أطواق الطاقة – للكاتب محمد مستجاب


أطواق الطاقة

ظلت الطاقة – تلك النافذة البدائية الصغيرة في بيتنا الريفي – تجذبني خلال ليل الصمت والحركة الناعمة للنسيم – لأنظر منها إلى الغيطان الممتدة على شواطئ البرك والمستنقعات وغابات قصب السكر والأذرة وقدرات أبي زيد الهلالي الشجاع الباسل, وهو ما لم تمنحه لي كل أنواع النوافذ ذات مصاريع الشبابيك والستائر في كل المدن بعد ذلك, حتى بعد أن داهمني أينشتين – هذا العالم الألماني الأمريكي – بنظريته التي ربطت الطاقة بمحصلة ضرب الكتلة في مربع سرعة الضوء لتتوالد القنبلة الذرية التي دمرت هيروشيما ونجازاكي, لتستسلم اليابان بعد ألمانيا إنهاء للحرب العالمية الثانية, وتركتني هذه الطاقة أحاول أن أفرغ محتوياتها الساخنة في الفؤاد داخل رسائل العشق والغرام: الأساس الإنساني في الإبداع الأدبي, مع أن هذه الطاقة – نافذة بدائية أو نظرية علمية – التفّت طوقًا مبكرًا حول وسط (مفيدة) راقصتنا الريفية التي هزت أجناب ذكرياتنا الصبيانية والرجولية بصفتها أجمل من امتلك اهتزازا أنثويًا في تاريخ قريتنا, ولذا فقد جاء ابن حزم – بعد دخولنا مراحل الإدراك الثقافي خلال الأحقاب التالية – ليختصر الأحلام والأمنيات والتجارب في طوق الحمامة دون استبعاد طوق مفيدة المشار إليه, وتحريك أي طوق لغويًا يؤدي إلى الطاقية الشهيرة بكل أنواعها في مختلف بلادنا العربية – والشرقية أيضا, تلك التي تصنع من الصوف أو القطن أو الكتان لتصبح غطاء للرأس, والتي – هذه الطاقية – تشير بشكلها وإشارات الزخرفة والألوان في خيوطها إلى انتماء صاحبها, وفي بلادنا المصرية – كمثال – نجد أن الطاقية النوبية تحمل تكوينات متداخلة في جمالية بالغة الروعة, وهو ما لا يتوافر في طواقي المناطق المتعددة في صعيدنا المصري, بل وتتحول إلى تكوين أبيض خالص وبسيط إشارة للبراءة والنقاء في من يميل إلى إعلان انتمائه الديني, كما أن الجماعات البشرية المتنقلة المتحركة دون ثبات في الصحارى والجبال المصرية والسودانية: مثل الغجر, والنّور, والحلب – مع أهمية فتح الحاء واللام – تستخدم كل منها طاقيتها ذات الإشارات اللونية الدقيقة الرقيقة, التي تصنع تناسقًا فطريًا بالغ السلاسة والتواصل الفني مع أبناء الوادي – الذين أنا منهم, وهو ما رأيته مختلفًا عندما تواصلت رحلاتي في طواقي العبابدة – وهي قبائل مستقرة في الصحراء الشرقية – ذات اللون الواحد والتكوين المشرع في فروسية من الأمام فوق الجبهة مباشرة, ولقد أدى بي ذلك أن اقترحت على أساتذة التراث الشعبي أن يدرسوه – مع باقي إشارات الملابس الأخرى على باقي الجسد, وخصوصًا أننا في معظم المناطق الشعبية المصرية بدأنا نتخلى عن الزي الشعبي الموروث تحت سطوة الملابس العصرية الوافدة – غازية لنا – من الغرب, حتى أن الطاقية بالذات بدأت تنزاح أو تتطاير أو تندثر من فوق رءوس الموظفين, ساحبة معها كل أنواع الملابس الأخرى.

وأخطر من استخدم مصدر الطاقة والطاقية والطوق هم جنود الأمن حينما يحاصرون – أقصد يطوقون – مناطق الخارجين على القانون, وجنود الجيش تطويقًا لمعسكرات الأعداء, والأساطيل ذات البوارج الضخمة غزوًا للموانئ والمواقع البحرية, وطاقية الإخفاء التي ارتداها أحد أبطال (ألف ليلة وليلة) لتخفيه عن عيون البشر فيحقق ببساطة – ودون خوف – أمنياته وآماله في الحصول على المال والغذاء والسلوك الحر الذي يشتعل بالرغبات التي جاءت – بعد ذلك – في أفلام سينمائية, أشهرها ما قام به بشارة واكيم – بعد عثوره على طاقية الإخفاء – ليصل إلى ما يريد – وعلى رأس ما يريد: الراقصة الشهيرة: تحية كاريوكا, لكنه يجد نفسه موضع الخيانة والغدر ممن يحيطون به, فيمزق الطاقية ويعود خاويا وخالصا إلى منزله, وقد أنتج هذا الفيلم المصري عام 1944, فحقق نجاحًا, فقام مخرج آخر بإعادة صياغة الحكاية في (عودة طاقية الإخفاء) بعدها بسنتين مستخدمًا بشارة واكيم مرة أخرى ومستخدما الممثلة أميرة أمير بديلة لتحية كاريوكا, ثم تناثرت طاقية الإخفاء في مشاهد سريعة إثارة للمرح بين الناس في مواقف مسرحية أو إيحاءات حوارية في مسلسلات التلفزيون وقصص الأطفال.

إلا أن أهم كائن حيوي استولى على التطويق كانت الحية, يقال: تطوقت الحية, أي التفّ جسدها الثعباني تمهيدًا لأن تأخذ موضع الهجوم الدقيق الشرس على الضحية, وشاءت بي ظروف العمل في الصحراء أن أسمع حكايات من جنود سلاح الحدود – وكلهم من أبناء النوبة – عن القدرات الفذة التي تستخدمها الطُّريشة حينما تلتف بسرعة مذهلة حول نفسها ثم تقفز من فوق الرمال اختراقًا لواحد من هدفين: الهدف الأول وجه الجندي الممتطي الجمل, والهدف الثاني – الأقل قيمة – وجه الجمل ذاته, في الحالة الأولى يضطرب الجندي قائد الجمل فيفقد السيطرة على الجمل وفي الثانية: يضطرب الجمل ويمكن للجندي أن يسيطر على الجمل, والطريشة نوع من الحيات بالغة الشراسة والمكر والخداع, وتعيش في الصحارى فقط دون مناطق الزراعة أو الغابات, وهذا ما جعل كثيرين يطلقون على الطريشة صفة (المطوِّقة) فقط, في حين أن يحيى الطاهر عبدالله استخدم الطوق – بمعنى الحصار – موازيا للأسورة – أي السوار الذهبي في روايته الشهيرة.

ومع ذلك فإن أنواع الحيوانات والحشرات والزواحف المطوقة نادرًا ما تظهر في النص الأدبي – العربي بالذات, في حين قامت نمور بتطويق بطل (ثلوج كليمنجارو) في خيمته لأرنست هيمنجواي, كما أن بحارًا قائدًا لسفينة صيد هاجمه حوت مما أدى به إلى فقدانه لإحدى ساقيه, فظل بقية عمره يسعى في المحيطات والبحار بحثًا عن (موبي ديك) أي هذا الحوت, حتى عثر عليه في جنوب المحيط الأطلنطي, وقام بتطويقه مع معاونيه حتى بدا الحوت وكأنه استسلم, ليقفز البحّار المنتقم على ظهر الحوت الذي يندفع به إلى آفاق – أو أعماق – البحار, إنها رائعة الروائي الأمريكي هيرمان ملفيل, ومن الغريب أن الذي قام بالدورين في هذين الفيلمين كان جريجوري بيك, وقد قرأنا وشاهدنا في روايات أخرى محاصرة النمل أو تطويق القرود أو مطاردة العفاريت أو هيمنة الخفافيش أو التفاف العناكب والعقارب على معسكرات جنود أو معتقلات أو سجون أو أسوار حدائق أو مساكن وكهوف مناطق سكنية, ربما لأن خيالي – وثقافتي – تم تطويقها أيضا – بأنواع عديدة من الكائنات الغريبة, التي حالت بيني وبين أن أجد طوقًا شرقيًا أو عربيًا أستخدمه في النجاة من هذه الأمواج الهادرة, حتى لو كانت فدوى طوقان من أشهر شاعرات العصر العربي الحديث.

كلمات لها معنى

الهم والغم والحزن تدفعك للخلف, أو للخوف, أو للاضطراب أو للأمام – حقدًا أو دفاعًا عن النفس, الفرح والسرور والارتياح يدفعك للإحساس بالمتعة والرضا: إلى الأمام فقط.
لماذا تكثر لحد الانتشار كتابة الذكور للمذكرات أكثر بمراحل عن الإناث?
عليك أن تلقي نظرة – بريئة – إلى مدارات الحظ التي ننشرها يوميًا – وكل صباح في الصحف والمجلات, ابتداء من السرطان والأسد والقوس والحوت وانتهاء بالعقرب والدلو والثور, لماذا لم تستطع الزهور والعصافير والفراشات أن تجد مدارًا واحدًا بين كل هذه المدارات.
محمد مستجاب