بقلم : الدكتور سامي يوسف جركس
فالثورة بنضالها للحرية تنقذ المجتمع لكن بواسطة جراحة مؤلمة للغاية ،و الثقافة هي المحصلة العضوية للمعرفة و المهارة التي تميز كل المجتمع ، وحتى يكون الفن قادرا على أن يغير قدرته ، لا بد أن يتعالى الفنان عن الحياة اليومية مثلما يتعالى الثوري عن الواقع السياسي . و المفروض في العمل الفني أن يظهر للعيان النمو التدرجي لصورة ، لفكرة ، لحجة ، لحبكة حتى بلوغ أوجها، اذ أن الفنان الذي يبدع هذا الشكل و المتفرج الذي يتذوقه ليسا بآلتين فارغتين أولاهما منذورة لابداع الشكل و ثانيتهما لتثمينه و تقديره .
فالعمل الفني يجب أن يحاكم قبل كل شيء بموجب قوانينه الخاصة أي بموجب قوانين الفن ، حيث ان تاريخ الفن وحده القادر على أن يفسر لنا لماذا و كيف ظهرت الاعمال الفنية في هذه الحقبة التاريخية أو تلك ؟، هذا الاتجاه الفني و ذاك أي من عبر عن حاجة الى تلك الاشكال الفنية دون غيرها و لماذا ؟. حيث يترافق مع الحياة الفنية التشكيلية أدب فني ، ومبدأ هذا الادب أنه عليه اتخاذ الادب وسيلة لاثراء الأفراد و الجماعات ثقافيا ولا يجب أن يكون ذا هدف فردي مستقل عن القضية العامة ، وعلى أن الادب الثوري منه عليه أن يكون جزءا من القضية الخاصة بتقدم المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعيةحيث أن الأدب ينظر الى العالم بعيون الطليعة ، وموضوع الأدب الفني في حرية النضال المقاوم في الحياة التشكيلية كان دائما هو الانسان في العالم .
و كتابة الأدب السياسي طريق من طرق ارادة الحرة . و وظيفة الفنان التشكيلي ليست ابهاج الجمهور بل الامساك به من خناقه و اعادة تنظيم العالم على أنه صادر عن الحرية على أساس أن الأديب الفني و السياسي شاهد على العصر ، وأساس الأدب العظيم في رأي “لوكاتش” :- ( العالم المشترك للناس الايقاظ و هو عالم الناس الذين يكافحون في المجتمع و يعملون في كفاح مع بعضهم بعضا و من أجل بعضهم بعضا و ضد بعضهم بعضا و ليسوا سلبيين لا يحس أحدهم بوجود الآخر) .
فاذا كانت الواقعية الاجتماعية تستهدف الانسانية و ثورة النضال لحرية الشعب فلابد كذلك الامر أن تستهدف له المستقبل الوردي بحيث تكون نهاية نضاله لأجل الحرية مضيئة في ظل الواقع .
لا يعني على الاطلاق نقل صورة الواقع بل محاكاة نشاطه حيث أن الواقعية لا تطالب العمل الفني بأن يعكس الواقع في شموله ، وذلك بان يرسم خط السير التاريخي لمرحلة معينة أو لشعب معين ، وأن يعبر عن الحركة الاساسية للمجتمع و عن أبعاد المستقبل فكل ذلك مطلوب من الساسة لا من الفنان و القيمة الاخلاقية للفن لا تتمثل في اسداء النصائح أو توجيه المواعظ بل في ايقاظ وعينا ، و القضية الأساسية بالواقع و بالحياة هو الموضوع الأساسي في الفن “النضال لأجل الحرية” . ان العمل الفني له غاية، غير ان غايته في ذاته، لانه بمجرد وجوده يحقق لونا من ألوان الحركة الشعورية . وهذه ذاتها غاية انسانية حيوية .
و نطلع الى الرسم الذي قدمه الفنان الامريكي “جوسبر جونز”(1930جنوب كارولينا) و دعاه “الهدف” سنة 1955 ليؤكد على خصوصيته بين الكثيرين من الفنانين الامريكيين المعاصرين الذين أتاحت الحرية المطلقة لهم أى يتساءلوا عن جدوى ما يعملون .
فأعمال “جوسبر” غاية في البساطة ، و المعروف بتواضعه و تحفظه بأسلوبه “بالدادائية”^ Dadaism ، و المعروف أن “جوسبر” بعد قضائه سنتين كجندي في الخدمة العسكرية الاميركية متدربا على شتى أنواع القتال المفروضة عليه كمقتال عسكري و منها الرماية على الاهداف الوهمية و ما شابه ، الى أن تتحول هذه الرماية الى أهداف حية في حرب “فيتنام”، فمشاعره كفنان غلبت عليه في تعبيراته تجاه الحرب ، وفي عام 1954 وفي لحظة انفعالية قام باتلاف كل أعماله ، و في عام 1955 قدم عمله ” الهدف” كتعبير عن الاهداف الحية التي قتلت في حرب “فيتنام” حيث وضع قوالب من الجص لأشكال آدمية متسمة بالكثير من الغموض عبر ادخال الوجوه الآدمية خلف لوحة “الهدف” ، و أنه من خلال هذه الاشكال المتجاورة كان يثير كوامن كثيرة للفكر، و كان مولعا بعادة رش الحبر فوق رسومه جميعا حال الانتهاء منها . و يستثير “جاسبر جونز” بصفته استاذا متمكنا من أدائيته و متفردا بخصوصيته الدهشة و الحيرة و المشاعر الغامضة في ايطار “الدادائيين” . فلوحة “الهدف” تخاطب العقول و الضمائر و تعطي الوعي و الوعظ للشعب الامريكي و غيره حول تجنيده في حروب ضد الشعوب الاخرى ، و ما تخلفه من اعتداء على الانسانية و سلب مقومات عيشها بقتلها و سفك دمها ، و اغتصاب أراضيها و شرذمة استقلالها ، و تدنيس الحريات العامة ،وشرعة حقوق الانسان وتهشيم حق الانسان في الحياة.
^- الدادائية : Dadaism مدرسة فنية تهاجم جميع الأشكال التقليدية للفنون و تدعى Antidada و مصطلح الدادا Dada طرح عام 1916 ليدل على رد فعل ضد وحشية الحرب و تستهدف تدمير الفن مع المجتمع البرجوازي و سياسة الظلم و الاستبداد ، فهي ليست ضد الفن عامة بل ضد سؤ استخدامه ، وهي ضد المجتمع اللانساني .
و أخذت من المستقبلية و الاعتماد على التجريب و تهتم بالحرية المطلقة و تقف ضد القواعد و المثل و التقاليد و شعارها الأساسي ( لا شيء). هذه المدرسة تضم فنانين من فرنسا أمثال “تريستان تزار” و “مارسيل جانكو”و”هانز أرب” و “ريتشارد هوبلسنيك” من المانيا . التقوا في “القاهرة” و أسسوا مجتمعا فنيا ترفيهيا ذات أنشطة فنية مختلفة دعوها الدادا Dada تعني “الحصان الدمية”(اللعبة).
ألفن عموما لأكثر منجزات الفنانين العظام يستمد زخم عظمته من مسرح التاريخ، فهل يمكن أن نفترضه تاريخا ؟ طالما هو يصدر حوادث جرت و يتمثل أبطالا عاشوا ووقائع حدثت؟. و هل يشترط في الفنان أن يكون مؤرخا رغم الذي يستمده الفن من التاريخ ؟ كون التيارات الفنية في بعض الاحيان لا تتماشى مع الظروف التاريخية ، وقد تبدو شاحبة تبعا للقول المأثور :-” الفنون في عصر من العصور مرآة لذلك العصر”، و كون الأزمات السياسية و العسكرية قد لا تلاحظ في كثير من أعمال الفنانين التشكيلين و قد تكون مبتورة، ورغم ذلك يلحقهم المجتمع في صفوف الخالدين ، لذا فلولا الثناء الذي يكون حافزا للفنان على التقدم و العمل ، لظلت جذوة الفن خامدة، وبواعث الابداع ضعيفة، وأسباب العطاء سرابا.
ولولا روح المعاني الانسانية التي تخلفها الفنون في النفوس عند تذوق آثارها ، فتشيع بين الناس لتولد لديهم مشاركة وجدانية فعالة ، تعمل على تدعيم التكتلات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية في نطاق الانسانية و المجتمعات العديدة و البيئات المتنوعة . والتي كانت من أكبر المقومات التي عملت على تقارب القبائل و الشعوب القديمة بعضها من بعض، على أن الفن يتأثر به الشرقي و الغربي على السواء لا يعرف الحواجز ، وحين نبرز الأثر الفني الذي يدركه الفن في الاطار الانساني ، يجب أن ندرك فورا هذا الدور حين يمسي أداة للتفاهم العالمي للبشر حيث لا يعترف بحدود تقيمها الاعتبارات للسياسيات الاقليمية و الدولية و العالمية .
ان انطلاقة الثقافة العربية تكون وفقا للدفع السياسي العربي في التاريخ ، كما أن انحسارها يكمن في تراخي الدفع السياسي الذي شهد فتورا في نهاية العصر العباسي و ازدادت انحدارا حتى القرون العثمانية ، و في فترات متفرقة من القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر يتبين لنا الانحطاط الذوقي و الفني و المعرفي وفساد القيم ككيان مسجون في ظلام العجمة و سراديب الغربة في متعرجات التاريخ ، فالفساد فكرا و توجها يدلنا على زمنه ، ويتضح أمامنا فساده و سقوطه مع مرور الزمن ، أي كلما تحرك الوعي في حرية النضال الفكري و اتسعت الاضاءة المعرفية ، فقد استطاعت الامبراطورية العثمانية أن تغرب التراث و الثقافة العربية بكامل مظاهرها طيلة ثلاثة قرون وذلك عن طريق اذلال الانسان العربي و تحويله الى كائن يبحث عن أبسط أسباب بقائه خاصة في القرن الثامن عشر و تجنيد العرب للحرب دفاعا عن وجودها و نشر المجاعات و تحل التقدم بالثقافة العربية و فنونها و أدابها في الابداع الى الجمود و القهر و ظلمة الفكر و الوعي و المعرفة .
ففي العراق كان يتردى الفساد المعرفي نتيجة ترد حضاري محزن، من خلال حالة الاستهزاء و الاذلال و فقدان أي بعد انساني لها . فلا منظور سياسي ولا هم وطني ولا تطلع انساني بسبب فرض الاستعمار حالة الانسحاق التي كان يعانيها عرب العراق ، فوجدوا رواد الفكر ان التخلف نتيجة من نتائج الاستبداد و ان الحرية تقضي الى التقدم و الاستشهاد في سبيلها .
ويمكن أن نلتمس أثر المؤثرات الفكرية كعامل أساسي للتحرر في عدة جوانب ، كون مفهوم الحرية و نسبتها بين بيئة و اخرى و بين شعب و آخر و بين حال و حال ، متفاوتة فالغرب امتلك ارادته ودفع ثمنها ، بينما ارادة الشعب العراقي كانت مرتهنة رهنا بيد الانتداب و كان المستعمر يقيم حكومات ينتقي افرادها من عملائه في الوزارات . قد ذكرها الشاعر “الرصافي”في قصيدة ” الوزارة المذنبة ” كادانة لعملاء الاستعمار .
يقول:-
أهل بغداد أفيقوا من كرى هذي الغرارة
ان ديك الدهر قد باض ببغداد وزارة
فكان الحكم و العدل بها قط و فارة
كم وزير هو كالوزر علم ظهر الوزارة
ووزير ملحق كالذيل في عجز الحمارة
أدركوا الحق فقد شنت على الحق الاغارة
لا تسل عنه وزير القوم و اسأل مستشاره
فوزير القوم لا يعمل من غير اشاره
و هو لا يملك أمرا غير كرسي الوزارة
يأخذ الراتب اما بلغ الشهر سراره
ثم لا يعرف من بعد خراب ام عماره
وجاءت الدعوة الى التحرر الوطني فقال ” الكواكبي”:-” في الاستبداد و الجمود . ( و أما الاستبداد فانه يقلب السير من الترقي الى الانحطاط ، من التقدم الى التأخر ، من النماء الى الفناء )”.
في سوريا كانت نفس حال الركود التي كانت سائدة في سائر الاقاليم العربية التي تشكل اجترارا لعصور الانحطاط ، و أخذت صورة الابداع الثقافي تتجلى بين الانقاض و الركام بعد الانفلات من قبطة العرش العثماني أي بعد منتصف القرن .
في مصر حدث الانكفاء ذاته بعد الطوفان العثماني ليعم العقم و الجمود وتتراجع النهضة تحت ظل الفساد في النظم السياسية و الاجتماعية ، ولم يستطع أي مؤرخ أدبي في المغرب أو الجزائر أو تونس أن يقدم شيئا عن التقدم في الحياة المعرفية الفكرية و الادبية ، و امتدادا الى شمال أفريقيا ، بسبب التجاهل العثماني الذي فرض الظلمة في الحياة الفكرية ، فحرمها من الابداع الفني المعرفي . و محنة التغرب الاوروبي عن اللغة العربية و آدابها . مما أبطأ بلحاقهم بعصر النهضة العربية.
وفي أوائل القرن العشرين حيث تحركت فصائل الشعب العربي في الاقطار الاربعة ، مطالبة باثبات وجودها في الخروج عن الوصايتين العثمانية و الاوروبية . ففي المغرب كانت النهضة باهتة في عهد الحماية ، حيث بدأ عصر النهضة المغربي بعد عقود من القرن العشرين . و في الجزائر يغفر لها التطور في هذا القصور لتغريبها عن اللغة العربية اضطرارا ، وفي تونس كان الاسراف في التقليد مسرفا و مخجلا مما يدل على فساد الذوق الادبي و انعدام الرؤية طوال العصر العثماني ، لكنه أفضل من الجزائر و المغرب و ليبيا . حيث في ليبيا كما غيرها من أقطار المغرب العربي حيث ساد الظلام الذي سيطر على الثقافة العربية منذ انضواء العرب تحت الراية العثمانية . فقد اصيبت الثقافة في ليبيا بالعقم الفكري كما واجهت تحديا حضاريا واحدا متمثلا في الاستعمار الغربي.
وفي الجزيرة العربية بحجازها و يمنها فقد أبدى الأديب الراحل “طه حسين” أسفه و أساه على الحالة المبكية التي تردت فيها الثقافة في الجزيرة العربية في هذه البقعة المشعة في التاريخ الحضاري العربي ، وكيف وصلت الى هذا الظلام الحالك.
و نلخص من هذه الاضاءة التاريخية الى أن الثقافة تمثل الطاقة القصوى و المتوترة للابداع العربي وصلت الى مرحلة الانحطاط تتشابه تفاصيلها في كافة الاقاليم العربية ، والاتخلاع من شروط البيئة و التعامل السطحي مع التراث و غياب المنظورين الفني و الحضاري و دون أن تسجل لنا فترة الانحسار الثقافي أي أثر للفكر العربي ، حيث كان عليها أن تنتظر التفجيرات الحضارية من سياسية و ثقافية نهضوية ، لتتوالد حضورها في مفكرة الابداع العربي .
فالفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الثامن عشر و التاسع عشر ، أنجبت دفعات متلاحقة من رجال الفكر و الابداع قدر لهم أن يشكلوا خصوبة لوجودهم طيلة فترات العصور المظلمة . و كما تتجمع الكيانات العربية اليوم رغم ما بينها من تناقضات فكرية و سياسية على ضرورة التخلص من اسرائيل ككيان استيطاني ، كانت روسيا القيصرية و أمريكا و فرنسا و بريطانيا و المانيا و ايطاليا رغم التناحر السياسي و التناقض الفكري و الايديولوجي فيما بينها ، تجمع على ضرورة التخلص من العثمانين مع شرذمة الفكر العربي المعصر تجاه اسرائيل ، و الاستعمار التوسعي لدى تلك الدول . حيال الوطن العربي ، وتجمع هذه الدول لانهاء الامبراطورية العثمانية ، لا حبا بالشعوب المسحوقة تحت ثقل الاتراك ، بل رغبة في ابتلاع تلك الشعوب باسلوب جديد.
و يبدي لنا التاريخ مثلا أن فرنسا تركت مصر لتحتل الجزائر عام 1830 و هنا أستشهد بما قاله الدكتور أسعد السحمراني* 🙁 ” من غير المقبول أن يقال لا دخل لسياسة اليهودية – الماسونية في تورطها في تاريخ الحروب ضد الانسانية ، حيث أن هذه الحركة انشئت لخدمة اليهود ليس الا . ويذهب هذا المذهب “لوسيان كافروديمارس” الذي يربط التمهيد لنشأة العمل اليهودي من خلال الماسونية و سواها بقرار أصدره “كاثوليكيان” هما “فردينان” و “ايزابيل” في 30 آذار 1492م بطرد ثلاثماية ألف يهودي من اسبانيا على أثر الحروب الصليبية ضد العرب و يقول عن ذلك :
” بعد ستين سنة على طرد اليهود من اسبانيا ، حطم اللوثريون الالمان الوحدة الكاثوليكية بالتضامن مع جماعة كالفان الفرنسيين و الانكليكان الانكليز. ( و الاسم الاصلي لكالفن فهو كوهين ، وقد غير اسمه من كوهين الى كالفن ابان انتقاله من سويسرا الى فرنسا للتبشير بدعوته ) و بدأت الحروب الدينية .. ففي باريس أدت الثورة الماسونية (1789) المنتظرة بفارغ الصبر في كل من هولندا و انكلترا، لا سيما في الاوساط اليهودية في أوروبا, ثم أدت الى حروب “نابليون” و امتدادها الاستعمارية و الحروب العالمية تنفيذا للعقد السياسي الخاص بالصهيونية العالمية الحالية ..و من جهة أخرى أصدر الكونغرس البرتينتي الاميريكي قرارا بهدم الهند الصينية”.
ان شيئا من هذه المعلومات يؤكدها اليهود أنفسهم و يكشفون عن دورهم في الثورة الفرنسية ، و بما أعقبها من معارك تنتقل بالناس من هزيمة و خسارة الى أخرى، فلقد جاء في البروتوكول الثالث :
*الدكتور أسعد السحمراني : استاذ فلسفة في جامعة بيروت العربية – و كلية الامام اللأوزاعي للدراسات الاسلامية – مؤلف كتاب”الماسونية” نشأتها و أهدافها .
الطبعة الاولى – 1988- دار النفائس – بيروت\لبنان .
” اذكروا الثورة الفرنسية التي وصفناها بأنها عظيمة، اننا نعلم أسرار اعدادها لأنها كانت من صنعنا، و منذ ذاك التاريخ لم نزل نقود الجماهير من خيبة أمل الى خيبة أمل حتى يتنازلو لنا لصالح ملك مستبد من دم صهيوني الذي نعده للعالم “.
و كانت تلك القوة الاستعمارية تدفع العرب لخوض الحرب العالمية الاولى لحسابها ، حيث هلك مئات الآلاف من المقاتلين العرب ، مرة للدفاع عن العثمانيين و مرة أنكى للدفاع عن البريطانيين و الفرنسيين ، و في كلا الحالتين قد جروا جرا الى قتال وحشي ليس لهم فيه أي مصلحة .
لكن الحديث عن عظماء الرجال في الثقافة و الآداب و فنونها ، الذين تدفقوا على التاريخ العربي بدءا من أواخر القرن الثامن عشر و استمرارا حتى استقلال الوطن العربي . فمع اطلالة القرن التاسع عشر تحركت النهضة العربية بصورة انفجار و بنفس الوقت كان هؤلاء الرجال قد توزعوا بين حالتين ، حالة احياء الحضارة العربية التي تحولت الى ذكرى، وحالة الدفع الحضاري الاوروبي ، الذي ارتفع بالانسان الى مراتب الخيال ، ومع نشاط هؤلاء الرجال ومع معرفتهم للمحفزات التي دفعتهم في النهوض و الاصلاح في سبيل الثقافة العربية و الابداع الفني و الادبي .
فكانوا مسؤولين عن تسهيل نهضة الثقافة العربية و الابداع الفني ، و الذين أفنوا أعمارهم لجعل اللغة العربية سهلة الوصول و التوصل ، وفي نشر التراث القديم و الحديث عنه ، كما انتشرت منارة التنوير الفكري ، التي عبرت عن آراءهم في الحكم و الحرية و التشريع واضحة و تبين ازدهارها في الثلث الاول للقرن التاسع عشر، ممهدين للمجتمع بالتقدم الى الامام ، ومستفيدين من الحضارة الغربية دون الانخلاع عن جذورهم العربية ، وأحسوا أن حالة التعريب هي المنقذ من الظلام و الجهل . وكان هاجسهم تعرية الظلم و كشف مساويء الاستبداد و التسلط .
و تكون دائرة الابداع و الثقافة انطلاقها من عاملين هما :
ازدياد الوعي الذاتي و القومي و الانساني مع ازدياد درجة الثقافة و تطورات الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية في الوطن العربي .
كثرة المؤثرات و المنبهات الاجنبية الوافدة و التي ترسخت مع الحركات التبشيرية منها الانفتاح على الترجمة من فرنسية و انكليزية و المانية و روسية . و منها البعثات الفردية و الجماعية الى البلاد العربية .
و نذكر بعض رجال النهضة الثقافية أمثال :
رفاعة الطهطاوي – ناصيف اليازجي – خير الدين التونسي القوقازي – أحمد فارس الشدياق – بطرس البستاني – جمال الدين الافغاني – علي مبارك – فرنسيس مراش – عبد الله نديم – عبد الرحمن الكواكبي – الامام أحمد عبده – فشبلي الشمبل – سعد زغلول – قاسم أمين – رشيد رضا – شكيب ارسلان – رفيق العظم – لطفي السيد – محمود التونسي حسين بيهم – خليل اليازجي – عبد الله فكري – علي اليثي – شاكر شقير – نجيب الحداد
عائشة التيمورية – محمود و سامي البارودي – خليل خوري .
وقبل انتهاء القرن التاسع عشر نرى التوهجات الابداعية لعصر النهضة العربية سواء في لبنان و سوريا و العراق و مصر تتدفق على الارض العربية رغم استدراجها الى فخ الحماية و استيلاء بريطانيا على بعض تلك الدول و فرنسا على بعض الدول الاخرى .
رغم الصعاب للسياسات المحلية و الدول العربية في وجه الاستعمار ، شكلت هذه النهضة العربية مكاسب ثقافية و حضارية و كان تحولا في حياة الكيان العربي ، الذي يبشر بالنهوض من تحت الركام رغم الاحزان و الاوجاع العربية التي فرش عليها الدم و الدمع و الوجع و العذاب ، لتتفتح مشاعر الشعوب العربية أثناء الحرب العالمية الاولى و اعلان ثورة الجزيرة العربية عام 1916 ، و مع الثورة يعلق والي الشام العثماني “أحمد جمال باشا” واحد و ثلاثين مفكرا و مناضلا من عرب الشام و لبنان على أعواد المشانق ، هذا الثمن من أرواح المفكرين و المجاهدين الاحرار الذين عرفوا أن لطلب الحرية لا بد من الاستشهاد في سبيلها، لذا ان الاحداث الكبرى في حياة الشعوب تترك بصماتها على الابداع و الثقافة .
أستكملت النهضة العربية منذ بدايتها أي أكثر من قرن و نصف، حيث بدأت الاحتكاك بالغرب ، فهي مزدوجة تؤكد من جهة ضرورة حفاظ العربي على أصالته ، و من جهة أخرى الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة ، و التضامن العربي عامل هام من عوامل النهضة لأغناء جهدنا التحرري المرتكز على الهوية العربية و الانتماء العربي الصادق . و كما يقول الدكتور “قسطنطين زريق “:-( .. و نحن العرب ، كما هو معروف ، محاطون بأخطار هائلة تنفذ الى صميم كياننا .
منها الاستعمار بأشكاله المختلفة الذي يعمل لاستغلال مواردنا و لتمكين تبعيتنا و للتحكم بمصائرنا ، و منها الصهيونية الاستيطانية التوسعية التي توضد أركانها في فلسطين و تسعى بمشاركة القوى الاستعمارية الدولية الى بسط سلطانها العسكري و الاقتصادي علينا و الى امتصاص قدراتنا بالحروب و غير الحروب لنبقى في تخلفنا بل لنمعن في هذا التخلف “).
اذا لا نهضة عربية بدون تضامن عربي صادق ، و منها تنبع الحريات العامة و مقومات نهضة حرية النضال الفني التشكيلي و التحسس بجمالية الابداع الفني العربي . و التضامن العربي ضرورة ، فنحن بحاجة لما يجمعنا و يوحدنا للتصدي للتحديات و ذلك بوحدة المواقف القائمة على وحدة المصير ووحدة الاهداف . فيجب تصحيح نهج المسيرة الحضارية و يكون الابداع و الابتكار و العطاء ضمن اطار العصر الذي نعيش فيه ، فقد جاءت أصالتنا من ابداعاتنا و عطائنا ، ولتبقى أصالتنا و ابداعاتنا في تدعيم النهضة العربية.
فلا يجوز التمسك ببعض مظاهر التعبير التقليدية الضيقة المعارف ظنا بأنها تحفظ أصالتنا ، فهو وهم لا يقودنا الا الى المزيد من الابتعاد عن الاصالة و الابقاء على هامشه ، فاذا قدر لنا أي دور في هذا فنحن الاصلاء حقا، و اذا بقينا خارج المسيرة الحضارية فنحن المتخلفون . فالتطور المعرفي يسير في العالم بخطوات سريعة لا يمكن اللحاق بها دون جهود مخططة و مبرمجة و مدروسة لتكفل للجيل الآتي تفعيل و تدعيم النهضة العربية و فنونها و آدابها بالابداع و التجديد .
و تعقيبا على قول يردده أصحاب السياسة :-” لا يوجد في الحياة أخطر من أسلحة الدمار الشامل في أيدي القادة ، وأخطر من الحكم في أيدي الحكام”. الى هذا القول يمكن أن نضيف أنه لا يوجد أخطر من حرية النضال الفني التشكيلي في يد الرسام و النحات ، ولا أخطر من قلم في يد الاديب و الكاتب ولا أخطر من كلمة الشعب بحق الظلم و الاستبداد و الحرية المغتصبة و المبتورة.
و للتأكيد على هذا التعقيب يأتي عمل الفنان اللبناني”نوريكيان”Nourikian المنحدر من أصل أرمني كسفير للمعاناة للانسانية المعذبة و الحزن للمشاعر المكبوتة ، الذي يجسد مشاعره تجاه بني جنسه، ليجعلها ببراعة أداة تحريض و دافع ثوري لشهوة الثأر ممن تسببوا بها من الجلادين الذين تحكموا بمصائر العباد في يد العنف و الاغتصاب في أرض الاجداد “أرمينيا” من ناحية ، و أرض الوطن الذي ترعرع فيه من ناحية ثانية ، حيث نرى في أعماله نتائج الحرب و التهجير و التيتم و القهر و العذاب عبر الاحداث التي عاشها مرارتها في كلا الناحتين بالأسلوب “الانطباعي”^ ، محاولا الانتفاضة على أعداء الانسانية .
^- الانطباعية : Impressionism هذه المدرسة تهتم بتحرير الرؤية الفنية للطبيعة بعد كشف الأساس العلمي لطبيعة الضؤ على يد ” نيوتن” و تبين الحقيقة على أسس ضوئية أدت الى التغير و التحول بالألوان لدى الكثير من الفنانين بمواضيع لوحاتهم . ولهذا ثارت الانطباعية (أو التأثيرية ) على النزعة الأكاديمية التي تهتم بنقل الانطباعات من خلال رؤية الذاتية . ظهرت هذه الحركة في سنة 1860 و تعتمد على نقل انطباعات الفنان باسلوب لوني خاص و جديد .
يقول استاذ الفلسفة الدكتورأسعد السحمراني* :- ( ..” ان الابادة الرهيبة لمليون و نصف المليون من نصارى الأناضول و كليكية من الأرمن المجتهدين، الفخورين، الفنانين، بنائي الأماكن المسيحية و السلجوقية في آسيا الصغرى ، ظلت مثال الابادة في العصور الحديثة التي لا تغتفر، و عار يطعن الى الابد شرف النخبة الغربية المثقفة الواقعة تحت سيطرة اليهود . ووفقا لتقرير “لبسيوس” (1916 – 1919) ، الذي لا يمكن دحضه ، تم تحضير و تهيئة هذا التدمير الرهيب بصورة منظمة من سنة(1915-1918) على يد محفل “سالونيكا”الماسوني ، وذلك بحضور بعض السفراء في اسطنبول ، أمثال الالماني “ونغتيهيم” ، و الامريكي “مورغنتو” و كلاهما يهوديان من الاساتذة الماسون المتنفذين .. و تجدر الاشارة الى أن المنظمات الصهيونية في كل من نيويورك و لندن و برلين ، و الممثلة بالجالية اليهودية في اسطنبول قد عرفت و تابعت هذه المذابح الجماعية في مراحل تهيئتها و تنفيذها، و كان “بن غوريون” المحامي العثماني بين هذه الجالية شاهدا علىكل شاردة وواردة قام بها الاتراك، حيث أن اثنين من النافذين في السلطة العثمانية بعد سنة 1908 هما “أنور باشا” و طلعت باشا” ، و الاثنان من محفل “سالونيك الماسوني” و يرجعان الى أصل يهودي كانا وراء التخريب الذي حصل في سنة 1909 في احراق مدينة “أضنا” الأرمنية، وذبح عشرين ألف أرمني فيها، و الثانية اعلان الحرب على الحلفاء في الحرب العالمية الاولى ، في كانون الاول 1914 ، ووصول جماعة الاتحاد و الترقي الى السلطة، و هذه الجمعية انبثقت من محفل “سالونيك”، ومن نتائج التخريب الماسوني – اليهودي في الخلافة العثمانية و نقل السلطة الى جماعة الاتحاد و الترقي ما قال عنه “لوسيان كافروديماس” :- (“لقد أدى الجرم الصهيوني الماسوني، بتناسي حقوق الشعوب في الاستقلال بالنسبة الى العرب و بازالة كليكية الأرمنية منذ 27 قرنا و شعبها المسيحي العريق، الى خمس كوارث في النتيجة:
1- انبثاق دولة يهودية يعتبر خرقا لحقوق العرب، و استفزازا لمجموع العرب و الاسلام.
2- ابادة الطوائف المسيحية الأرثوذكسية و الكاثوليكية في آسيا الصغرى.
3- ازالة كليكية، فتم سبي الأرمن للمرة الرابعة في غضون 23 سنة، و التخلي النهائي عن سنجق الاسكندرونة 1938 حيث قام الحاكم الفرنسي الكولونيل ” كوليه” الماسوني بتزوير استفتاء بنسبة51 باشراف عصبة المم .
4- رفض الحكم الذاتي “لكردستان”.
5- انتداب عسكري مفروض على البلدان العربية) .
*المرجع السابق ص112\113\114.