الــسـَّراب والـسـرداب والـسـربـال – للكاتب محمد مستجاب


الــسـَّراب والـسـرداب والـسـربـال

بيتنا – الذي كان خارج القرية على شواطئ البرك والمستنقعات – ظل يبتسم في رومانسية فقيرة ممعناً في الهواء الطلق, ليتيح لي فرصة امتزاج الخيال الصبياني بما أحصل عليه من مناظر الحب والغرام المشتعلة على شاشة سينما المدينة القريبة. وتتوالى السحب حاوية في تكوينات الغروب الملوّن السراب المأمول, دون أن أفطن إلى أن السراب يتوالد في آفاق الرمال الممتدة في الصحارى دون أحراش شجر الجميز والسنْط والنخيل ومزارع القصب والأذرة. وبالتالي فقد تضاءل سراب الأمنيات إلى سرابة الماء السلس المتسرِِّب في قنوات الحقول, تلك التي تظل الضفادع والسحالي تتقافز على حافتها في سرور لا أثر للخيال السينمائي في تكويناته.

ولقد ظللت أتساءل – بما أمتلك من عبقرية قديمة – إن كانت سرابة الماء هي التي وراء لفظ (السراب) عندما تتمكن من اختراق الأرض? ثم لم تلبث الأسئلة أن توالت خلال سنوات عمري المتوالية عن العلاقة بين سراديب الذهب والألماس وأعناق النساء, وما السبب وراء الرعب الكامن في السرداب المظلم الذي يفح بالترقب والهمس والتآمر? ولماذا – إذن – نطلق على كل الحيوانات والطيور الجميلة المسالمة لفظ سرب فنقول: سرب الحمام, سرب العصافير, سرب اليمام, سرب الغزلان – دون أن تحظى السباع والنمور والصقور والغربان والحدآن بأي سرب, ثم لماذا تقوم ثقافة العصر الحديث بتطويع لفظ السرب للطائرات المقاتلة, ثم سرب النقاد – أقصد نقاد الفن والأدب – وأسراب الصواريخ? أم أن البحث عن إجابة يصبح تسريباً سواء بالمعنى الذي يؤدي إلى التوصيل المتسلل السري كما هو قائم في تسريب أسئلة الامتحانات, أو حيثيات الأحكام, أو نوايا ذوي السلطة إلى من يهمهم أن يعرفوا بهذه الأمور قبل وقوعهم فيها?

إلاّ أن كل هذه المواد المتسربة أو السرابيّة أو الساربة تأخذ مجرى آخر حينما نعرف أن المعجم العربي يجعل السُّربة هي الشعر المستدق – أي الناعم القصير جدا – الذي يأخذ مساحة منظمة من الصدر إلى السُّرّة, والسُّربة أيضا: الطريق, وقريب السُّربة: قريب المذهب أو المشاعر أو اتفاق الحاجة, أما المسْرب – وجمعها مسارب – فهي قنوات انسياب المياه, وهي معروفة لنا في قريتنا وتطلق على الجداول الصغيرة والترع التي لا عمق لها وتحف بها نباتات بوص الغاب وذيل القط والنجائل غير المشذبة, وتأخذ الحيات والثعابين مساربها لمواضع آثارها تنساب إليها سعياً على بطونها, ولا أعرف إن كان للعقارب مسارب لكني أزعم – في ثقة – أن اللصوص يميلون إلى ذلك.

وقد هالني أن النساء حصلن على حقهن في السرب: سرب من النساء على التشبيه بسرب الظباء, إلاّ أن النحل – بعد النساء مباشرة – يصبح له سربه, بل إن السرب تعني: النفس والقلب والصدر أيضاً, يقال هو آمن السرب أو آمن في سربه: أي أنه آمن النفس والقلب والصدر أو آمن على ماله من أهل وممتلكات وأموال, ويقال هو واسع السرب: وتعني واسع الصدر فقط, كما أن السّرب هو الطريق والوجهة والنهج, فإذا انفتحت السين وتم تأنيث اللفظ ليصبح (سَرْبةً) فإنها تعني الرحيل القريب, أقصد السفر القريب حتى لا يختلط بالرحيل معنى آخر لا يصح الاقتراب منه الآن, جعل الله سَرْبك آمناً… ومريحاً حتى تصل إلى مسربتك الخاصة: أي المرعى الواسع – أو المزرعة الرحبة, حتى تتسربل بك الأمور الجميلة, أي ترتديها أو تتناسق نفسياً معها كما هو مقصود بالسّرْبال أي (الارتداء أو اللباس), كما أن القميص سربال أيضا, والدّرع سربال بدأ يندثر بعد أن ظلّ أحقاباً سربال الوقاية في القتال القديم, حتى لو كان السربال يطلق على كل ما يرتدى من أنواع الملابس والعناصر الواقية, وفي التنزيل العزيز وجعل لكم سرابيل تقيكم الحرَّ وسرابيل تقيكم بأسكم صدق الله العظيم.

أما السارب فهو الذي يسرب سروباً يخرج في الأرض ذاهباً على وجهه فيها, وربما يكون مريحاً لي شخصياً أن السارب من يهيم في الأرض دون هدف سوى متعة التجول, غير أن العين – إذا ما دمعت – فإنها تقع تحت هذا السرب أو السروب, كما أن قربة الماء أو اللبن لا تلبث إن اخترقها ثقب دقيق – دون تمزق – أن تـأخذ حقـــها فــي السـروب, فـــإن أردت أن نـتـــوقــف عـــن كــل هـــذا التسريب المتـــسلل فعليك – يا صديقي – أن تنصت لقليل من الموسيقى الهادئة حتى تتسرب إلى وجدانك الذي يسعى إلى نوع من السكون الذي لا ضجيج ولا قلق فيه, حتى تتسرب – آخر الأمر – إلى عالم آخر لا يقلّ جمالاَ عن السراب الذي نسعى كي نستمتع برؤيته – ولو لمرة واحدة.

محمد مستجاب