الشال… والشاليه – للكاتب محمد مستجاب


الشال… والشاليه

ما كدت أمعن في الشال, الذي تألقت بين انسياب نعومته: جارتنا القديمة, وأحفادها يتعابثون – مرحًا – حولها, حتى جرفتني ذكريات هذا النوع من تكوينات النسيج الذكي المتسلل حول الرقبة والصدر لتلتف أطرافه حول المنكبين, ضحكت جارتنا حينما ذكرتها بأنني ظللت أحقابًا طويلة بين قوسين من الشيلان: شال الرجال, الذي ينفرش على الجزء العلوي من البدن, وأحيانًا يعاد صياغته عمامة, ثم شال السمك النهري, الذي كان يصطاده مَن يدرك أن الشال لا يأكله أي أحد كالقرموط أو المشط أو البساريا, فالشال السمكي نوعان: أبو ريالة – وهذا ما ورد في كتب السمك دون تدخل مني – والقرقور, وكلاهما ضخم بالنسبة لأسماك الأنهار, مع صغره وضآلته بالنسبة لأسماك البحار, كما أن كليهما أملس الجلد, كبير الرأس, يقومان بتحريك أشواك الزعانف فترة طويلة بعد الصيد, ويصدر القرقور أصواتًا تكاد تكون إحساسًا بألم الاغتراب, بعيدًا عن الماء, وبعضه تظهر له عيون شقراء تظل مفتوحة حتى تبدأ عملية إعداده لدخول جهنم في الطريق إلى المائدة الكريمة.

لكن هذه الشيلان – حول الرقبة أو بين مياه الأنهار – لم تنتبه إلى نوع من البطيخ الشيليان, انتشر في أقطارنا منذ نصف قرن, مع أنواع أخرى من البطيخ المتضخم استدارة أو طولاً, شديد الاحمرار, حتى أن البطيخ البلدي المعهود بدأ يضطرب لونًا ولُبّا, لأن البطيخ – كل أنواعه – يملك من اللب ما لا يتصوره نبات آخر, وظل هذا الشيليان الضخم الممتد هدفًا لذوي الثقافة والقدرات المادية, حتى قضى في السنوات الأخيرة على البطيخ البلدي بشكل واضح, وهي ذاتها الطريقة, التي تمكنت بها الشاليهات من القضاء على العشش والأكواخ, لا أقصد عشش وأكواخ المكافحين من أهلي في الريف, بل تلك العشش البسيطة المصنوعة من البوص في المصايف الراقية على البحر, والتي اشتهرت منها – في رأس البر التابعة لمدينة دمياط المصرية – عشش أم كلثوم ومحمد التابعي ومصطفى أمين, وماري كويني, ويوسف وهبي, وعدد كبير من مشاهير الفنانين والوزراء ورجال المجتمع, وأثناء اندثارهم رحيلاً قضاء وقدرا لا اعتراض عليهما, قامت الشاليهات بإعادة صياغة عشش رأس البر بشكل راق وجميل يشابه تلك الشاليهات, التي تتراقص في هدوء على مسطحات وقمم جبال الألب الأوربية في سويسرا وشمال إيطاليا وغرب فرنسا, لتؤدي دور المصحات, بعيدًا عن ضجيج المدن وفقر العشش, وهو ما أدى بي شخصيًا – حين كتبت عن حياتي – أن أستخدم مصطلح الشاليه فوق المستنقعات السويسرية, التي ولدت على ضفافها خارج قريتنا ديروط الشريف, دون أن أقترب من كلمة كوخ أو بركة, أو أي إشارة لهذه التكوينات القروية, وسيكون مريحًا – حينما تقرأ هذا الموضوع ابتداء من الشيلان والشيليان والشاليهات: أن تراعي إيقاع الكتابة حينما تنفصل مقاطعها بالشولة, تلك الفاصلة – ثم أصبح اسمها الفصْلة – التي تحول دون الاندفاع في القراءة, مما يعوق عقلك عن متعة الاستقبال, وقد شاءت ظروفي أيضًا – أثناء العمل في بعض الصحف – أن أواجه كتابات كثير من الأصدقاء – أو حتى الأساتذة – بضرورة الاهتمام بهذه الفصلة أو الشولة, وما قد تحتاج إليه الكتابة من علامات أخرى للاندهاش أو التعجب أو الاستفهام, أو حتى النقطة الضرورية عند انتهاء المقطع أو الموضوع. إن للشولة دورًا مؤثرًا في استقبال قراءة أي نص, وقد تخلص أستاذنا إحسان عبدالقدوس – في رواياته المنشورة كلها – من كل ذلك باستعماله لثلاث أو أربع نقط بين الجمل, لكن ذلك لا يحل وظيفة الشولة بالمعنى الذي أقصده. ولقد كان شيلوك – تاجر البندقية عند زميلنا شكسبير – شديد الحرص – مع همس الكلام, مع فواصل المقاطع, لتنتهي مسرحيته بنجاحه في الوصول إلى قطع رقبة مَن استدان منه المقابل قبل بداية الشولات.

إلا أن الذي يعلو على كل هذه المسائل: الشهر الجميل شوال الهجري, الذي يأتي جوابًا لقرار رمضان الكريم الموسيقي, حينما تأتي الأسرة بأفرادها المتناثرين يوم عيد الفطر أول أيام شوال, يلعبون ويلهون ويأكلون صباحًا الفطير والبسكويت وكعك العيد, ثم يقومون بتقليب جيوبي, انتزاعًا لثروتي, ليتقافزوا سعيًا إلى المراجيح والمزامير, وركوب الخيول الخشبية, ليتركوني وحدي في البيت أسعى – دودة تتقلب وسط أوراق الكتب – باحثًا عن شيلر الفيلسوف الإنجليزي, صاحب كتاب (ألغاز أبو الهول), وتلك الجملة المشهورة عنه (إن الإنسان معيار للقيم والأشياء جميعها), وفرناند شيلر هذا مختلف – عصرًا وانتماء – عن الأكثر شهرة فريدريك فون شيلر, الشاعر والكاتب المسرحي والمؤرخ والفيلسوف الألماني, والذي عاش طريدًا, هاربًا من الدوق فريتمبرج, الذي سيطر عليه, وعيّنه طبيبًا بالجيش, ليكتب مسرحية (اللصوص), والتي يقال إنها من أعظم مسرحياته, وخلال تجواله الهروبي في أوربا قبل رحيله عام (1805 ميلادية), تمكن من إبداع معروف في فن التراجيديا, وبعد مسرحيات عدة, اعتزل الحياة مجهدًا, ولاسيما نشيد (إلى الفرح), الذي لحّنه الموسيقار الشهير بيتهوفن في السيمفونية التاسعة ذات التألق الموسيقي المتفرّد, وسوف يجرّنا الكلام عن شيلر إلى دروب وأنفاق وحدائق وبحيرات وشاليهات أخرى عدة, سوف تسبب لي إرهاقًا, قد يدفعني أن أفعل مثل شيلر, فأهرب – فوق الأرض أو تحت السماء إلى (شيلي), آخر جنوب أمريكا الجنوبية, لأمعن في البحيرات والبحار – باحثًا عن مستنقعات قد أسعد على شواطئها باصطياد واحد من شيلان بحر يوسف في صعيد مصر

كلمات لها معنى

كل شيء يبدأ هادئًا وبسيطًا, دعك من الصياح الآن, انظر إلى لحظة غروب شمس آخر النهار. عليك أن تظل ممعنًا في جمال الوجود حتى لو تواطأت الرياح ضدك.
الشر يساوي الكتلة في مربع سرعة الفراغ.
أول ما يبلى في الملابس الكريمة: الجيوب, الملابس البخيلة لا جيوب لها.
يكثر هذه الأيام أن أبدأ كلامي بمصطلح بالغ التهذيب: صدقني, لو أمعنت في وجهي لاكتشفت أنني لا أثق فيك, ولا في نفسي, وكلانا يبتسم.
لو استطعت أن تستعيد الفطرة القديمة في الإحساس والتواصل والكلام والصمت, فسوف تأكل وتستمتع وتحس بما لن يحس به جهاز التلفزيون, الذي سوف يتعطل لعدم الاهتمام به وتشغيله, وقد يقع على الأرض.
السلام يقل المعرفة – جملة موروثة دون أن ندري أن الحرب تدمر المعرفة, والجمجمة التي تنفثها.
محمد مستجاب