ظرف زمان | عليه العوض ف المقاته – صلاح الراوي


 

د. صلاح الراوي د. صلاح الراوي

قبل أن يتم بناء السد العالى كان هذا المشروع أكاديمية كبرى تعلم فيها عشرات الآلاف من الرجال ، وأكثر ما يشرفنى أن هذه الأكاديمية صاغت عشر سنوات من عمرى (1960 -1970 ) طرق فيها العود حتى صلب وقدح زناد الروح حتى أشعل واشتعل وتشاعل .
كان ضبط حركة النهر عملا نراه بأعيننا ؛ فقريتى المدهشة هى أولى القرى التى تقع شمالى خزان أسوان وتحت بصره تماما وعلى مرمى موجة من موجاته ودوّى صوته ؛ هى ترى هذا الخزان يوميا ولمدة أربع وعشرين ساعة ، تراه جسرا يربط شرق دنياها بغربها ، وتراه بناء صلبا عجيبا ذا عيون مهولة يندفع منها الماء غاضبا على هيئة بالات ضخمة من القطن لا يقف فى طريقها شىء . وكلما أغلقت هذه العيون مرة كل شهر ( يوم السد ) فرحت القرية الطيبة لأن سمكا كثيرا سوف يجود به النهر المتغول عندما يجبر على خفض منسوبه ويفاجأ السمك بهذا فيتقافز فتلتقطه الخطاطيف القوية بعد أن حصرته تحويزات الأحجار يبنيها الرجال فى قلب الماء ويسمونها الكاور ( ولعلها الكعور ) .
يوم سد العيون تكون القرية كلها فى النهر ، لكن عندما يتآمر العامل المسئول عن غلق العيون – لسبب أو لآخر – فإنه يترك عينا مفتوحة أو يتراخى فى سدها ابتزازا وطلبا لقروش برطلة فيفسد الأمر ؛ لأن ما تدفعه هذه العين من مياه لا يجعل منسوب المياه على المقياس الذى رتب عليه أهلنا نظام صيدهم .. سيكون هناك سمك ولكنه أقل .. ومزاج الناس يتعكر مهما يكن الماء المتدفق من العين المارقة صافيا .
عندما يلتهم النهر شابا أو صبيا أوطفلا وما أكثر حدوث هذا فلا بد من سد العيون ليسهل البحث عن الغريق .. تجرى اتصالات كثيرة وسريعة للتصريح بسد العيون فى غير الموعد الدورى.. وتسد العيون سريعا وبلا تقاعس ؛ فالأمر لا يحتمل .. يومها يكون حصاد السمك هائلا .. هائلا . أسرة واحدة غريبة عن القرية – غالبا – هى التى لا تشارك فى جمع السمك .. هى مشغولة طبعا بصيدها الثمين (سمكتها الغالية ) .. يشاركها فى البحث كثير من رجال القرية ، أما أغلب الناس فهم فى شغل بجمع الساموس والبلطى والبقرة والشلباية والقرقور بشاربيه وزعانفه المدببة التى كثيرا ما أدمت أصابع وأكفا.. كل البيوت تأكل سمكا مقليا ومطبوخا ومشويا ، ويستسلم هواء القرية ليلتها ولأيام وليال بعدها لرائحة السمك نيئا ومطبوخا أو فى طريقه إلى التمليح فسيخا رائعا . ومعظم البيوت تبيع سمكا للتجار القادمين من المدينة ؛ تنصب حلقة أسماك القرية فى مقرها على شاطىء النهر قرب جامع الخمسية بقبابه المميزة ، لكن البعض يفضل أن يبيع خارجها ليوفر لنفسه ما تحصله الحلقة من رسوم ، كما يفضل البعض أن يأخذ سمكه وينطلق إلى حلقة مدينة أسوان من أجل فارق فى السعر مهما يكن قليلا فهو على أية حال – أو على حال بعينها – فارق وإن استهلكت أكثره نفقات المواصلات ، وهو ما يعوضه نفسيا أن ارتياد المدينة يتيح لهذا الفريق فرصة شراء بعض الاحتياجات وفى مقدمتها ( الفرطوق ) أى العيش المصرى وهو الاسم الذى يطلقه أهلنا على العيش البلدى بلغة القاهرة والوجه البحرى .
ليس هذا فقط ما يراه أهلنا فى هذا الخزان الذى هجّر بناؤه وتعلياته آلاف النوبيين من فردوس الجنوب الرائق إلى شمالات القلق والحيرة وغربة النخل وإنما هو أيضا الجسر الذى يعبره عبد الناصر إلى مقر إقامته كلما زار أسوان ،وعلى مقربة من استراحته أشهر بائع فول فى تاريخ المنطقة واسمه ( سليم ) .. يعلق لافتة كبيرة تحمل عبارة “فول سليم ” وكنت أقرأها دائما على أن سليم صفة للفول أى أنه أفلت من السوس الذى يفسد فول الفقراء فى صحن الإفطار والغداء والعشاء شبه اليومى . وللتدليل على جودة فول سليم – وكان جيدا حقا – فإن الروايات تتردد حول أن عبد الناصر نفسه كان يأكل من فول سليم ؛ لكن الجانب الآخر من دلالة هذه الروايات يتجه إلى رسم ملمح خاص من ملامح بساطة الرجل ( ليس بساطة سليم طبعا فهو لا يحتاج إلى بساطة أكثر من كونه بائع فول وإن كان والله قنزوحا كبيرا مدلا بفوله ، وربما كان مصدر هذه القنزحة هو أن رجلا فى قامة جمال عبد الناصر كان يأكل من فوله كلما حل بالمدينه التى ظلت تحبه بجنون يستحقه وتستحقه ) .
ياااااااه !!!
أين كنا ؟ .. ننوى الحديث عن المقاتة ؟ .. طيب !
يبدو أن مخالطة بعض التواصليين من فصيلة ( ع أساس ..وماهو آه ) يقولها بعضهم على الشىء ونقيضه ؛ أو معارضا والله الشىء ونقيضه أيضا فى سياق واحد ونفس واحد .. المهم أن يكون التأييد والمعارضة لصالح من يملك أو تملك قلما أميريا يوقع ورقة أميرية تجلب له مالا أميريا أو شبه أميرى ، يبدو أن هذه المخالطة فى ( ظرف من زمان ) ومهما يكن التحرز من العدوى قد نقلت إلينا بعضا من ميكروب التداعيات المسبب لمرض من أخبث أمراض الدرس الفولكلورى ، وهو مرض سيولة الدش وتحويل القاعات العلمية إلى مصاطب كتلك التى فى أريافنا ، وهو إما عرض من أعراض الزهايمر أو مقدمة من مقدماته المضمونة .

يلا .. العوض على الله فى المقاتة .

……………………………………….

مجلة الإذاعة والتليفزيون / القاهرة 12 يوليو / تموز 2003
بقلم صلاح الراوي

,