لوحات خلف طايع تبحث عن المثالية بعيدا عن الإنسان


لوحات خلف طايع

صمت الأواني ينكسر علي صدي الألوان

بقلم: فاطمة علي

تستحق أعمال الفنان خلف طايع وقفة تأمل طويلة حتي ندرك طبيعة وسحر عالمه الخاص الذي يتعامل فيه مع الزمن وفيما وراء الطبيعة للأشكال الصامتة وكيفية صياغتها في هذه الأجواء الساحرة.

وفي المعرض الذي أقيم مؤخرا وضم أعماله نجد الفنان خلف طايع يتفرد في حركة التشكيل المصري بقدرته المبدعة علي مزج الطبيعة الصامتة المرئية بغلالة سيريالية راجعة للعالم الميتافيزيقي غير المرئي الذي يلقي فيه بأشكاله في عالم مطبق الصمت لتحدث حالة من روعة الحس لادراك ما لهذه الطبيعة الصامتة من أبعاد عديدة تؤكد بها وجودها الآسر بل والمسيطر علي المشاهد لما تضمه من أجواء مكثفة تجعل لها سطوة التواجد ذاته الذي يقترب من حالات الفنان الميتافيزيقي الذي ولد في اليونان وعاش في ايطاليا جورجيو دي كيريكو (1888 1978) وإن كان كل منهما دي كيريكو وخلف طايع مختلفين في نظريتهما لفكرة الوجود وللعناصر المستخدمة إلا أن كلا منهما يتميز عن الآخرين بأجوائه المميزة.
فالفنان طايع اعتمد علي خياله في عالم السيريالية وهو من أصعب المداخل حيث ركز اعتماده علي الطبيعة الصامتة المحدودة والمكونة من عناصر يعيد تركيبها معا في شكل واقعي ومنطقي دون اعتماد علي ما لجأ اليه السيرياليون من تركيب عناصر لكائنات حية مع الطبيعة في واقعية التفاصيل لتقديم تكوينات غير منطقة ولا واقعية الرؤية معتمدا فقط علي الخيال واللاوعي والتركيب غير المنطقي وغير المرئي في حياتنا.

وعادة الطبيعة الصامتة من أكواب وأوان وأباريق لا تساعد علي أن تكون لوحة سيريالية ميتافيزيقية إلا اذا كانت روح الفنان ذاته هي التي تصبغ عليها أجواءها غير المدركة واضافته عليها حالة من الدرامية حتي ان تأمل المشاهد قليلا طبيعته الصامتة لحدثت له حالة من الحنين والتآلف معها كأننا من نفس الخامة التي صنعت منها أو كأننا مثلها بشر تجمدنا داخل لحظة الوجود وألقينا في عالم شديد الصمت وقد ثقلت وطأته وامتد من الشكل أمامنا الي خلفيات ممتدة في معظم اللوحات تكون بحرا ممتدا أو خلفية من طبقات الهواء الكثيف.
وقد تستشعر أمام لوحاته بحالة من الوحشية والترقب الشديد لشيء غير مرئي لا تدركه يسكن هذه اللوحات غير المباشرة فهي ليست مجرد مشهد جميل لطبيعة صامتة لأن هذه الطبيعة ذاتها كيانات مؤكدة لا تفردها في عالم متغير ويثير التأمل والوجدان ويدفع كي لا نري الأشياء علي علاتها بل نبحث فيما وراءها.. والفنان خلف كشخصية انسانية هو ذاته غير مباشر ولا يقبل الأشياء علي علاتها.

فحالة التأمل التي تستغرقه في رؤية كل ماحوله تظهر بوضوح فيما وراء لوحاته التي تكشف عن فنان قاريء جيد للنظريات الوجودية والفلسفية وان كنت لم أسأله في هذا ولا أعرفه يقينا لكن لوحاته تكشف عن هذا حتي وإن لم يكن قاريء في هذه المجالات فإنه يلمسها من شدة تأملاته المتصلة من ترقب الوجود ومحاولة سبر غوره في لوحات شديدة الصمت جمد خلالها زمنها الخاص رغم تدفق الزمن حولنا.

ولتجمع اللوحة ذاتها بين النقيضين في مفارقة رائعة بين ذلك الوجود المهيمن وبين السكون الشديد.. بين طبيعة تراها صامتة لكنها هي في ذاتها كيانات لها حضورها الآسر كأنها شخصيات بشرية لكل منها عالمها الخاص حتي ولو اجتمع أكثر من عنصر فهناك تآلف الرؤية وأيضا فرديتها لأن لكل عنصر شخصية ولا يمتزجان لكن تظل لكل منهما حالة متفردة داخل نطاق موحد من ميتافيزيقا الوجود.

لوحات خلف طايع - Egypt - مصر  khalaf taie

وهذا التفرد في آنيته تجعلها كأنها شخوص منغمسة في حالة من التأمل الذاتي الشديد.. فلا تجد عند طايع آنية تشبه الأخري حتي وان كان النموذج الواقعي هو لنفس الاناء أمامه كنموذج موديل لكن مجرد أن يدخل الي لوحته فهو يغادر شخصيته الجماعية كإناء له سمات معينة لتغلفه حالة ميتافيزيقية التواجد (فيما وراء الطبيعة).
وهذا من الصعوبة أن تجعل لمادة أو لعنصر غير حي عالم يخوضه و شخصية تميزه في ذلك الوجود الجديد الذي دخله بعده كان مجرد آنية وأدوات للاستخدام أصبحت أشكالا جمالية تعطي أبعادا أكثرمما تحت أيدينا في الواقع.

حتي تكاد تقترب هذه الأجواء الملقاة فيه كأن عالم غريب الزمان والمكان أو كأنه عالما من المثالية المخيفة من شدة تمثلها لمثاليات التواجد الأمثل في عالم غير مؤكد.
ورغم مثاليتها هي ملقاة في عالم تسوده الحدة.. حدة التواجد الأمثل كما أراده الفنان في عالم من خياله الخاص.. عالم دون بشر له خصائصه السيريالية الحالمة الخاصة به المتأملة في ذاتها كأنه يسعي للمثالية.. مثالية لم يجدها في البشر واستطاع أن يجعل من أدوات الطبيعة الصامتة في مرسمه البسيط من أكواب وآنية وفازات أن يجعل منها أدوات يتسلح بها ليدخل الي غمار عالم غير مرئي ساحر صامت مثالي الحلم والذي فيه يجول بحرية رغم السكونية والصمت المطبقين.

حتي أن الفنان طايع حين رسم حصانا رائعا جعله محاصرا فوق قاعدة رخامية لا يغادرها وقد حدد أمامه مكانا داخل عالم سبق وجمد لحظة زمانه.. ورغم انه فنان لا يحبذ التعامل مع الكائنات الحية ويختار الطبيعة الصامتة الجامدة الصماء إلا انه أجاد بث أفكاره التأملية ألوانا وحالات مثلما سبق وأن حقق هذا الفنان الايطالي موراندي أشهر فناني الطبيعة الصامتة والتي رسمها علي مدي حياته لكن بمنهج مختلف عن منهج طايع حيث جعل طبيعته الصامتة حالة تصوف وحالة تكشف للشفافية الروحية كأنه داخل محراب.
أما خلف طايع الفنان الكبير فطبيعته الصامتة ليست داخل محراب ولا متصوفة بل هي بواقعيتها تخترق طبقات الرؤية لتحل علي وجودها ا لخاص داخل عالم خاص هو في العراء غالبا داخل خيمة الوجود ذاته متفردة بذاتها ووجودها المحقق ذات الثقة العالية بحقها الوجودي حتي ولو في عالم غيرو اقعي.

عالم ميتافيزيقي خاص وقد ابتعدت آنيته بنفسها عن تواجدها الاستخدامي أو تواجد أي من البشر أو الكائنات الأخري التي تزاحمها هذا العالم الخاص ويؤكد علي هذا المعني وعلي وجودها تلك الألوان الصريحة القوية وظلال النور الحادة التي بها تتعامل مع الضوء بنفس الطريقة التي تتعامل بها مع العمق والزمن وطبقات الهواء الكثيفة الرطبة رغم الصفاء الظاهري إلا أن لثقل الهواء المحيط وجود نستشعره من بعض اللوحات وقد أثار حول عناصره حالة من الرهبة خاصة في وجود العميقتين.. السماء والبحر.

كل المقالات التي تخص الفنان خلف طايع

12السنة -642ه – العدد1425ذو الحجةمن12- م2005يناير من22السبت
بتوقيت القاهرة 01:50:07 ك الساعة -19/01/2004 آخر تحديث يوم
الدنيا ريشة في هوا تقدمها : فاطمة علي مجلة أخبار النجوم