الصندوق – للكاتب محمد مستجاب


الصندوق
من ليلة الفرح.. إلى دنيا الكنوز والقلوب

في ذاك الزمن المبكر: كانت تجهيزات العروس من أثاث ورياش تحملها الجمال الهادئة الوديعة إيذانا باقتراب ليلة الفرح غدا أو بعد غد, إلا أن ما يشير إلى أن الفرح سيكون الليلة بالتأكيد كان الجمل الوديع الهادئ الذي يسير الهوينى وعلى ظهره الصندوق البديع المزخرف بألوان تتعامد وتتقابل محاصرة أنواعا متعددة من نقوش الزهور, ويظل تقافزنا الطفولي منضبطا مع وقع أقدام الجمل من بيت أهل العروس إلى أن تنطلق زغاريد استقبال الصندوق على الباب المأمول, كنا نعرف أن الفاصل بين رحلة الأثاث ورحلة الصندوق تخضع لعوامل التركيب والتجهيز التي تحتاج إلى وقت لترتيبها وتنسيقها في أحلى صورة للأثاث دون المساس بذلك الصندوق الذي يحوي الأشياء الخاصة بالعروس “ولا يصح أن يقترب منها أحد”, وكان هذا الصندوق الساحر وراء اللذة الطافحة التي تمور في عقولنا تحت سطوة التصور لما يحويه, وكأن الأمر كله مع تعدد تكراره يمهد لأن نكتشف أن أثاث فرح أمهاتنا قد تحطم وتبدل وتغير عدا الصندوق القابع دائما في ركن غرفة الأمومة تحت لقب “السحارة”, مع أن وظيفته الأولى قد تعدلت بعد أن أصبح سحارة, حيث مع الأشياء الخاصة بأمهاتنا أضيفت النقود المصرورة وأوراق ملكيات الأرض والبقر والنخل والجلباب الأسود والثمين الذي تستعمله الأمهات رداء وقورا ومعبراً في أي مناسبات: فرحاً أو حزناً, وكنت أتصور خلال انجذابنا الصبياني لمعلم الإنشاء والتعبي في المدرسة أن “سويداء القلب” تعني هذا الصندوق بالتحديد.

غير أن صندوقا آخر داهم قريتنا مرة أو مرتين فأشعل نور سويداء القلب, إنه ذلك الصندوق الذي نمعن في فتحاته تحت ظلال ستارة غليظة لنشهد الزناتي خليفة وقد وقف متحديا أبوزيد الهلالي الشجاع الذي نرهبه جميعا, وتتوالى مشاهد انتصار البطل على الأعداء والمناوئين مع أهمية إضافة بعض المشاهد التي تشعل الرغبات الكامنة في دنيانا, إنه صندوق الدنيا الذي وقع بعد ذلك صريع الصندوق الأعظم: أي السينما, ليتضح لنا من الأمور ما لا يمكن لصندوق الدنيا أن يتحمله أو يستطيع أن يقدمه حتى لو كان في صندوق العروسة أو سحارة الأمهات, متجاوزا تلك الصناديق الأسطورية التي ظل علي بابا في ألف ليلة وليلة يهتف خارج باب مغارته: افتح يا سمسم, إن منظر حبات اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والماس والمرجان وهي تتألق بإشعاع خاطف ثاقب يخترق الجمجمة سوف يظل الأمل الدفين للرغبة العارمة في امتلاك الكنوز, دون مقاومة ذات تأثير ضد ثقافة المدينة تلك التي فوجئت فور نزولي للعاصمة لأول مرة أن شارعاً معقداً وملتويا في حي الغورية يحمل اسم الصنادقية, ويلتف معه شارع الخيامية أي مركز صناعة وإعداد الخيام, كان شارع الصنادقية مزدحما بأنواع من الصناديق متعددة الأحجام: بعضها صغير لا يصلح إلا لمشغولات ذهبية “تثير السخرية مقارنة بصناديق مغارة علي بابا”, ثم تبدأ أحجام أخرى بأشكال وزخارف لا أعرف فيما تستخدم حتى اليوم, وقد ظل عقلي الريفي أو القروي يترجم أنواع الصناديق إلى طقوس يحمل بعضها موتى الأقباط وقد ارتسم الصليب على جدرانها, وبعضها ينكشف تحت وقع حفر سراديب البحث عن آثار الأقدمين, حيث ينجلي الظلام على التابوت ذاك الصندوق الصخري الذي ترقد فيه المومياء الموغلة في التاريخ لتحدثنا عن فرعونها الخاص بها, إن لفظ التابوت يسري على كل المعنى التاريخي للصندوق حتى حين حمل سيدنا موسى عليه السلام طفلا ليطفو فوق وجه اليم (اللغة المناسبة للبحر) هروبا من حصار جنود فرعون وهامان, كما أن بعض أنواع هذه الصناديق يرتدي أشكال صناديق البريد سواء في العمارات والبنايات أو في مكاتب مصلحة البريد ذاتها, حينئذ تعود سحارة كنوز الأجداد للطفو فوق تيارات عقلي تحت سطوة المثل الشعبي الساخر بعالم الأذكياء: “سرقوا الصندوق يا حبيبي لكن مفتاحه معايا” “أي معي”, وقد سمعته في النوبة القديمة جنوب أسوان في أغنية هازجة وهازلة: “سرقوا الصندوق يا عبيط لكن مفتاحه معايا”, والعبيط في اللهجة الدارجة هو الأبله, وربما كانت القدرات التعبيرية الشعبية وراء صياغة هذه المقولة: “كسروا حُق المرحوم لكن صندوقه سليم”, والحق بضم الحاء هو العلبة الصغيرة وتطلق على المنطقة الوسطى من البدن, في حين يعني الصندوق الصدر الإنساني حيث يكمن الفؤاد.

لكن كل الصناديق لم تستطع في ذلك العصر أن تفتح الباب على هذا الصندوق الأسود الذي تحمله الطائرات في منطقة حصينة من تكوينات جسدها حاويا كل التسجيلات التي تفسر الظروف التي قد تنتابها فتدمرها, وقد ظل صندوق الطائرة المصرية يعابث أعصابنا لنهتز كلما جاءتنا منه إشارات الارتباك أو الاضطراب خلال الصناديق السحرية العصرية المسماة بالتليفزيون, إنها الصناديق العصرية التي تلعب بالأحاسيس حتى لو تقلصت داخل صندوق الطرد الذي يتحكم في مشاعرنا خلال استرخائنا بين أمواج حمامات أماكن إقامتنا, حيث يحلو لنا إن استطعنا أن نفكر استعذاب مشهد صندوق الدين: دولياً كان أو مصرفيا, أو جيباً خاصاً.

وبينما أحاول التخلص من كل صناديق الكنوز والمومياوات والطفو فوق سطح البحر والبريد وأسرار سقوط الطائرات, فوجئت بتيار الكهرباء ينقطع, ويعم أوراقي الظلام, لأخرج من حجرتي لأجد ابنتي تبحث عن صندوق الشموع التي نركنها جانبا دون اهتمام, ونظل نبحث عنها, فما كادت ابنتي بعد وقت مرهق تجد الصندوق حتى صدمت لكونه فارغاً, من باب الحرص لابد أن يظل في الصندوق بعض الشموع ولو كان صندوق الفؤاد دعك من صندوق العقل, أي الجمجمة في هذه المسألة.

محمد مستجاب