Home | فنون جميله | من كتاب الفن التشكيلى المصرى ـ بين التغريب والاغتراب

من كتاب الفن التشكيلى المصرى ـ بين التغريب والاغتراب

megahed-elazab-egypt-art-fenon-com_001بقلم: مجاهد العزب

أرى أزمة حقيقية في الحركة التشـكيلية المصرية على مختلف اتجاهاتها ، من إبداع ونقد وتلقي وبينها وسائط الاتصال .

أما عن الإبداع ـ وهو البوابة الأساس ـ فبرغم العديد من صالات العرض المتاحة الآن والكم الهائل من الأعمال الفنية المعروضـة ، فإن الغالب هو التكرار الممل والاستنساخ غير الواعي ، ناهيك عن التغريب والاستسهال والسـطحية والتأصـيل لها من قبل قاعات بعينها ـ معروفة للكل ـ إما بالترويج الواسع أو التمويل المشبوه ، ومحاولة الدفع تجاه هدف واضح ـ لكل ذي عين ـ وهو القطيعة الكاملة أو على الأقل تعميق المسافة بين المبدع وجذوره الشعبية بما فيها تاريخه الثقافي والمعرفي ، وهي بلا شك مصدره الحقيقي والباقي أبد الدهر.

والإبداع النقدي أيضا ووسـائطه من إعلام مطبوع أو مسموع أو مرئي ، فلا يحتاج الأمر مني إلى تعليق ، فالمتابع يعلم يقينا ضعف الوسائط كماً وكيفاً ، حتى أن المساحات التي كنا نراها من قبل ونطالب بزيادتها انتهكت هي الأخرى تحت وطأة الاحتياج للإعلان المدفوع عن السلع الاستهلاكية وخلافه .

أضف إلى ذلك ما يعانيه الإبداع النقدي من ضعف وندرة القائمين عليه من أهل الكتابة الجادة الواعية البعيدة عن الهوى ، الخالية من شبهة المجاملة والاسترزاق ، فللأسف الشديد ، مع هذا الكم الرهيب من الإبداع التشكيلي وكثرة صالات العرض ـ مع مالنا من ملاحظة سابقة ـ إلا أن الحركة النقدية الموازية ضعيفة جدا ـ في الغالب ـ وغير واضحة وقريبة من منطق الإعلام والدعاية أكثر منها للنقد .

لذلك كانت النتيجة اتساع المسافة بين المبدع والمتلقي وانقطاع التواصل بينهما .. وبرغم الضبابية الموجودة الآن فإننى شديد التفاؤل بظهور حركات جديدة وجماعات طموح تحمل رؤى منتمية للجذور والتاريخ ، وما علينا إلا أن نتيح لها الفرصـة كاملة في التعبير عن ذاتها وعدم تركها وحيدة ، مع الأمل في عودة الجماعات والمحترفات الفنية لسابق عهدها في الوجود ومزيد من المتنفسات لاستيعاب النقد المدروس والواعي بتاريخه وثقافته ومدركاته ، والكثير أيضا من النشرات والمؤلفات والتراجم للمساعدة في انتشار الثقافة التشكيلية لدى المساحات العريضة من المبدعين الشباب الدارسين وغير الدارسين .

الفن نتاج ثقافة وذاكرة جمعية خاصة لأمة بعينها ، ويختلف باختلاف تاريخها وخبراتها وعمق تجاربها المعرفية ودرجة الترابط القيمي بين عناصر تكوينها .

ونلاحظ أن الأمم ذات الأصـول الواحدة تنتج فنًا مختلفًا عن الأمم القائمة على التعدد الثقافي الاجتماعي ، والتباين في المعايير الأخلاقية والسلوك .. فالأمم صـاحبة الحضارات المنغلقة على نفسها تظل أصـولية الثقافة ، رجعية ، قليلة الإبداع .. كذلك الأمم المفككة الهزيلة ، لا تقدم إبداعًا جيدًا ، بل مشوهًا هلاميًا لا ينتمي إلى أى جذور معرفية .

وأن الفن الجيد يأتي من أمة متوازنة استطاعت تقليل الفارق بين عناصر تكوينها الاجتماعي أو على الأقل خلق قواعد متينة لاستيعاب الاختلاف .. ولا يأتي هذا التوازن في زمن قصير ، فالزمن عامل مهم في حياة الأمم ووضوح ثقافتها وبنيان حضارتها وعراقته .. والأمم صاحبة التاريخ هي أمم صاحبة حضارة في المقام الأول ، إذا ما أخذنا في الاعتبار العامل الزمني المكون لتلك الحضارة والتراكمية المعرفية لديها ، ولكن يجب ألا نغفل أشياءً مهمة ، منها عامل الحركة والمرونة القادرة على النمو داخل الحضارة ذاتها ومجهودات أصحابها في إيجاد بدائل سريعة وحديثة لمقومات البقاء وإلا أصبحت حضارة متحفية.

” إن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدا هو التماس لموات الوجود والتماس لخاصية التحجر والجمود .. الإنسان بطبيعته السوية لديه استعداد وقابلية هائلة للتنوع في حركة حياة دينامية ، وهذا هو ما أفضى إلى تباين أشكال الحياة وأشكال فهم الحياة وصور التعبير عن الحياة وسبل الأخذ بالحياة والتعامل معها .. تنوع النظر إلى الكون والوجود وعناصر الحياة .. ففي التنوع والتعدد والاختلاف حياة الإنسانية وارتقاؤها “ـ (4)

إنهم يقسمون التاريخ المصري إلى حقب منفصلة تتبع كل منها مصدرًا ثقافيًا مختلفًا وحضـارات متباعدة لا تنتمي إحداها للأخرى ، كأن يقال حضـارة فرعونية ، وحضارة قبطية ، وحضارة إسلامية .. الخ ، وهذا الزعم متعمد وعن قصد إلى درجة كبيرة .. والحقيقة أنها فترات تطور طبيعي لبقعة جغرافية واحدة تحققت فيها مقولة موريس جودلير:
” الكائنات البشرية على نقيض الحيوانات الاجتماعـية الأخرى ، لا تقنع فقط بمجرد الحياة في علاقات ، بل أنها تنتج العلاقات لكي تعيش وتبتكر على مدى وجودها ، سبلا جديدة للفعل والفكر ، لتفكر وتعمل سواء بالنسبة لبعضها البعض أو بالنسبة للطبيعة المحيطة بها ، ومن ثم فإن البشر ينتجون الثقافة ويخلقون التاريخ ” ـ (5)

مصر لم تتكون من شعب واحد أو عنصر ثقافي اجتماعي واحد ، بل من عدة عناصـر مختلفة الثقافـات متباينة المعارف والتوجهات ، والمعروف أن الكثير من التداخلات لشعوب أخرى سواء بالاحتلال نتيجة القوة أو بالهجرة الجماعية من أقاليم مجاورة طمعًا في مزيد الرزق ورغد العيش ، حيث كانت مصر أرض الوادي الخصيب لهذه البقعة الجغرافية من العالم .. كل هذا عبر سنوات طوال وأزمنة مختلفة مما ساعد على انصهار الجماعات الجديدة داخل المنظومة الكلية لما هو موجود من قبل ، أي استحداث عالم جديد من القديم والحديث معًا .. لذلك تختلف الحضارة المصرية عن الكثير من الحضارات القديمة والحديثة ، فهي حضارة مستمرة العطـاء والفاعلية ولم ينقطع تواصلها فيما يقرب من عشرة آلاف سنة أو يزيد .

يقول الدكتور / جمال حمدان في كتابه ( شخصية مصر ) :
” مر بمصـر عصران مطيران أو عصر له قمتان ، وأن هذا العصر المطير قد غلف الصحراء المصرية لنحو 120 ( مائة وعشرين ) ألف سنة .. كانت الصحراء مرصعة ببحيرات عديدة ، بعضها من مقياس عظيم يقارن ببحيرة فيكتوريا أو تشاد حاليًا ، ومن أهم هذه البحيرات التي أمكن تحديدها بحيرة طرفاوي التي يقدر أن مساحتها بلغت خمسين ألف كيلو متر .. على الجانب البشري ، فأن تلك الفترة من العصر المطير يقابلها حضاريًا العصر الحجري القديم بمراحله الأربع .. الأسفل ـ الأوسط ـ الأعلى ـ النهائي .. وقد وجدت الأدوات الحجرية منتشرة في جهات الصحراء الكبرى كلها مما يدل على أن الإنسان كان يغطي وجهها جميعًا ، حيث كان يتركز حول مناطق البحيرات الكبرى في قطاع الداخلة والخارجة وبير طرفاوي وبير مساحة وجبل العوينات ، كما وجدت آلات زراعية كذلك .. تدل تلك الأدوات على شدة قدم إنسان العصر الحجري القديم بمصر خاصة صحاريها الجنوبية منذ 200 ـ 180 ألف سنة ” ـ (6)

الثقافة المصرية لم تكن أبدًا ثقافة قبلية أو طائفية دينية أو أفكار اجتماعية مبنية على أيدلوجيا سياسية وتوجيهات فوقية كما هى الحال في العديد من دول العالم ، إنما هي ثقافة شعبية منتجة من تفاعلات الأفراد وعلاقاتهم بحيث لا تسـتطيع إيجاد أية فروق بين عناصـر التكوين الاجتماعي ، بل أن العادات والتقاليد الاجتماعية والقيم الأخلاقية والممارسات الحياتية اليومية وهي الواقع الفعلي للثقافة قد تكون واحدة رغم تنوع الأجناس والأديان والمعتقدات المذهبية ونجد الكثير من الأعياد والاحتفالات الدينية الخاصة بفئة معينة وقد احتفلت معها فئة أخرى ، كليالي رمضان والعيدين وأعياد الميلاد ، بالإضافة إلى الأعياد الموروثة من قديم ويحتفل بها الشعب المصري كعرف اجتماعي ، وفاء النيل وشم النسيم والسبوع وطهارة الأبناء وأربعين الموتى والموالد وزيارة الأضرحة والتوسل بها .. كلها أعياد مصرية خالصة دخلت النسيج الشعبي المصري وتحولت في الذاكرة الجمعية إلى مناسبات واجبة.

تعددت الثقافات وأشكال العلاقات بين مواطنيها باختلاف أجناسهم وطوائفهم ومعتقداتهم على مر العصور ، ومن المنطقي ـ ونتيجة لهذه الاختلافات ـ أن تظهر بعض صراعات داخلية وخلافات لكنها لا تصـل إلى حرب أهلية أو عرقية كما حدث بين أمم وأخرى ، ولم تتصاعد إلى درجة إهلاك الآخر وإبادته وإنكار وجوده أبدًا كما هى الحال في دول تدعي التحضر .. إلى جانب بعض التدخلات الأجنبية لزرع القلاقل وزعزعة استقرارها حين تستقر ولضرب النموذج الأمثل للتعايش السلمي والتواد بين الأجناس المختلفة دون النظر إلى دين أو لون أو لغة .. فكم من طريد إليها أمن على حياته وماله وولده ، أمثلة كثيرة من عرب ومماليك وأتراك ويونان وفرنساوية وإنجليز ويهود وأرمن .. ومع هذا التنوع والانفتاح على العالم وتبادل الثقافات بأشكالها المختلفة مدة من الزمن تعد بآلاف السنين ، أصبحت مصر ذات طابع ثقافي عالمي قادر على الإنتاج الدائم والتفاعل المستمر مع الجديد المطروح والمساهمة الجادة في تحديث العالم أجمع بما لها من تجارب وخبرات وتاريخ .. ولا توجد لدى الباحثين في التاريخ المصري أية مؤشرات تدل على أن انتقالا حادًا قد حدث بين فترة وأخرى ، أو انقلابًا وقع فجأة حول المصريين إلى بطالمة أو رومان أو أقباط ـ مثلا .. والعجيب أنه لم يحدث صراع بين فئة وأخرى من فئات الشعب على الإطلاق ، اللهم إلا على المستوى السياسي فقط ، حكام طغاة أو إقطاع مستغل وشعب يتطلع إلى حياة كريمة يختارها ولا يكره عليها ، شعب لا يعنيه من يكون حاكمه قدر عنايته بحريته الفكرية والعقائدية وحرية ممارساته اليومية .. حتى في عصر الاضطهاد الروماني للمسيحية ، كان صراع أيدلوجيا سياسية بين الشعب وطغاة ليسوا من جلدته يحكمون باسم الآلهة ـ أو هم آلهة ـ ووأد لدين جديد يدعو إلى السماحة والمساواة بين طبقات الشعب حكامًا ومحكومين .. كذلك الكثير من الحروب التي وقعت على أرضها لم يكن للشعب المصـري دخل بها ، بل ينأى بنفسه عن المشاركة فيها ، عدو يقاتل عدوا .