دور رعاة الفنون في صناعة عصر النهضة في فلورنسا


بقلم: هاني عبد البديع
في الربيع هناك دائما زهرة تبادر بالتفتح أولا ثم تتبعها الزهور الأخرى تهللا بقدوم الربيع ونحن لا نفرط في الاستعارة إذا قلنا أن هذه الزهرة كانت مدينة فلورنسا الإيطالية التي استقبلت الرينيسانس كربيع طال انتظاره بعد قرون من خريف طويل هي العصور الوسطى التي جعلت الفن ـ الذي يرمز له دائما بالشباب الأبدي ـ يشيخ ويلبس بردة الرجل العجوز .
لكن فلورنسا كانت أول من يستقبل نسمات الربيع العذب الذي هب على أوروبا كلها وجعلها تنهض من ثباتها لتتهيأ للعصر الحديث فيما بعد.
وكان لموقع فلورنسا ومقوماتها البيئية دور كبير في أن تصبح مفرخة فن التصوير في فترة الرينيسانس على مدار ما يقرب من قرنين من الزمان حيث كانت موطن الشعر الجميل مثل دانتي وبترارك وبوكاتشيو وموطن دافنشي وأنجلو ورافيل وكانت من أهم مميزاتها وجود عائلة نبيلة متفتحة ترعى الفن وهي أسرة التي إذا أردنا أن نسميهم نستطيع أن نطلق عليهم بلاط عصر النهضة الحقيقي.

 

أزدهر شأن النهضة الإيطالية إذ وجدت لها أنصاراً يصرفون عليها المال الوفير, مثل أسرة ميديشي في فلورنسا وسوفرزا في ميلانو والبابوات في روما وغيرها من الأسر التي كانت تشتغل بالمال والتجارة فالنهضة كانت تتطلب أكثر من إحياء القديم، كانت تتطلب أولا وقبل كل شئ المال- مال الطبقات الوسطى الرأسمالية ما يكفي لأن يحول مايكل أنجلو،وليوناردو دافنشي، وساندرو بوتشيللي وغيرهم المال إلى جمال
في عصر النهضة وتحديداً في فلورانسا كان هناك ارتباطا كبير بين قوى السوق والأعمال الفنية فقد ظهرت أكثر الأعمال الفنية جمالا في العالم أجمع لغرض خدمه عائلة ميدشي، التي بواسطة أموالها أستطاعت أن تحول فلورانسا إلى واحدة من أكثر البلدان جمالا في العالم فقد كانت تلك العائلة هي أول جامعة للتحف والقطع الفنية النادرة للفن الحديث وفى النهاية لم يقوموا فقط بجمع اللوحات الفنية والأعمال النحتية ولم يكونوا رعاه للفن فقط – لقد خلقوا ثقافة قامت بثورة في طبيعة الفن ذاته.
مؤسس الأسرة جوفاني ميديشي تاجر بالصوف، ثم عمل في القطاع المصرفي في فلورنسا (المراباة) وكان آل ميديشي لفترة من الزمن أغنى أسر أوروبا، وعلى هذا الأساس اكتسبت العائلة السلطة السياسية في فلورنسا بادئ الأمر، ثم على نطاق أوسع في إيطاليا وأوروبا.
ولكن كان هناك دائما شيء يؤرقهم وهو عندما وصف دانتي عقاب المرابيين في الجحيم أنهم يقبعون في الدائرة السابعة وتتحرك أيديهم باستمرار ولا يستطيعون أن يوقفوا أيديهم عن الحركة والسبب في هذا أنهم في حياتهم السابقة لم تبذل أيديهم أي جهد للكسب.
ولكن كان هناك طريقة لفِكاك مرابيين عصر النهضة من هذا المصير فطبقا لتعاليم العقيدة المسيحية تستطيع أن تشتري نجاتك وتفلت من هوة الجحيم وذلك عندما ترعي عملا أو بناءا فنيا كبيرا فبالنسبة لآل ميديشي كان الهدف هو أن تنفق من أجل عملا فنيا مذهلا وربما بهذه الطريقة أنقذت روحك من المصير المنتظر.
قام جيوفاني برعاية أحد أهم الأعمال الفنية في عصر النهضة وهو زوجا عظيما من الأبواب المصنوعة من البرونز بل وقام باختيار الفنان الذي يقوم بالعمل ومن هنا يبدأ ارتباط آل ميديشي بالفن في فلورنسا والفنان الذي وقع عليه الاختيار هو لورنزو جيبرتي وجاءت الأبواب زاخرة بدراما منمنمة مأخوذة من حياة السيد المسيح فها هو العشاء الأخير, حيث يجلس الحواريون حول المائدة وها هو السيد المسيح على متن حماره وهو يدخل بيت المقدس فقد استغرق العمل من الفنان جيبرتي وورشة عمله 20 عاما لينتهي من تلك الأبواب المهيبة فقد أصبح العمل واحدا من أهم الأعمال النادرة والأصلية في حقبة عصر النهضة.
خلف جيوفاني ابنه كوزيمو الذي وسع مصرف آل ميديشي عبر أرجاء أوروبا وكان سياسي عبقريّ استطاع أن يحول آل ميديشي إلى أقوى عائله ظهرت في مدينه فلورنسا في عام 1430وعد البابا كوزيمو بالخلاص إن استطاع أن يدفع من أجل بناء أبراشية سان ماركو معقل الطائفة الدومينكية وكانت هذه فرصه مرسله من السماء ليغسلوا أموالهم المتراكمة وليهبوا أموالهم من أجل وكان هذا يعد عملا غير مسبوقا من قبل رعاه الفن.
ولكن الخلاص من الجحيم لم يكن الدافع الوحيد لرعاية الفنون فقد كان هناك دوافع أخرى فبعد ما توفي كوزيمو وخلفه حفيده المسمى لورنزو الرائع الراعي العظيم للفن في نسل الأسرة بأكملها حيث كان منزله مكاناً دائماً لاجتماع الفنانين والفلاسفة والشعراء، فقد كانت أمنية لورنزو دي ميديشي إحياء الفن الإغريقي واليوناني وهذا ما جعله يجمع مجموعة رائعة من هذه التحف التي أصبحت مادة للدراسة لدي فناني عصر النهضة.
كان الفن المحور الأول والأخير في رؤية لورنزو لفلورنسا فقد كان حلمه الأقصى هو إنعاش جمال وأساطير الماضي الكلاسيكي السحيق وأتخذ خطوات عملية جادة لخلق جيل من الفنانين قادر علي تحويل خياله إلى حقيقة فقد اهتم لورنزو بتدهور المقاييس الفنية في فن عصر النهضة في مدينه فلورنسا وراودته فكرته الخاصة لتأسيس أكاديمية فنية فقام بجمع عددا من الأعمال الفنية من مجموعه آل ميديشي الخاصة بهم واستأجر معلم خاص وهو بيرتولدو الذي كان قد تدرب مع دوناتلو فنان القرن الخامس عشر في فلورنسا ومن المفترض أن مايكل أنجلو قابله وتعلم منه.
لم يكن حب لورنزو للفن هو الدافع الوحيد ولكن أيضا إظهار آل ميديشي في صورة الأرستقراطيين الأغنياء مما دعاه إلى رعاية قطعه معمارية تعد ثوره في عالم العمارة حينها هذا هو قصر Poggio a Caiano وهو بناء أطلق فيه لورنزو أكثر طموحاته الأرستقراطية لتظهر لنا في هيئة بناءا كلاسيكيا تم تصميمه على غرار العمارة القديمة.
ينسب إلى لورنزو أنه وهو أول من اكتشف الموهبة الفذة لدى الصغير مايكل أنجلو فقد لاحظ عبقريته منذ أن كان في الثالثة عشر من عمره وكان لورنزو يتمتع بتأثير شديد على مايكل انجلو واكبر دليل على التأثير الضخم الذي تمتع به لورنزو علي الصغير مايكل أنجلو نجده في قطعتين نحتيتين صنعهما أثناء فتره دراسته في حديقة لورنزو الأولى ذات الأسلوب الكلاسيكي و الخطوط القليلة إنها عذراء الدَرَج وكان قد عُلّمَ هذا الأسلوب على يد المعلّم النحات برتولدو والثانية المعروفة بمعركة القناطير فنشاهد فيها هذه الأجساد الملتوية التي تصارع الصخر ليُخرِج شكلا نحتيا ذو هيئه جديده, بدون اى إيحاء دينى، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتأثر فيها مايكل أنجلو بلورنزو فقد كانت أول مرة لاحظ فيها لورنزو موهبة مايكل أنجلو عندما قام مايكل أنجلو بنحت اله أسطوري ، نصفه رجل والنصف الآخر لماعز ، يدعى ” فون ” وعندما شاهده لورينزو أعجب بنحته جدا ووصفه بالرائع وقال له “يبدو لي من لحيته الطويلة انه رجل عجوز ولكنك صورته بمجموعة كاملة من الأسنان المرمرية اللامعة هل تتصور وجود رجل عجوز غير فاقد لواحدة أو اثنين من أسنانه ؟” ولطالما استاء مايكل أنجلو من أي نوع من أنواع النقد ولكنه قام في الحال وحطم واحدة من أسنان “فون” لكي يرضي لورنزو ومنذ هذه اللحظة فصاعدا، أصبح مايكل أنجلو مهووسا بالكمال وكان عازما على أن يظهر للجميع أنه الأفضل.
وعندما حاول آل ميديشي تأسيس رمزا عظيما لنفوذهم و سلطتهم و تحكمهم في كنيسة سان لورنزو استخدموا العبقريّ الذي رعوه منذ مهده مايكل انجلو الذي نحت أربعه تماثيل عظيمه للغاية هي الشروق, الغروب, النهار والليل وما ترمز له هذه التماثيل هو مرور الوقت وانقضاء الزمن مما يعني أن كلكم ستموتون, وبطريقة ما لن تموتون فقط , لكن لن يذكركم أحد بعد ذلك فقد أطاح مايكل انجلو بجميع مظاهرهم الخاصة بالا فنائية (الحياة الأبدية) فقد كان مايكل أنجلو جريء جدا بفكرته هذه فإنها حقا فكرة ثورية وبدون فطنة منهم, ساعد آل ميديشي في خلق أول فنان مناهض لكفيله.
قامت العائلة ايضا برعاية ساندرو بوتتشللي الذي كان يحاول إيجاد أسلوب جديد وثوري في الفن وبرعايتهم وطأ أرضا جديدة وأعاد تعريف عصر النهضة بنفسه، فلن نجد في فن بوتتشللي في مجموعه محاكاة للواقع بل فيه محاكاة للقيم الجمالية مطّرحاً جانباً ذاتية الموضوع الذي بين يديه، فلقد كان يخضع لشاعرية تجاوزت محاكاة الواقع، ولم تكن المحاكاة عند بوتتشللي تزيد عن التأثر بعنوان الموضوع لا محتوياته، وكذلك كان حاله مع الألوان، فقد كان يتجنب أن تكون محاكية للواقع.
وما من شكّ في أن أشهر ما تركه بوتتشللي من أعمال هو لوحته التي تصوّر “الربيع” Primavera)) التي تقدّم الدليل على صلته الوثيقة بالأوساط الأفلاطونية المحدثة، فلقد كانت صورتا الربيع ومولد فينوس بلا نزاع من وحي لورنزو دي بييرو دي ميديشي ابن عم لورنزو العظيم.
لعب هذا الفنان الشاب دورا في خلق أسطورة ميديشي فيكشف لنا بوتتشللي في لوحة “إجلال الرعاة للمسيح الطفل” عن أفراد أسرة ميديشي وعن روح المهرجانات الصاخبة بوضوح وجلاء، وكيف انه قام بإقحام نفسه وعائلة ميديشي داخل هذا المشهد الإنجيلي فثمّة شخصيتان في الصورة لا شك في أن أحداهما تمثل كوزيمو راكعاً عند قدمي المسيح الطفل، والثانية تمثل بوتتشللي نفسه واقفاً إلى أقصى اليمين.
ومن هنا يتجلى لنا مقدار التأثير الذي كان لآل ميديشي وللورنزو بشكل خاص على معاصريه من الفنانين من خلال ما أتاحه من إمكانيات ثقافية ومادية ساعدتهم على تحويل طاقاتهم الهائلة إلى أعمال فنية رائعة.