الخُبز .. إلى الأبد – للكاتب محمد مستجاب


الخُبز .. إلى الأبد
ظللت أمعن في كفوف أمي وهي تحرك أصابعها ـ في انقباض وانفتاح ـ بين تكوينات العجين لتصل بالكتلة إلى مرونتها المناسبة تمهيداً لتدخل إلى الحركة التالية على المطرحة أمام فوهة الفرن, وعندما يتشابك أوار النار مع الدخان معلناً قبول الفرن لتشكيل الخبز ـ مع هدوء اللهب ـ تكون المطرحة ـ هل تذكرها?? إنها الأداة التي تتراقص فوق ساحتها قطعة العجين ـ قد أخذت دوراتها المرنة المتوالية, تلك التي استغرقت من عمر الإنسان ملايين الأعوام: حينما بدأت أصابع الإنسان تعرف وسائل جمع سنابل القمح والشعير والشوفان, وقناديل الأذرة والبطاطا كي تتحرك بها مخترقة عصورا حجرية ـ قديمة وحديثة ـ وبرونزية أو نحاسية ثم عصور الحديد والكلام والموسيقى ـ حتى تطل بها على الأفران الذرية ذات المجالات الإلكترونية ذات الأثر الواسع ـ والرهيب أيضا, دون أن يمنح علماء تاريخ الإنسان عصراً يمكن أن يطلق عليه (عصر الخبيز) مع أنه توازى مع كل العصور.

ومن الغريب أن الخبز ـ مهما اختلفت وسائل إعداده ـ يظل عاملاً مشتركا مهما تباعدت الجماعات البشرية في المكان أو الزمان أو كليهما: عند المصريين أو الفرس أو الفينيقيين أو البوشمن (جنوب إفريقيا) أو القبائل الاسترالية والهنود الهنود أو الهنود الحمر, أو بواكير العرب في الصحراوات أو التجمعات المتحركة التي أصبحت قرى ومدنا ثابتة لها تأثيرها المعروف في الحضارة الإنسانية, وهو ما اختصرته مواصفات العروس (العروسة أفضل) حينما كان الاختيار يقع عليها لأنها تجيد الخبيز ـ دون التفريط في مواصفات الترشيح لتكون زوجة ذات أصل وأخلاق وأرض وعقار أو متاع لنصل إلى أهمية عنصر الجمال الأنثوي آخر الأمر ـ يمكن إضافة التعليم الآن.

والخبز ـ في حالته اللدنة الجميلة كان ـ فيما أزعم دون اهتمام بكتب المؤرخين ـ هو (البتاو) الريفي المصري والخبزة الصغيرة المستديرة عند البدو, وهذه الخبزة هي التي تقدمها طقوس المسيحيين مقسمة بصفة الرحمة في بعض أعيادهم, كما أن الخبزة ـ أيضا ـ لا تزال هي الهبة الممنوحة للجوعى العابرين على الأديرة في الصحراوات, لكن الأمر يتحرك بالبتاو والخبزة إلى تكوينات تخترق العصور لتصبح أرغفة شمسية ـ أي تلك التي تترك لضوء الشمس فترة على المقارص (أي القواعد الخاصة بها) حتى تصل ـ بنوع من التخمر إلى قوام يساعد في اكتسابها لذة لم يعد العصر النووي القائم يأبه بها, أو في أنواع من الكعك البدائي الدائري الذي ظل أحقاباً هو القربان الأساسي في طقوس زيارة المقابر والمقامات وبيوت الأقارب, أو العطف ـ في الصباح المبكر ـ على الفقراء, وهذا الكعك ظل العملة المصرية الريفية ـ بمختلف أحجامه ـ أيام المواسم والأعياد التي نحصل بموجبها على السماح لنا بامتطاء الخيول الخشبية والمراجيح, أو المشاركة في متعة الفرجة على الغوازي الفاتنات المتراقصات على أنغام الطبول والربابة والأرغول والمزامير الشجية ذات الشجن الهاديء ـ بين رقصة وأخرى.

ولم يكن مدهشاً ـ ولا مطروحاً للمناقشة ـ أن تجد أمامك دعوى طلاق لأن الزوجة ـ أو العروسة في أغلب الحالات ـ لا تجيد الخبيز, وكان القضاة الذين ينتمون إلى المدن دون القرى ـ يحتاجون إلى الوقت يتهامسون فيه كي يقتنعوا بأن ذلك يصلح سببا لمثل هذه الكارثة, حتى كانت إمبراطورة فرنسا ـ زوجة لويس السادس عشر ـ قد أطلقت تعليقها شديد الجدية على الجماهير الفرنسية الثائرة جوعاً بسبب عدم توافر الخبز, حينما قالت: ولماذا الخبز? فليأكلوا البسكويت, دون أن تدري أن البسكويت ـ في تلك العصور المطلة على العصر الحديث ـ كان أرقى تكوين للخبز وصل إليه البشر في العالم كله, وفي بلادنا العربية كانت رائحة البسكويت التي تخترق الخياشيم في عذوبة مثيرة لحواس الشم ـ هي المفتتح الحقيقي لصباحية الزفاف السعيد, والإيذان للأقارب والأصدقاء كي يضعوا النقوط المناسب (أي الهدية المالية الجميلة) بين تلال البسكويت في صحن السعادة الكبرى, وهو ـ مازلنا في مسألة البسكويت ـ الرمز الحقيقي لقدرات العروسة وعائلتها وأصولها وصحة اختيارها, وهو ما لم تقع فيه ماري انطوانيت ـ المشار إليها ـ لعدم مرورها في مراحل الخبيز الأخرى السابقة على البسكويت, والتي أدت بها إلى المقصلة الفرنسية ـ أعوذ بالله ـ والتي يظل شاهدها المؤلم يحول بينك وبين متعة الركون إلى دفء فرن شتوي قد أدى مهمته في تقديم الخبز الساخن لك وللعيال الذين يتقافزون حولك ـ أقصد حول الخبز ولو لم يكن كعكاً أو بسكويتاً, أو لو انتهى أمرك ـ شخصياً أو عائلياً ـ إلى تلك الوجبات العصرية ـ والسريعة ـ التي لم تستطع أن تتخلى عن الخبز.. حتى الآن, وللأبد..!!

محمد مستجاب

Mohammed-Mostagab-Writer-Egypt-Arabic-03_Art