الحياة – للكاتب محمد مستجاب


الحياة

هناك – خارج قريتي – كان بيتنا الواسع محدود الحوائط, ذو النخلات السبع, يقف طيبا هادئاً وكأنه لا يخشى الزوابع, وأقدامه الموحلة استرخت على حافة المستنقعات السويسرية, وأذناه قد انفرجتا, واحدة تنصت لحركة الحياة المتوجسة في مزارع الأذرة والقصب والبرسيم, بما فيها من ثعالب ونموس (أنماس أفضل جمع للنّمس) وجرذان, وأذن أخرى تصغي إلى همس القرية الناعسة النائمة – التي يوقظها صوت خاشع في شجن السَّحر القديم يمهد لصلاة الفجر, حتى يعلو معلناً: حيّ على الصلاة, حي على الفلاح, بعدها تبدأ الحياة تدب في الناس والعصافير والكلاب والقطط والغربان, مازال هذا الصوت – مع كل تغيير الأماكن والعصور وآلات التنبيه: يوقظني حتى الآن.

وربما كان ذلك وراء عشق يخصني وحدي – أو هكذا أزعم لنفسي – لحيّ بن يقظان الذي عاش حياته منذ بكور الطفولة في جزيرة نائية, وحيداً متوحداً مع كل ما ينتبه إليه من حياة, شديد التوجس والانتباه كي لايصبح ضحية لكل ما يحاصر حياته, كان مؤلف هذا النص الحيوي ابن طفيل في القرن الخامس الهجري (الثاني عشر الميلادي) قد فتح أبواب انطلاق السليقة والفطرة والعقل كي تتحقق الحياة التي يميل بعض غلاة الأثرياء في العالم أن يمارسوها أحيانا لمدة محدودة يستمتعون فيها بما لا يحققه الترف والإنجاز العلمي, الحياة الحية التي تتيح للحواس أن تعمل في يقظة واسترخاء ممتزج بالسحب والنسيم والمطر – والعواصف أيضا, حتى لو لم يكن في بالهم حي بن يقظان وما أنجبه في فراش الفكر الإنساني من روبنسون كروزو للإنجليزي دانيل ديجو (القرن الثامن عشر) ثم تلك القفزات الرائعة المدهشة بين الحيوانات المفترسة فوق أشجار غابات السينما لمغامرات طرزان في العصر الحديث التي اقتحمت جماجم الجماهير في كل أنحاء العالم.

والحياة تظل – منذ نشوء الكون – هذا الفعل الساحر الغامض الذي ينبض بالنشاط في الأحياء من حيوانات ونباتات: تغذية ونموّاً وتناسلاً وتآمراً وذكاء وحقداً وآمالاً وطموحاً ولذة وطمعاً ورغبة وسطوة وخوفاً واختفاء وتواضعاً وتكبراً وازدهاراً وإزهاراً وإبداعاً وبؤساً وحزناً وظلماً وتشكيلاً (لرسومات أو جيوش أو بحثاً عن أنيس), والعقل البشري لم يستطع – حتى الآن – أن يصل إلى هذا السر الساحر المعجز في الحياة, حتى لو اخترق – هذا العقل – الحجب والسحب والخلايا والجينات والذرّة والسموم والانفجار وحركة الدم في العروق وأنسجة المخ والأشعار والطاقة والسرعة والوميض والفيروسات, ولا يزال – أخطر العلماء في أي عصر ابتداء من خروج آدم وحواء من الجنة واغتيال قابيل أخاه هابيل حتى تدمير الحياة في هيروشيما وما ترتب عن ذلك من كوارث تحيق بحياتنا ذات الإشعاع التلفزيوني, لا يزالون يقعون في مأزق تفسير هذا السحر الرقيق المتألق في عيون أنثى تنظر إلى واحد منهم باستحياء هادئ يضطرب بسببه المجهر والنظريات وقواعد إطلاق الصواريخ وأوراق النقد الحديث, حتى لو كانت أنثى أشرس الثعابين قد استولت لنفسها بجزء يسير لتصبح حيّة تسعى, (رمزاً للشر الحيّ الناعم الزاحف نحو الشقوق والظلمات), أو بعدة كتب انشغلت في فلسفة الحياة, أو ما هيمنت به الحياة المتفائلة على مجموعة من الصحف في أقطار متعددة لتحتل الاسم الثابت لها باللاتينية أو العربية – أقصد في أوربا وأمريكا (لايف) أو الحياة في لندن والقاهرة, أو ما نجحت فيه الكتب المدرسية بمقرراتها عن علم الأحياء, أو ما ينهمك فيه أخطر وأشهر علماء الوراثة – (دعك من الوراثة الناجمة عن الملكية والتوريث الشرعي الآن) – والذين على قمتهم أحمد مستجير – من محاولة دائبة للاعتقاد بأنهم كادوا يقتربون من أسرار الحياة في الخلية الحية, حتى أن هذا العالم بدأ حياته يحلل الشعر العربي ويقوم بوزنه في دقة يخترق بها البحور, فإذا به يستغرق في تحليل الخلية الحية: النبات والحيوان ويقوم بوزنها في دقة يخترق بها – كما يأمل – كل الغموض, وبين بحور الشعر وغموض الخلية يحيا أحمد مستجير في بساطة الخلية الغامضة ذات الكهوف المتعددة في الجبال الشامخة الشرسة, والشاقة أيضاً.

إلا أننا – بعيدا عن العلماء – نجحنا بصفتنا الإنسانية الحذرة المتفائلة الحية في أن نحقق ما لم ينتبه إليه أحد, فقد كانت القاهرة – العاصمة المصرية – تسبغ على المناطق السكانية القريبة أو المواجهة لمناطق دفن الأموات – أي القبور – صفة الحي, فكان حيّ الدراسة, وحي البساتين, وحي العباسية, أقدمها حيث تواجه مباشرة مناطق المقابر, لكن صفة الحي انتشرت بعد ذلك – وفي الخمسين عاماً الأخيرة – لتشمل روض الفرج وشبرا والزمالك وقصر النيل, ثم لم تلبث أن زحفت الأحياء صفة لتقسيم إداري في كل مناطق القاهرة والجيزة, وبدأت تظهر أيضا في مختلف المناطق المصرية خارج العاصمة.

ولا أجد مناصاً من الاعتراف بأنني أعتبر النبي محمداً – صلى الله عليه وسلم – أعظم من أحب الحياة بالمعنى الفاضل الحي العظيم, وهو الرسول الوحيد الذي قاد جيشاً, وجرّب الهزيمة والانتصار, إنها الحياة: الحركة والقدرة الفائقة في التفكير, الإمعان والصبر, الحب الجارف للخلق, الإحساس بالطبيعة والتضحية وتجنب الخطأ, والاعتراف به إن وقع فيه, حتى أن صفاته توزعت بين أصحابه ليواجهوا بها الحياة, وليجعلونا ندرك – في حيوية – معنى ألا نكون ضحيّة لأحد, وأن نحيا, كي تنفتح جوانحنا للمتعة الكبرى, حتى لو بدأت حياتك في كوخ تسوخ أقدامه في المستنقعات… السويسرية

كلمات لها معنى

تضطرب العيون حين تواجه الضوء الشديد, فظلّت الأحلام – في هدوء – تحب الليل, أقصد الظلام.
أصغر حفيداتي تنطق كلمة (بقرة) كاملة واضحة, ولا تزال تفشل في نطق كلمة (غزال).
السماء لا تمطر ذهباً, ولذا فإني أمعن فيها مرتاحاً, وأنت كذلك.
محمد مستجاب