لماذا رسم رامبرانت نفسه كثيراً؟


عندما وجدت أكثر من ثلاثة وأربعون (صورة شخصية) رسمها رامبرانت لنفسه تفاجأت بهذا العدد الهائل من البورتريهات التي نادراً ما يفعلها رسام أخر. أستغرقت في تفكير العارف وفي نفس الوقت الذي لا يعرف لماذا؟

أستعنت بكل قدراتي كرسام وتذكرت كل تفاصيل دراستي في كلية الفنون وكل هذا كان غير كافي للإجابة وأحضرت كل ما أملك من كتب رامبرانت وبحثت في كل ما يتعلق به وبحياته ولكني لم أجد ضالتي وبالفعل شعرت بصداع قاتل وذات ليلة في لحظة ما قبل النوم رأيت لوحته الضخمة (حراس الليل) وكانت بالنسبة لي مفتاح اللغز ومفتاح شخصية رامبرانت نفسه وأنا هنا لست بصدد شرح اللوحة أو تحليلها ولكن ما يهمني هو الأحداث التي دارت قبل وبعد رسمها لأنها كاشفة جداً

كان السائد في عصرة (المدرسة الفلامنكية) رسم البورتريهات الجماعية كرسم رجال القضاء (معذرة على عدم وضع صور للوحات أو ذكر تواريخ) وكان الرسام يرسمهم جالسين بوقار ومن خلفهم شئ ما يدل على مهنتهم وتستطيع بسهولة قطع كل وجه على حدة ووضعه في إطار ولن يفرق في تركيب اللوحة وربما ظل هذا التقليد حتى يومنا هذا وسنجد كثيراً صورة لأطباء أمام مستشفى ومدرسين أمام مدرسة وكل وقف للتصوير والمصور يقول لهم (قولوا تشيس.. براڤوا) وكان هذا سائداً في مدرسة الأراضي الواطئة (المدرسة الفلامنكية) ولكن رامبرانت لم يفعل ذلك لأنه في أول دخول له عالم الإحتراف بإمستردام دخل أيضاً بفكر مختلف تماماً بلوحته الشهيرة (درس التشريح) وكان أيضاً الفكر السائد أن ترسم الطبيب وأمامه الطلبه في وضع ثابت مع الجثة أو الهيكل العظمي ولكنه حاول وإن كان على إستحياء رمي هذا السائد وللأبد خارج نطاق تفكيره ورسم الحدث

وبالعوده لأحداث لوحة حراس الليل فقد دفع كل واحد منهم مبلغ من المال له وبالتقريب هم حوالي سبعة عشر أو ثمانية عشر شخص وكانوا ينتظروا لوحة تخلد صورهم مثل صور القضاه ومثل المتعارف عليه لأنه نال شهرة كبيرة حينها كرسام بورتريه

ولأنه رسام يمتلك مفهوم عن الحياة وله رؤية خاصة كالبصمة وسواء إختلفت أو أتفقت مع هذه الرؤية فهذا لن يغير من أنه له عالمه الخاص به وله أسلوب في التنفيذ خاص به جدا وإن كان متأثراً لحد كبير برسام إيطالي يدعى كرافادچو إلا أنه أستطاع عمل شخصية متفردة وهو بكل هذا عندما يشرع في رسم بورتريه أو طبيعة صامته أو منظر خلوي فلن يستطيع تجاهل فرض شخصيته ومفهومه على ما يفعل حتى لو حاول لتراه يطل عليك بشحمه ولحمه من خلال العمل (وقت مستقطع .. كثيرون حاولوا إلصاق نصف وجه ليوناردو دافنشي بنصف وجه الموناليزا ليدللوا على أنه كان يرسم نفسه وهذا غير صحيح من الناحية العملية ولكنه صحيح من ناحية أن مفهوم شخصية الرسام تفرض ملامحها على أي عمل له وكذلك كثيرون فعلوا نفس الشئ مع بيكاسو وعينه وعين لوحاته ورينوار وڤان جوخ وغيرهم .. إنهم جميعاً شخصيات طاغية ولابد أن تكون هذه الشخصيات هي اللوحة مهما حاولت إخفاء ملامحها .. يظهر مفهومها رغماً عنها لأنها بالفعل تمتلك مفهوم) لهذا بدأ رامبرانت في اللوحة وكان أكثر نضجاً منه عندما رسم لوحة درس التشريح وبدأ يستخدم الأشخاص لتجسيد الحدث وبصورة صارخة ولا يوجد أي إستحياء كما كان في درس التشريح وكان المهم بالنسبة له هو تصوير الفعل وإكسابه حياة وتغليفه بفلسفة رامبرانت نفسه وإستخدامه للضوء والظل بأسلوب مذهل لصنع دراما حياتيه وما يهمه هو الحياه نفسها وليس الأشخاص .. هو هنا يعبر عن الحياة بغض النظر عن التصوير التسجيلي لشخص بعينه أو التركيز على بطل والبطل هنا هو من يخدم مفهومه وفقط

وبعد إتمام اللوحة فوجئ من أرادوا تصوير أنفسهم بهذه اللوحة التي هي الأن مفخرة هولندا لدرجة إستخدامها في الدعاية السياحية (يضعوها وبجوارها زورا هولندا لتشاهدوا حراس الليل) لها فوجئوا بها وثارت ثائرتهم وهددوا بقتله ولكنه لم يتحرك قيد إنمله عن موقفه وكان هو الأخر متفاجئ بردة فعلهم .. ولننهي موضوع حراس الليل هنا

رسام كهذا له مفهوم خاص ولا يهمه التصوير التسجيلي للأشياء وإنما يستخدم الأشياء لتخدم مفهومه الخاص عندما يرسم نفسه بالتأكيد لن يهمه مطلقاً أن يسجل ملامحه لكن الأهم أن يصور مفهومة من خلال هذا الذي يراه في المرأة وهناك فترة في حياة رسام البورتريه وهي فترة البداية والتي يتمرن فيها الرسام على صورته من خلال المرأة وبعدها ربما لا يرسم نفسه إلا إذا وجد وجهه معبراً عن مفهومه ولكن حياة رامبرانت تفاوتت بين الغنى والفقر المدقع وحتى في لحظات ثراءة كان شديد التبذير من وجهة نظر من حوله بشراء إكسسوارات وملابس تاريخية لترتديها موديلاته أثناء رسمه لهم وكذلك كان يشترى لوحات لرسامين أخرين يعني ببساطه كان مفلس حتى وهو غني والأحداث التي مرت بحياته من موت زوجاته وموت أبنه كانت قاسية وهو بالإجمال شخصية حزينة ولكن بها شئ من المرح والكثير من الفلسفة ولم يقبل عليه الناس كثيراً لرسمهم لأنه فيلسوف البورتريه والناس تريد صورة ظريفة تعلقها في الصالون بمعنى أنه كان دائماً في مشكلة مع موديلاته ومع عدم ثقة الأخرين فيما سوف يقدمه لهم ومن هنا كان أمام مشكلة

الموديلات تريد مبالغ وإكسسوارات وإن توفرت فلن يشتريها أحد يعني الطريق للخارج أي خارج نطاق منزله شبه مقفول إلا من لوحة هنا بواسطة أو هناك وكان الحل هو الإتجاه للداخل يعني داخل المنزل وبدأ يرسم زوجاته وأبنه وبالطبع هؤلاء لم يكونوا متاحين طوال الوقت ووجد ضالته في صورته الشخصية لأن رجل بهذا الحجم من الإحتراف كان لابد له من ممارسة الرسم بصورة يومية ومنتظمة حتى لو كانت زوجته ميته في الغرفه المجاورة وهو مستغرق في الرسم وأحياناً ينام مكانه ويستيقظ ليكمل ما بدأه بإستغراق شديد فيما يفعل

وكان على الدوام هو الموديل الأصدق والأكثر تعبير عن مفهومه ودائماً الرسام عندما يواجه نقص الموديلات يشعر بكارثة ويتجه في أغلب الأحيان لنفسه بالذات لو كان رسام بورتريه ومن هنا كان هذا العدد الغزير من الصور الشخصية وهي بالإسكتشات والمخططات المبدئية والليثوغراف تبلغ حوالي التسعون بورتريه

علاء حجازي