلهّفه على الموت وخوفه منه. أنا لم أر في هذه القصائد غير الملعقة الذهبية الصغيرة التي يدنيها كفافيس إليك، بها رحيق يسقيك به مثل هذا البحر الزاخر بالأحاسيس. عنده، كل ومضة شمس، وكل قطرة عصارة ألف عنقود. هذا هو الشعر في بساطته وإنسانيته، أثره عند السامع لا بد ان يتصاعد من الإعجاب الى الطرب، الى اللذة الى النشوة، ثم الى الهزة التي ترجّ الروح رجاً لتبحر نحو الشاطئ من بعيد، نحو الضباب، نحو السراب، لا تدري” هذه كلمات معلمنا الراحل الكبير يحي حقى والتى ضمنها نعيم عطية مقدمة ترجمته لأعمال كفافيس ، شاعر الإسكندرية اليونانى الأشهر، الذى لاتزال بعض قصائد ه لفرط إنسانيتها وعمقها وقدرتها على التقاط القوانين التى تقف وراء الكثير من الظواهر وقدرته الفذة كذلك على التقاط الكلى عبر المتناثر والجزئى ، وتميزه بأداء سردى هادىء ، لاتزال قصائده تلهم الفنانين على اختلاف أنواع الفن الذى يمارسونه ، فقديما لفتت شخصية كافافيس وحضوره الشعرى والإنسانى الفذ نظر لورانس داريل ، واعتبره مكونا أصيلا من مكونات وأوجه معشوقته الإسكندرية فاستلهم تلك الصورة فى روايته المهمة ” رباعية الإسكندرية ” كما استلهم المخرج يسرى نصر الله قصيدته “المدينة “وكذلك المخرج إبراهيم البطوطى قصيدته ” إيتاكا “ولم يكن المسرح بعيدا عن ذلك حيث أعد أكثر من عرض مسرحى عن نصوص وقصائد كفافيس ليس آخرها عرض ” فى انتظار البرابرة ” الذى قدمته فرقة سورية فى مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى فى دورته الأخيرة .
نتذكر هذا بمناسبة صدور الأعمال الكاملة لكفافيس عن الهيئة العامة لقصورالثقافة مؤخرا ، ترجمها وقدم لها الشاعرالمصرى الكبير رفعت سلام الذى ضمنها أيضا قراءات إ. م. فورستر و. هـ. أُودِن، ج. بَاورسُـوك فى أعمال كفافيس ،بالإضافة إلى ترجمته لقصائد لم تنشر من قبل لكفافيس ، وهو ما يجعل قيمة الكتاب مضاعفة ، وإن كانت أشعار كفافيس وحدها تكفى وزيادة ، خاصةإذا توفر لها مترجم شاعر مثل رفعت سلام ، لنعد هذه الخطوة التى قامت بها الهيئة العامة لقصور الثقافة والشاعر رفعت سلام بمثابة التأكيد على دور الهيئة فى إثراء الحياة الثقافية بالصناعات الثقافية الثقيلة .
معلومات كثيرة يمكنك أن تعرفها عن كفافيس بمجرد البحث فى جوجل أوالقراءة عنه ، غير أن أوثقها بالتأكيد ما يمكن أن نعرفه من هذا الكتاب الذى توفر له شاعر كبير مثل سلام ، يعرف قيمة الشعر والشعراء، ويتسم فى أعماله بالرصانة والموضوعية والقدرة على التدقيق والتحقيق والمتابعة وبذل الجهد والاهتمام اللازم لإنجاز الأعمال التى يقدمها للقاريء ، ومن مقدمة سلام للأعمال الكاملة نعرف أن كفافيس ، أو أو قسطنطين كڤافيس، أو كڤافي، وفقًا لما يعرفه اليوم العالم غير اليوناني؛ هو الإبن التاسع والأخير لبيتر جون كڤافيس وخاريكليا فوتيادي، ابنة تاجر الماس جورج فوتيادي (وكانت آنذاك في الرابعة عشرة. تركها في بيت أمه في بيرا، وعاد- في العام التالي- ليصطحبها مع ابنها الأول إلى انجلترا). وفي أغسطس من ذلك العام (1850)، حصل على الجنسية البريطانية، وقضى- هو وعائلته- الأعوام القليلة التالية في ليڤربول. وفي أواخر عام 1854 أو أوائل عام 1855، انتقلت الأسرة إلى الإسكندرية، وُلٍد قسطنطين- أصغر الأبناء- في 17 أبريل 1863. قضى سنواته الأولى، في منزلهم الأنيق بشارع شريف باشا، الذي وُلد فيه. وحين كان في السابعة، توفي والده عام 1870، عن ميراث هزيل للغاية، لأنه عاش ببذخ ليحافظ على مكانته، ليترك الأسرة في حاجة ماسة إلى إعالتها. وبعد عامين، انتقلت خاريكليا وأبناؤها السبعة الباقون من الموت إلى انجلترا، كانت الأعوام التي قضاها كڤافيس بلندن- بين التاسعة والسادسة عشرة من عمره- هامةً في تشكيل حساسيته الشعرية. وفضلاً عن قراءته الأدب الإنجليزي، فقد أصبح مطلعًا تمامًا على اللغة الإنجليزية، ومعتادًا على الطرائق الإنجليزية، حيث ظل تأثيرهما معًا عليه مستمرين طوال حياته (رُوِي أنه كان يتحدث لغته اليونانية الأم بلكنة إنجليزية طفيفة حتى يوم وفاته). وكتب قصيدته الأولى بالإنجليزية (بتوقيع قسطنطين كڤافيس)، وتكشف محاولاته الشعرية والنقدية التالية عن علاقة حميمة بالتراث الشعري الإنجليزي، وخاصة أعمال شيكسبير وبراوننج وأوسكار وايلد. وفي يونيو 1882، لدى قصف البوارج البريطانية للإسكندرية، هرب معظم الأجانب من المدينة ،وانتقل كفافيس مع أمه وبعض من أخوته إلى قسطنطينية ، لفترة ثلاث سنوات، حيث أعطاهم أبوها غرفةً في منزله، وقد كانت هذه أيضا مرحلةً أخرى هامةً في تطور حساسية كڤافيس. ففي بيت جده، أصبح كڤافيس على علاقة حميمة بتاريخ أسلافه وإسهاماتهم في الجالية اليونانية. وخلال الأعوام الثلاثة درس التاريخ البيزنطي والإغريقي، الذي أصبح مثار اهتمامه طوال حياته التالية، وموضوع الكثير من قصائده. كما واصل دراسته للغات الأجنبية؛ قرأ- في البداية- أعمال دانتي بلغتها الأصلية، وكتب قصائده الأولى- بالإنجليزية والفرنسية واليونانية- خلال هذه الحقبة، ومارس- فيما يبدو- علاقاته الجنسية المثلية الأولى. وثمة بعض الشواهد على أنه بدأ التفكير في العمل بالسياسة أو الصحافة، لكنه لم يلق تشجيعًا لعدم التحاقه بمدرسة رسمية. وخلال إقامته في القسطن
طينية أيضًا، اهتم بالديموطيقية اليونانية، ، وقرأ “إيروتوكريتوس كورناروس” حوالي عام 1650؛ وأصبحت علاقته حميمةً بالأغاني الشعبية اليونانية التي استمرت شفاهيةً عبر القرون. قرأ أيضًا الشعر اليوناني الحديث، المكتوب سواء بالفصحى أو الديموطيقية، وعلى نحو خاص شعر ديونيسيوس سولوموس، الذي تحول في كتابته إلى الكتابة بالديموطيقية اليونانية، والذي أصبح فيما بعد شاعر اليونان القومي. وعلى مدى السنوات السبع التالية، واصل كڤافيس تكريس وقته للدراسة والكتابة. قرأ بتوسع في الأدب والتاريخ البيزنطي والهيلليني؛ وأُعجب- على نحوٍ خاص- بكُتاب الإبيجرامات البيزنطيين والسكندريين القدامى وخلال هذه السنوات، قرأ بكثافة الأدب اللاتيني والفرنسي والإنجليزي. عاد كفافيس إلى الإسكندرية عام 1885- و عمل كمراسل لصحيفة “تليجراف” السكندرية؛ ومع عام 1888، عمل بالبورصة المصرية. لكنه طموحه الأكبر- خلال هذه السنوات- كان موجهًا لكتابة القصائد وبعض المحاولات النثرية. وفي التاسعة والعشرين من عمره، عُين كڤافيس موظفًا بالقطعة بمصلحة الري لثلاث سنوات،. ووفرت له هذه الوظيفة الدخل الأساسي الوحيد، بالإضافة إلى بعض مكاسب المضاربات (أحيانًا ما كانت كبيرة) في البورصة المصرية التي اعتمدته كسمسار عام 1894. لكن جنسيته اليونانية وقفت حائلاً دون أن يصبح ضمن ما يُسمى “الهيئة الدائمة” للمصلحة، التي كانت مقتصرةً على الشؤون البريطانية أو المصرية؛ لكن مرتبه ازداد زيادات منتظمة على مدى سنوات عمله الوظيفي ، وأحيل إلى المعاش عام 1922. ولم يغادر الإسكندرية حتى وفاته بسرطان الحنجرة عام 1933. ورُوي أن آخر ما فعله أنه رسم دائرةً على ورقة بيضاء، ثم وضع في منتصف الدائرة نقطة.
في 4 فبراير 1890، توفيت أمه فجأةً بأزمة قلبية، وهي التي كان يعيش معها وتعتبره ابنها المدلل. ولم تكن وفاتها سوى بداية سلسلة من الوفيات الأسرية التي وقعت خلال أعوام قليلة. وفي عام 1908، أقام كڤافيس في شقة 10 شارع ليبسيوس، التي استقر فيها بقية حياته.
ويقال إن كڤافيس كان يكتب حوالي سبعين قصيدةً كل عام. ومع ذلك، فلم يكن يحتفظ منها سوى بأربع أو خمس، ويبدد الباقي. ومن حين إلى حين، كان يرسل قصائده إلى المجلات، لكنه كان يفضل طريقةً أخرى، غير مباشرة، لاختبار قيمة أعماله، تكمن في إرسال نسخ من قصائده إلى أصدقائه؛ وبعد إطراء الأصدقاء الذي يثبت له قيمة قصائده، كان يبعث بها إلى المجلات. وقد نشر مجموعته الشعرية الأولى عام 1904- حين كان في الحادية والأربعين- وتضم أربع عشرة قصيدة. وفي عام 1910، نشر مجموعته الشعرية الثانية مضيفًا اثنتي عشرة قصيدة إلى الأربع عشرة التي تضمنتها مجموعته الأولى. ونشرت مجلة “الحياة الجديدة” قصائده بانتظام منذ عام 1908 إلى 1918. كما نشرت مجلة Ta Grammata- وهي مجلة سكندرية أخرى تأسست عام 1911- الكثير من قصائده. وبمرور الوقت، بدأت قصائده تعرف طريق النشر على نطاق متزايد في اليونان، وطريق الترجمة إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والإنجليزية. لكنه لم ينشر كتابًا آخر خلال البقية الباقية من حياته. والطبعة الأولى الشاملة لقصائده- التي لم تضم قصائده الأولى- نشرت عام 1935، بعد عامين من وفاته.
وكان لأناستاسياديس دور كبير في التعريف بشعر كڤافيس في العالم غير اليوناني؛ فهو الذي قدم كڤافيس إلى الروائي فورستر خلال الحرب العالمية الأولى، حين جاء فورستر إلى الإسكندرية كمتطوع في الصليب الأحمر. وقدم فورستر- الذي أصبح صديقًا لكڤافيس- قصائده إلى إليوت وأرنولد توينبي ود. هـ. لورنس وآخرين. وقد أهدى فورستر الطبعة الثانية لكتابه “الإسكندرية: تاريخ ودليل” (1938) إلى كڤافيس. ويضم كتابه “فاروس وفاريلون”، المنشور عام 1923، مقالةً مثيرةً وطريفةً عن الشاعر. وفي عام 1940، في الذكرى السادسة عشرة لوفاة كڤافيس، كتب فورستر إلى أناستاسياديس: “إنني كثيرًا ما أفكر في حسن حظي والفرصة التي منحتها لي مصادفة حرب رهيبة لأقابل واحدًا من أعظم شعراء عصرنا”.
وبعد الإحالة إلى المعاش من وزارة الري عام 1922، كان كڤافيس يقضي أيامه مع كتبه وكتاباته. يجيء الأصدقاء ليروه، وأحيانًا الزائرون من بلدان أخرى. ويخبرنا ميخائيل بيريديس- الذي كان كثيرًا ما يزوره في 10 شارع ليبسيوس- أن شقته كانت تتألف من صالة طويلة مصفوفة بالكتب، وغرفة معيشة تحتل اتساع المنزل، مع كنبة كبيرة وبعض قطع الأثاث الأخرى ذات الطراز العربي، وغرفة نوم تُستخدم أيضًا غرفة مكتب.. وفي المساء، كان كڤافيس يتمشَّى إلى المقهى المجاور، حيث يكون في انتظاره دائمًا مجموعة من الأصدقاء والمعجبين، ليحتسوا القهوة التركية معه، ويستمعوا إلى صوته الشبيه بنغم الأرغن. يعدون له مكانًا وسط المجموعة، ولو كانوا قد بدأوا مناقشةً قبل مجيئه، فإنهم يعودون إلى بدايتها من أجله. قد يدور الحديث عن الشعر أو التاريخ أو الأحداث المعاصرة. وأحيانًا ما كان يتحدث عن أشعاره وعن نفسه:
الكثير من الشعراء شعراء على وجه الحصر.. أما أنا، فإنني شاعر مؤرخ. أنا، أنا لا أستطيع كتابة رواية أو مسرحية، لكني أشعر- في دواخلي- بمائة وخمسة وعشرين صوتًا تخبرني أنني قادر على كتابة التاريخ. لكن لم يعد هناك مزيد من الوقت الآن.
في يونيو 1932، ظهرت على كڤافيس أعراض سرطان الحنجرة . ساءت حالته، وسافر إلى أثينا. ودخل مستشفى الصليب الأحمر في 4 يوليو، وأجريت له العملية الجراحية التي أسفرت عن فقدانه الكامل لصوته. وعاد إلى الإسكندرية في أكتوبر. وفي بدايات عام 1933، نُقل إلى المستشفى اليوناني بالإسكندرية، حيث قضى الشهور الأخيرة من حياته. وتوفي في 29 أبريل، ودفن في اليوم التالي في مدفن الأسرة بمقابر الجالية اليونانية بالإسكندرية.
هذا بعض مما سرده مترجم الكتاب الشاعر رفعت سلام عن حياة كفافيس قبل ان ينتقل لتأمل هذه الحياة ونقد بعض ما شاع عن الشاعر مثل القول بأنه كان شخصية انعزالية ، كذلك علاقاته بالمرأة ومصادره إلهامه الشعريه التى تكمن ـ حسب المترجم ـ فى هوامش التاريخ القديم ، وما يبدو لغالبية الناس علاقات حب فضائحية. ورغم وعيه العميق بروعة وامتداد التراث اليوناني، فإن خياله لا يجد موضوعاته لدى هوميروس ولا عصر بريكليس، بل في الدمج الهيللينستي للثقافات والأجناس في مدن مثل الإسكندرية أو أنطاكية، حيث اليونانيون واليهود والوثنيون والمسيحيون والسفسطائيون والقساوسة والبرابرة، يشكلون نمطًا مركبًا بعيدًا عن نمط عصر بريكليس. فعالمه هو العالم الذي قد يعتبره الكثيرون “انحطاطيًّا”. هو عالم بلا أية عظمة ملحمية أو غنائية أو تراجيدية. لكنه- مع ذلك- عالم كان قائمًا ويقوم دائمًا، ويمكن دراسته بموضوعية ودقة. .ويعود الشاعر المترجم رفعت سلام لتأمل عالم كفافيس الشعرى متتبعا بعض خيوطه التى تتجلى فى عدد من القصائد التى يتوقف عندها سلام ، بحاستة الشعرية المخصوصة وذوقه النقدى المحمل بخبرات شاعر وقاريء للشعر من نوع فريد . وعن أهمية هذا الكتاب وما يمثله يقول سلام : أظن أن صدور هذا الكتاب سيمثل- في أحد وجوهه- درسًا مقارنًا مفيدًا للمعنيين بالشعر العربي؛ إذ سيكشف كيفيةً جديرةً بالاحترام في تعامل العالم مع تراث الشعراء الكبار: التوثيق الدقيق لكل شاردة وواردة متعلقة بالقصائد أو شاعرها، والنشر المنهجي لجميع أعمال الشاعر على وجه الحصر، حتى ما أوصى بعدم نشره، باعتبار أن تراث الشاعر ليس ملكيةً خاصةً بأحد يملك منعه أو منع بعض منه، بأي مبرر، وهو- النشر- ما يُمكِّن من دراسة أعمال الشاعر دراسةً علميةً رفيعة، لا تسعى إلى إضفاء أبعاد وهمية على مسيرته الشعرية، أو اعتسافها واجتزائها لتقتصر على نتاج مرحلةٍ معينة بلا سياق متكامل (ما نزال حتى الآن نفتقر- على سبيل المثال- لطبعة عربية كاملة موثوقة وموثقة لأعمال شعرائنا في القرن العشرين، على الأقل، من شوقي إلى صلاح عبدالصبور والسياب وأمل دنقل وغيرهم).
ما أكثر الدروس الشعرية والنقدية والثقافية- بل حتى الأخلاقية- التي تنطوي عليها هذه الأعمال، الشعرية والنقدية.هذا مايختم به الشاعر رفعت سلام مقدمة ترجمته للأعمال الكاملة لكفافيس والذى صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة وهو نفسه ما نحب أن نردده وراءه علنا ننصت إلى هذه الدروس ونعيها .. وهذه بعض قصائد الكتاب :

نشَـأتُ مِن أَجلِ الفَن

أجلِسُ فِي حَالٍ مِن التَّأمُّـل.
لَقَد نَشَأتُ مِن أجلِ رَغَبَاتِ الفَنِّ وَأحَاسِيسِه :
أشيَاءٌ ضَبَابِيَّة،
وُجُوهٌ أو خُطُوط،
بَعضُ ذِكرَيَاتٍ غَائِمَةٍ لِعِلاَقَاتِ حُبٍّ مُجهَضَة.
فَلأُعَوِّل عَلَى الفَن :
فَالفَنُّ يَعرِفُ كَيفَ يَصُوغُ أشكَالَ الجَمَال،
الَّذِي يُكمِلُ الحَيَاةَ- غَالِبًا- بَصُورَةٍ غَيرِ مُدرَكَة،
وَهوَ يُمزِجُ الانطِبَاعَاتِ، يَمزَجُ الأيَّـام.

فِي انتِظَارِ البَـرَابِرَة

مَا الَّذِي نَنتَظِر، وَنَحن مُحتَشِدُون فِي السَّاحَةِ العَامَّة؟
مِن المُنتَظَرِ وُصُولُ البَرَابِرَةِ اليَوم.
لِمَ لاَ يَحدُثُ أيُّ شَيءٍ فِي مَجلِسِ الشُّيُوخ؟
لِمَاذَا يَجلِسُ الشُّيُوخُ هُنَاكَ دُونَ سَنٍّ لِلقَوَانِين؟
لأنَّ البَرَابِرَةَ سَيَأتُونَ اليَوم.
فَأيَّ قَوَانِينَ يَسُنُّهَا الشُّيُوخُ الآن؟
فَعِندَمَا يَصِلُ البَرَابِرَةُ، سَيَتَوَلُّون سَنَّ القَوَانِين.
لمَاذَا يَنهَضُ امبِرَاطُورُنَـا مُبَكِّرًا هَكَذَا؟
وَلِمَاذَا يَجلِسُ عِندَ البَوَّابَةِ الرَّئِيسِيَّةِ لِلمَدِينَة،
عَلَى العَرشِ، فِي أُبَّهَةٍ، وَهوَ يَلبَسُ التَّاج؟
لأنَّ البَرَابِرَةَ سَيَأتُونَ اليَوم.
وَالإمبرَاطُورُ يَنتَظِرُ لاستِقبَالِ قَائِدِهِم،
بَل إنَّه أعَدَّ وَثِيقَةً لِيُقَدِّمَهَا لَه،
مَلِيئَةً بِالألقَابِ وَالأسمَاءِ المهِيبَة.
لِمَاذَا يَجِيءُ قُنصُلاَنَا وَقَاضِيَانَا اليَوم
وَهُم يَرتَدُونَ ثِيَابَهُم المُطَرَّزَةَ، وَأردِيَتِهِم الرَّسمِيَّةَ القُرمُزِيَّة؟
لِمَاذَا يَضَعُون القَلاَئِدَ المُطَعَّمَةَ بِالأحجَارِ الكَرِيمَةِ الكَثِيرَة؟
وَالخَوَاتِمَ التِي تَتَلألأُ بِالزُّمُرُّدِ الرَّائِع؟
لِمَاذَا يَحمِلُون العِصِيَّ الفَاتِنَة
المُطَعَّمَةَ – فِي جَمَال – بِالذَّهَبِ وَالفِضَّة؟
لأنَّ البَرَابِرَةَ سَيَأتُون اليَوم.
وَمِثلُ هَذِه الأشيَاءِ تُبهِرُ البَرَابِرَة.
وَلِمَاذَا لاَ يَتَدَافَعُ خُطَبَاؤُنَا المُفَوَّهُون – كَمَا المُعتَاد –
لِيُلقُوا خُطَبَهُم، وَيَقُولُوا مَا يَنبَغِي عَلَيهِم أن يَقُولُوه؟
لأنَّ البَرَابِرَةَ سَيَأتُونَ اليَوم.
وَهُم يَضجَرُونَ مِن الخَطَابَةِ وَالأحَادِيثِ العَامَّة.
لِمَاذَا هَذَا الارتباكُ المُفَاجِئُ، وَهَذِه الفَوضَى؟
(كَم تَتَغَيَّرُ وَجُوهُ النَّاسِ إلَى التَّجَهُّم)
لِمَاذَا تَخلُو الشَّوَارِعُ وَالمَيَادِينُ بِهَذِه السُّرعَة،
وَكُلُّ وَاحِدٍ يَعُودُ مَهمُومًا إلَى بَيتِه؟
لأنَّ اللَّيلَ قَد حَلَّ دُونَ أن يَأتِي البَرَابِرَة؟
وَبَعضُ مَن وَصَلُوا لِتَوِّهِم مِن الحُدُود
يَقُولُون إنَّ البَرَابِرَةَ لَم يَعُد لَهُم وُجُود.
وَالآنَ مَا الَّذِي سَيَحُلُّ بِنَا بِلاَ بَرَابِرَة؟
لَقَد كَانُوا، هَؤُلاَء النَّاس، نَوعًا مِن الحَل

أسوار

بِلاَ أيِّ اعتِبَارٍ، أو شَفَقَةٍ، أو خِـزي،
أقَامُوا حَولِي جُدرَانًا سَمِيكَةً وَعَالِيَـة.
وَهَا أنَا الآنَ أجلِسُ هُنَا فِي يَأس.
لاَ يُمكِنُنِي التَّفكِيرُ فِي أيِّ شَيءٍ آخَـر؛
هَذَا المَصِيرُ يَنهَشُ عَقلِي-
فَلَدَيَّ الكَثِيرُ مِمَّا يَنبَغِي عَمَلُه فِي الخَارِج.
آهِ كَيفَ لَم أُلاَحِظهُم
وَهُم يُقِيمُونَ الجُدرَان!
لَكِنَّنِي لَم أسمَع أبَدًا
صَوتَ البَنَّائِينَ وَلاَ صَخَبَهُم.
بِلاَ وَعيٍ مِنِّي، حَبَسُونِي عَن العَالَم.

رَجـلٌ عَجُـوز

فِي أعمَاقِ المَقهَى الصَّاخِبَـة،
يَجلِسُ وَحِيدًا رَجُلٌ عَجُـوز،
مَحنِيَّ الرَّأسِ عَلَى المِنضَدَة،
وَأمَامَه جَريـدَة.
فِي رَثَاثَةِ شَيخُوخَتِه البَائِسَـة،
يَتَأمَّلُ كَيفَ أنَّه قَلِيلاً مَا استَمتَعَ بِالأعوَام
حِينَ كَانَت لَدَيه القُوَّةُ، وَالفَصَاحَةُ، وَالجَمَال.
يَعرِفُ أنَّه قَد شَاخَ كَثِيرًا : يَرَى وَيُحِسُّ ذَلِك.
إلاَّ أنَّه يَبدُو كَأنَّه كَانَ شَابًّا حَتَّى الأمس.
يَا لَه مِن زَمَنٍ قَصِير، قَصِيرٍ لِلغَايَـة.
يَتَعَجَّبُ كَيفَ خَدَعَته الحِكمَـة،
كَيفَ كَانَ يُصَدِّقُ دَائِمًا – يَا لَلجُنُون –
تِلكَ الكِذبَةَ التِي تَقُولُ : “إلَى الغَد. فَلَدَيكَ وَقتٌ وَفِير”.
يَتَذَكَّرُ النَّزَوَاتِ المَقمُوعَـة،
وَالمَبَاهِجَ التِي ضَحَّى بِهَا.
فَكُلُّ فُرصَةٍ ضَائِعَةٍ تَهزَأُ الآنَ مِن حِكمَتِه البَلِيدَة.
لَكِنَّ هَذَا التَّفكِيرَ الطَّوِيلَ، هَذَا التَّذَكُّرَ الطَّوِيل
يُصِيبُ العَجُوزَ بِالدُّوَار.
يَهوِي نَائِمًا،
وَرَأسُه تَستَقِـرُّ عَلَى مِنضَدَةِ المَقهَى.

دُعَـاء

ابتَلَعَ البَحرُ بَحَّارًا فِي أعمَاقِه.
بِلاَ وَعيٍ، تَذهَبُ أُمُّه وَتُشعِلُ شَمعَةً طَوِيلَـة
أمَامَ أيقُونَةِ العَذرَاء،
تَدعُو لَه بِالعَودَةِ العَاجِلَة. وَلِلطَّقسِ بِالصَّحو
وَأُذُنُهَا مُرهَفَةٌ دَائِمًا لِلرِّيح.
وَفِيمَا تَدعُو وَتَبتَهِل،
تَستَمِعُ الأيقُونَةُ – جَلِيلَةً، حَزِينَة –
وَهيَ تَعلَمُ أنَّ الإبنَ المُنتَظَرَ لَن يَعُودَ أبَدًا.

شُمُـوع

تَنتَصِبُ الأيَّامُ القَادِمَةُ أمَامَنَا
مِثلَ صَفٍّ مِنَ الشُّمُوعِ المُضَاءَة-
شُمُوعٍ ذَهَبِيَّةٍ، دَافِئَةٍ، وَمُفعَمَةٍ بِالحَيَوِيَّـة.
وَالأيَّامُ المَاضِيَةُ تَتَسَاقَطُ وَرَاءَنَا
مِثلَ خَطٍّ كَئِيبٍ مِن الشُّمُوعِ المُنطَفِئَة؛
مَا يَزَالُ أقرَبُهَا يُرسِلُ الدُّخَان،
بَارِدًا، ذَائِبًـا، مَحنِيًّا.
لاَ أُرِيدُ النَّظَرَ إِلَيهَا : فَشَكلُهَا يُحزِنُنِي،
وَيُحزِنُنِي أن أتَذَكَّرَ ضَوءَهَا القَدِيم.
أتَطَلَّعُ أمَامِي إلَى شُمُوعِي المُضَاءَة.
لاَ أُرِيدُ أن أستَدِيرَ خَوفًا مِن أن أرَى – فِي رُعب –
بِأيَّةِ سُرعَةٍ يَزدَادُ طُولاً هَذَا الخَطُّ المُعتِم،
بِأيَّةِ سُرعَةٍ تَتَكَاثَرُ الشُّمُوعُ المُنطَفِئَـة.

المَدِينَـة

قُلت : “سَأمضِي إلَى أمَاكِنَ أخرَى،
إلَى بِحَارٍ أخرَى،
وَأعثُرُ عَلَى مَدِينَةٍ أخرَى أفضَل مِن هَذِه.
فَكُلُّ حَرَكَةٍ أُقدِمُ عَلَيهَا مَحكُومَةٌ بِالخَطَأ
وَقَلبِي، كَشَيءٍ مَيِّتٍ، يَرقُدُ مَدفُونًا بِدَاخِلِي.
إلَى مَتَى سَيَكُونُ عَلَى عَقلِي أن يَذوِي هَكَذَا؟
فَأينَمَا اتَّجَهتُ، أينَمَا نَظَرت،
أرَى الحُطَامَ الأسوَدَ لِحَيَاتِي، هُنَا،
حَيثُ قَضَيتُ سِنِينَ كثِيرَة
أضَعتُهَا، دَمَّرتُهَا بِكَامِلِهَا كُلَّهَا “.
لَن تَجِدَ أمَاكِنَ أُخرَى، وَبِحَارًا أخرَى.
فَالمَدينَةُ سَتَتبَعُك.
وَسَتَمشِي فِي نَفسِ الشَّوَارِع، وَفِي نَفسِ المَنَاطِقِ تَشِيخ،
وفِي نَفسِ هَذِهِ البُيُوتِ تَرقُبُ نَفسَكَ وَأنتَ تَشِيب.
وَسَتَنتَهِي دَائِمًا إلَى هَذِهِ المَدِينَة.
فَلاَ تَتَطَلَّع إلَى شَيءٍ فِي مَكَانٍ آخَر :
لاَ سَفِينَةَ لَك، لاَ طَريق.
فَطَالَمَا خَرَّبتَ حَيَاتَكَ هُنَا، فِي هَذَا الرُّكنِ الصَّغِير،
فَقَد دَمَّرتَهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِن العَالَم.

كفافيس كفافيس