نحو مرفأ جديد للفن المصري المعاصر
بقلم محمد كمال
إتفق كثير من الباحثين على أن المكان والزمان صنوان، يتبادل كل منهما التأثير في الآخر، بينما يقوم الإثنان في وحدة متماسكة بتحديد ملامح وهويات الشعوب. وقد دفع هذا بعض العلماء للقول بأن التاريخ هو ظل الانسان على الأرض، في حين أن الجغرافيا هى ظل الأرض على الزمان.
لذا فليس من المدهش أن يرسخ في اليقين الجمعي أن جغرافيا مصر قد شكلت تاريخها في أزمنة متعاقبة على صعيدي الموقع والموضع في آن، حيث لعب النيل دوراً موضعياً في نحت معالم الأرض المصرية منذ الأزل، بداية من العصور الجيولوجية الأولى التي غيرت الملامس من الصخور الجرانيتية إلى الديوريت إلى الطبقات الجيرية، وحتى العهود الحديثة التي رسمت فيها خريطة مصر، إذ تتوسطها الدلتا والوادي كنخلة خصبة فياضة الطرح.
وهو ما كرس لبيئة زراعية تقوم على هندسة طبيعية من السدود والمصارف والترع، بما هيأ التركيبة البشرية لتشييد حضارة عظمى قوامها التأمل العقائدي والوهج العقلي، بعدما أصبح انبساط العيش محرضاً على استبصار الغيبي واستعذاب الشهادي .
أما على مستوى الموقع فقد حظيت مصر بمنحة إلهية جعلتها كماسة كونية تخطف الأبصار والأفئدة، وهى ما تغني بها الفذ جمال حمدان في درته شخصية مصر، حيث يقول:
” تكاد مصر أن تنتمي في كل مكان دون أن تكون هناك تماماً، فهى بالجغرافيا تقع في إفريقيا، ولكنها تمت أيضاً إلى آسيا بالتاريخ والجغرافيا معاً .. هى في الصحراء وليست منها، لأنها واحة ضد صحراوية .. فرعونية هى بالجد ولكنها عربية بالأب .. إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وهى تضع بذلك قدماً في الأرض وقدماً في الماء، وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموحة تحمل رأساً أكثر من ضخم، وهى بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول، ولكنها تواجه الثاني، وتكاد تراه عبر المتوسط، كما تمد يداً نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب، وهى توشك بعد هذا كله أن تكون مركزاً مشتركاً لثلاث دوائر مختلفة، بحيث صارت مجمعاً لعوالم شتى، فهى قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الإفريقي “
وأعتقد أنه عبر هذا الطرح البانورامي لشاعر الجغرافيا جمال حمدان، سنكتشف لماذا كانت مصر ولم تزل مطمعاً إستعمارياً لكل القوى الإمبريالية، فالسيطرة عليها إمتلاك لمفاتيح الشرق، وهو ما يتيح الفرصة لسيادة العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وفي هذا السياق لا أستطيع أن أصم أذني عن كلمات مفجر ثورة يوليو 1952م الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر، والتي تتناغم مع أفكار جمال حمدان، حيث يذكر في كتابه ( فلسفة الثورة ):
” إن القدر لا يهزل، وليست هناك أحداث من صنع الصدفة، ولا وجود يصنعه الهباء، ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء لا ندرك بها مكاننا على الخريطة ودورنا بحكم المكان .. أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها . . إمتزج تاريخها بتاريخنا، وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقة وفعلاً لا مجرد كلام ؟ .. أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة أفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضا أن يكون فيها اليوم صراع مروع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا سواء أردنا أو لم نرد ؟ .. فليس عبثاً أن بلدنا تقع في شمال شرق القارة السوداء التي يدور فيها اليوم أعنف صراع بين مستعمريها البيض وأهلها السود من أجل مواردها التي لا تحد.”
وليس أدل من هذا المفهوم على وعي هذا المصري المخلص الذي استأثر بقلوب الملايين لأنه أدرك القيمة الحقيقية لهذا الوطن؛ فجعله في أيدي المصريين بعد طول غياب . . فإذا تأملنا مفهومي الجمالين ( حمدان وعبدالناصر )، سنجد أن مصر بقدرها المحتوم تقع داخل دائرة سلوكية إجبارية في هذه المنطقة من العالم على المحاور الجغرافية والتاريخية والسياسية، بما يلقي عليها دوماً عبء القيادة والحماية كوطن يملك كثيراً من معطيات النبل والفروسية، وقد ثبت هذا عبر حقب متعاقبة إستطاعت مصر خلالها أن تغيث الملهوفين من صنّاع الأفكار وأصحاب الرسالات النبوية وضحايا التنكيل والقهر، مثلما احتضنت المريدين والعاشقين لحضارتها الإنسانية وأهلها الطيبين وعقيدتها الوسطية السمحة.
بيد أن هذا الدور التاريخي لم يكن فعالاً إلا في ظل حاكميه يقظة ووعي شمولي لزعماء من أمثال عبدالناصر الذي أيقن أن التصدي للقرصنة الغربية لن يفلح إلا بتماس مصر مع مجالاتها المحيطة بها عربياً وأسيوياً وأفريقياً عبر دوائر متعاشقة رسمت وجه الشرق .. فإذا كان مصدر القوة يأتي من ذلك الإلتحام الوجوبي الذي لا فكاك منه، فإنه بالضرورة يحمل في نسيجه أيضاً قواسماً روحية ومعرفية مشتركة، مثل العقيدة والإبداع، لذا فمن المدهش أن نتوجه ثقافياً صوب الغرب فقط، وهو الذي لم يكف يوماً عن التعامل معنا بلغة فوقية تحفها القرصنة، بينما ندير ظهورنا لحدودنا الشرقية والجنوبية كعمق استراتيجي يحتاج منا لإقامة الكثير من الجسور معه علي كل الأصعدة.
وطالما أننا في حضرة مجلة ” بورتريه ” كمطبوعة متخصصة في الفنون التشكيلية داخل الحركة الفنية المصرية، فإن هذا يستوجب وقفة مع المهرجانات والبيناليات الدولية التي تقيمها مصر على أرضها، وأيضاً التي تشارك فيها بدعوات من دول أخرى، وربما قصدت هنا الإسهاب في الطرح السالف لإيماني أن هويات الأوطان لا تتجزأ ولا يمكن الكشف عنها إلا عبر منظور كلي على بساط الوعي، لهذا أجد نفسي أمام مفارقات قد تلقي أمامنا عدداً من علامات الإستفهام إنطلاقا من استيعابنا لدور مصر المعرفي كما قدمنا له.
فلماذا نصر دائما على أن تكون كل بعثاتنا تقريباً إلى أوروبا وأمريكا، في محاولة للإيهام بأن الفروق الإبداعية بيننا وبينهم كمية وليست نوعية مثلما يتفق معظم فلاسفة ونقاد الفن ؟
وتبعا لهذا الإنبهار نستقبل بفرحة كل ما يقذفون به لنا من أعمال محدودة القيمة تصل أحيانا إلى نفايات تدعو إلى السخرية، والغريب أن قيادات الحركة التشكيلية تعلم جيداً أن بعض تلك الدول ترسل أعمالاً لفنانين من الدرجة الخامسة، مثلما يحدث في أغلب دورات بينالي القاهرة وبينالي الإسكندرية الذي أوشك على الانهيار !!
وفي هذا السياق لماذا لا نحول ولو بعض بعثاتنا صوب الشرق، خاصة وأننا نشترك معه في ثقافة عقائدية وروحية تشهد بها متاحفنا الفنية ؟
ولماذا لم تحتضن مصر حتى الآن بينالي عربي يجمع فنانينا من المحيط إلى الخليج، نناقش من خلال ندواته الموازية قضايانا الإبداعية والتاريخية المشتركة، خاصة وأن الأمة العربية حاليا تمر بأكثر أزمانها إنكساراً وإنبطاحاً ؟
أما النقطة الأهم التي أود لفت الإنتباه لها لأنها تبعث على مزيد من الدهشة، هو أننا نكاد نجهل الإبداعات الأفريقية، رغم أن هذه القارة السوداء الثرية كانت رافداً وملهماً سخياً لكثير من فناني أوروبا، مثل بيكاسو وبول كلي وماتيس وديلاكروا وغيرهم ممن صاروا نجو ماً داخل الحركة التشكيلية العالمية .
ورغم الفقر والتراجع الحضاري لهذه البقعة الحيوية من المعمورة، إلا أن أهلها يتمتعون بطيبة القلب وبياض النفوس وطزاجة الوجدان الذي يبث البهجة أينما حل، عبر وجوه بشوشة وضحكات مجلجلة، وربما تكون تلك التركيبة هي ما تجعل الأجساد السمراء البارقة تستتر بملابس صداحة الألوان تخطف الأبصار وتمارس طقوساً من السحر والفرحة وتقديس الحياة، بما يشي بثقافة خاصة مدعومة بركائز لغة المعتقد، وبما يجعل هذه الجغرافيا البشرية تتماس معنا رسمياً وشعبياً، حيث توحدنا معاً في خندق مشترك ضد الإستعمار وقتما كانت مصر هى المحرض الرئيسي على تحرير القاره كعمق إستراتيجي لها في فلسفة ثورة يوليو 1952م، إيماناً بأن النيل كمجرى حيوي يربطنا ببعض دولها.
بينما يجمعنا بأخرى حدود جغرافية تمس الأمن القومي المصري، في حين كان لدول منها أيضاً مساهمات في ردع العدو الإسرائيلي، مثل السنغال ونيجيريا وكوت ديفوار، عندما تمت مطاردة الحفار ثم نسفه على سواحلهم في الغرب الافريقي، والحقيقة التاريخية المؤكدة تشير إلى أن هذه الشعوب لم تطمع يوماً في أراضينا أو ثرواتنا، ولم تبادر ذات مرة بالإساءة لعقيدتنا مثلما يفعل الغرب الذي يحرص على القطيعة الثقافية بيننا وبينهم لتخلو له ساحتنا وساحتهم، فيمرح في الإثنتين كيفما يشاء
من أجل هذا كله، وفي إطار السباحة نحو مرفأ جديد للفن المصري المعاصر، فإن الحلم لم يفارقني برؤية فناني أفريقيا مجتمعين على أرض مصر في ” بينالي الأمم الإفريقية “، حيث لم شمل القارة معرفياً وإبداعياً في حضن القيادة الحقيقية لها من خلال العرض البصري بوسائطه المختلفة، إضافة إلى برنامج ثقافي مصاحب نتعرف فيه على علامات هذه الجوهرة السوداء من فلاسفة وأدباء وموسيقيين ومسرحيين وتشكيليين ونقاد، على أن ينتقل المهرجان إلى أكثر من إقليم مصري، مثل الإسكندرية وبورسعيد وأسوان وغيرها من البقاع التي تشتاق إلى معرفة روافدها الأصلية ومناقشة قضاياها المصيرية.
وفي الواقع إنني لا أشك في أن الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية لن يأل جهداً في دراسة هذا المشروع ثم الدفع به إلى حيز التنفيذ، سيما وأن الظرف العالمي الراهن يموج بالعديد من التكتلات والتحالفات الإقليمية القائمة على المصالح المشتركة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فلا ريب أننا بحاجة ملحة الآن لفتح قنوات معرفية وفنية مغايرة لما اعتدنا استيراده من أمريكا وشمال المتوسط .
وقتها ستنتعش الحركة التشكيلية والثقافية المصرية بمثير نوعي مختلف عبر منجز دافئ بصرياً ووجدانياً من مبدعي الكاميرون وتوجو وزامبيا وأنجولا وتنزانيا وغانا والكونغو وكينيا وزيمبابوي والنيجر وغينيا، إضافة إلى دول عربية أفريقية مثل تونس والجزائر والمغرب والسودان والصومال وليبيا، تلك الشعوب الثورية صاحبة الحمأة والكبرياء الذي لا يتأثر بشظف العيش.
وأعتقد ان مصر أولى بهؤلاء بعدما ساهمت تاريخياً في تحريرهم من قبضة الإستعمار .. آنئذ سنجد أنفسنا في حضرة ألق روحي وتوافق عقلي يدحض فكرة استعباد القارة الأفريقية التي تحتل مصر فيها موقع القلب من جسد يخترقه النيل ليمده عبر شرايينه بنبض الحياة والخلود .
محمد كمال
هذا المقال نشر فى مجلة بورتريه منذ أكثر من أربع سنوات
تعليق محمد كمال على المقال:
هذا المقال نشرته فى مجلة بورتريه منذ أكثر من أربع سنوات ، مخاطباً مسئولى الحركة التشكيلية المصرية لإقامة بينالى الأمم الأفريقية ، إيماناً بدور مصر فى أفريقيا على كل الأصعدة السياسية والإقتصادية والثقافية والإبداعية ، ولم أجد إجابة بالطبع ، واليوم أعيد نشره ، مصحوباً ب 36 صورة لأعمال فنية أفريقية + صورة مقال للكاتب الصحفى الكبير أسامة عفيفى بجريدة الأسبوع ، نشره فى أغسطس من العام الماضى ، تأييداً للفكرة ، بعد الندوة التى شاركت فيها مع الفنان رضا عبد السلام عن الفن النيجيرى فى يوليو عام 2010م ، بناءاً على رغبة النيجيريين أنفسهم ، وفيها طرحت الفكرة مرة أخرى .. هنا أيضاً صورة لتحقيق صحفى بجريدة الموقف العربى التى يرأس قسمها الثقافى الأستاذ أسامة عفيفى أيضاً ، وفى هذا التحقيق الذى نشر فى أغسطس 2010م ، تمت مساندة الفكرة وتأكيدها ، ولم نجد مجيباً يعمل على التنفيذ .. هنا كذلك صورة مقالى المشار إليه ، والمنشور بمجلة بورتريه فى عددها الحادى عشر الصادر فى فبراير 2007 م .. وأنا هنا عندما أعيد نشر هذا المقال ، إنما أخاطب د. عماد أبو غازى لإدخال الفكرة حيز التنفيذ من أجل مصلحة مصر ، بعد أن أغلقت القيادة الثقافية السابقة أذنيها عن كل ما يسد حتى رمق الوطن ، وتفرغت لمصالحها الضيقة وتغريب الثقافة المصرية ، بما أدى إلى تراجع دور مصر الثقافى فى أفريقيا والمنطقة العربية ، بل وفى الشرق كله ، والذى كانت مصر قبلة له ، ومنارة تهديه كبوصلة نحو التقدم الحضارى