العقار .. والعقيرة – للكاتب محمد مستجاب


العقار.. والعقيرة

كان لنا صديق – في مراحل حياتنا المبكرة – ذو عقيرة بالغة العذوبة, وظل صوته بجماله الفِطْري ينقل ألحانا وأغاني ذائعة لمحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد وأم كلثوم, حتى دهمته رغبة أن يصبح ذا عقار, أي يمتلك مبنى مستقراً ثابتاً لا يمكن نقله أو تحريكه, فاختنقت العقيرة بين حوائط العقار, ولم يكن يمتلك القدرة الكافية لتشديد (قاف العقار) ليصبح دواء يعالج به ما أصاب عقيرته, دعك الآن من كونه رحل عن الحياة – يرحمه الله – عاقراً دون إنجاب منذ شهور قليلة, ودون أن يدري – لو أنه امتلك قدراً من الإدراك اللغوي – أن العقر – بفتح القاف – إذا أصاب أحدنا فإنه يعني أننا نظلّ في مكاننا لا نتقدم ولا نتأخر, في عصر مثل هذا العصر الذي يضغط على أعصابنا الآن ليحاصرنا بأهمية ألا نقع في معاقرة ما يحاصر حركتنا: الجسدية والعقلية.

ولعل الإدمان على معاقرة الخمر هي أخطر ما داهم الإنسان خلال مختلف العصور, وكل الأديان, وعلى قمتها الدين الإسلامي الحنيف, وما ترتب على ذلك من حضارات, وعلى درجات متفاوتة من تحريم صريح حتى تنبيه واعظ, وفي مجال الطب والصحة وعلم السموم, تقع معاقرة الخمور (والمخدرات التي لا نميل إلى استخدام معاقرتها بديلاً لتعبير الإدمان) تحت سطوة التحذير الواضح الصارم, وهو ما يؤدي بنا إلى الانتباه الضروري لما حدث من اتساع مذهل في معنى المعاقرة خارج دوائر الخمور ثم المخدرات, لتصل إلى الوقوع في دوائر أخرى تبدو طيبة وجميلة إذا ما ظلت ذات نسبة معقولة في حياة من تتحقق شخصيته فيها: معاقرة الشعر إلقاء وإبداعاً, وفن القصة, والرواية, والموسيقى, والرسم, والرحلات, والتجوال في المواقع التاريخية, والتجديف في البحار, والإمعان الفلسفي في الحياة: تدويناً أو بحثاً – مع قضاء بعض الوقت في مجالات الآفاق الممتدة عند غروب الشمس, أو البحث العلمي, ثم يجب ألا أهرب من الروح التي تميل إلى نوع من المرح لا يتسع – عند إدمان معاقرته – حتى لا يصبح سلوكاً غير مريح, مع أهمية الربط بين الكلمتين: المرح – و – المريح, كي لا نجد أنفسنا في مأزق المنافسة على المعاقرة, يقولون عاقر فلان فلاناً: أي سابقه في عقر الإبل تظاهراً بالجود والكرم والسخاء رياءً وتحقيقاً لشهرة وسُمعة بين الناس, فلا يزالان يعقران حتى يُعجز أحدهما الآخر, وكان ذلك في الجاهلية, ونهى عنه الإسلام, لكنه استشرى في العصر الحديث خلال المنافسات الشهيرة في المصارعة والملاكمة, ومعاقرات أخرى تودي بواحد من المعاقرين إلى الهلاك, أو بكليهما معاً.. حتى في الكلام المنطلق منافسة بين متحاورين على المسرح إثارة للمتعة بين الجماهير, حيث يدهم الإرهاق أحد المتباريين – معاقرة لاندفاع الكلام – ليسقط منفعلاً ميتاً بين تصفيق عارم بالغ الاستمتاع.

وصفة العاقر التي تلازم البشر والحيوان الذي لا يلد, تتحرك إلى الطيور للتعبير عما يصيب ريشها من آفات تعوق نموه, فإذا انعقر ظهر الدابة: فقد أصابه جرح مؤثر في حركتها, أما إذا انعقر البعير والفرس – دون تحديد الظهر كما في الدابة – فتعني مباشرة: أن قوائمها ضربت بالسيف, فإن دهمت الكلب صفة العقور فإنه يصبح سعراناً متوحشاً مُدمناً للنهش والعض الذي قد يصل إلى حد الافتراس, ويبدو أن (العُقْر): أصل كل شيء, وعقر الدار وسطها, وعقر القصيدة: أحسن أبياتها – وهو ما لا تخضع له قصائد – أقصد أنواع الشعر الحديث جداً, فإذا ما أصابت صفة العقر بيضة الدجاجة فإنها تعني أول بيضة تبيضها في حياتها, مع أن العقر إذا أصاب الدجاجة فقط فإنها تصبح عاقراً لا بدّ من رصدها ومتابعة حركتها كي تصبح – بعد ساعات طعاماً شهياً, فإذا أردت المزيد – قبل الاستمتاع بالدجاجة المشار إليها – فإن العقر أصل النار الذي تتأجج منه, أعني أن الفحم يظل فحماً حتى يبدأ في الاشتعال فيصبح عقراً, وإذا كان العقار هو الدواء – أي دواء – فإن العقر منه هو الدواء الذي يمنع الحمل, لاحظ أنها الصفة المعكوسة بين الدواء والمرض الذي يعالجه, فالعقرة – مع أهمية أنها تعني العقم كما أسلفنا – إنما هي تعني أيضا الخرزة التي تحملها المرأة كي لا تحبل, انتبه يا صديقي فإن عقرة العلم النسيان, أما عقرة التاريخ فهي التزوير, وعقرة الحضارة هي التزييف, وعقرة الأخلاق هي الانغلاق دون الانفتاح على المعنى الخصب – أو الخصيب – للصداقة والتواصل الإنساني.

كلمات لها معنى

كنت أبحث في القاموس عن (العقرب) فوقعت
– وأنا أدري – في (العبقرية), فاضطررت أن ألوذ هرباً منهما.

كل ما في عقلك من أفكار, وكل ما في جيبك من أوراق مالية: لامستها أيدي الآخرين.
الفرق بين النباح والعواء هو المسافة بين الاحتجاج والنحيب.
أنواع عديدة من الأعشاب والكلأ والأشواك تتناثر على وجه الأرض, لماذا لم يقولوا: تتناثر على ظهر الأرض?
استطعت الحصول على قطعة أرض في منطقة المقابر, وفور أن سلمتها لورثتي: أقاموا المدفن بسرعة مذهلة.
محمد مستجاب