بقلم: محمد مستجاب
بالفرشاة: قوس مرن من أعلى، تلاقى مع الخط المندفع من أسفل حتى كـادا يصنعان مقـدمة سمكة، لكنه تفادى أن يرسم لها زعانف، نظر مليا إلى الخطوط وحاذر أن يقع من فوق السلم، ونظر إلى العالم الأسفل سريعا ومسح أنفه في كم القميص، ثم عاد ونظر إلى أعلى فوجد النخيل والشجر يتمايل فأمسك بالسلم، تشبث به وكادت السمكة تغيب في
الحائط، قال لنفسه: ولكني لا أرسم سمكة، إنما أنـا أرسم طائرة، وابتسم، ولكي يجسم الأمر صنع للـرسم جناحين طويلين، ثم نوافذ ظهر في إحداها رأس سائق الطيارة محشورا في قلنسوة هي أقرب لعمامة حراس مخازن القطارات، ولكي يطمئن على اتساق الرسم نزل من فوق السلم ثم حركه بما عليه من جرادل الألوان والأصباغ، والفرشاة منكفئة في جردل منها، وعندما ارتاح لمشهد الطائرة أعاد السلم إلى موقعه قريبا من الرسم وتسلقه حتى وصل إلى المطار، قالت بنت وقد استندت بظهرها إلى الحائط المواجه: الله ينور عليك يا عم يوسف، نظر إليها بنصف التواء رقبة ولم يرد، وبدأ يكمل ذيل الطائرة، اللون الأزرق هو الأنسب، هل رأيت طائرة مقدمتها حمراء ونهايتها زرقاء، فأعاد الفرشاة إلى الجردل الآخر، وعندما ارتاح لتكوين الذيل وسلامة اتزانه مع جناحين صغيرين مناسبين- بدأ يرسم بدن الطائرة بحروف لاتينية لإثبات هويتها العربية، هلال ونجـوم، ثم كتب رقمين واحدا بالعربي والثاني بالإفرنجي إشارة لتأكيد عالميتها، انتبه إلى أن كوب الشاي- هناك على الأرض- لايزال فارغا، أشار للبنت نحو الكوب، رفعت يدها عن عيونها ونظرت إلى الكوب دون أن تتحرك، قالت البنت: ارسم سبع يا عم يوسف.
“سبع “؟ كتم غيظه وبدأ يحدد موقع الباخرة، يجب أن تكون بعيدة عن المطار حتى لا تتأثر الطائرة، ورأى أن يصعـد درجـة كي يكتب في الأعلى النص الأثير، مـر رجـلان ونظرا إلى الرسومات وأسبغا على عم يوسف التحية المشجعة: فتح الله عليك يا أستاذ، وقبل أن يغادرا المكان تلقيا منه أمنيته أن يزخرف أبواب بيوتهم، وقال في صوت خفيض: وهل يمكن زخرفة واجهات بيوت اللصوص برسومات الحج؟، وعبرت الشارع امرأة تقود قطيعا من الماعز الذي كـاد يزلزل السلم احتكاكا، صرخت المرأة في حيواناتها دون أن تنتبه إلى ما فيه عم يوسف، خرج أناس من البيت ودخلوا وأبدوا إعجابهم فشكرهـم، )حج بيت الله الحرام وزار قـبر النبي عليه الصلاة والسلام الحاج مسعـود شحـاته وزوجتـه الحاجة..( وتوقف هنيهة ونظر إلى البنت سائلا: ما اسم الحاجة يا بنت؟ كانت البنت قد عادت إلى الإمعان فيه متقية بكف يدها النور المنسكب في عيونها، قالت البنت في هدوء جاد، ارسم لنا السبع يا عم يوسف.
“سبع”؟ بعـد الطـائرة والمربع الحاوي إعـلان حج صاحـب الدار، لا بد أن يـرسم على الحائط بـواخـر وسيارات وجمالا، كل وسائل المواصـلات التاريخية التي استعملها الأهل منذ عرفت فرشاته واجهات بيوتهم في الوصول إلى المكان المقدس، “سبع”؟، قرر ألا يهتم بها ولا يرد عليها، وحينما هم بتحريك الفرشاة كي تحدد أبعاد الباخرة الأثيرة ذات المدخنة التي تزفر دخانها الأسود المتعالي حتى مشارف مربع الكتابة، قالت البنت: شاي تقيل؟ وتحركت نحو الكوب لتلتقطه من الأرض وتلقي ببقاياه على التراب، ورفعت الكوب إليه بطول ذراعها ليدلي لها بمواصفات الشاي المطلوب: ثقيل، وغابت البنت تاركة عم يوسف مشغولا بصناعة مقدمة الباخرة الذي يجب أن يكـون سميكـا تعلوه إشارة (الهلب) وعلى السطح سـاريـة بها علم رفـراف، وفي أحيان كثيرة- حينما تكـون مساحة الواجهة تسمح – يضيف للباخرة قاربا، وللطائرة سلما للنزول، وللجمل رجلا يسعى أمامه، وللسماء طيورا ميمونة، وكانت يد البنت قـد ارتفعت بكوب الشـاي الثقيل، فنـزل عم يوسف درجتين وتناولها باليد المدربة الفارغة المضمخة بلزوجة الألوان، وما كاد يعود أدراجه ويستقر في مرفأ السفينة حتى جاء صوت البنت متوسلا: ارسم لنا السبع يا عم يوسف.
“سبع “؟ كانت عيونها تتابعه وقد عادت محتمية تحت كفها ومستندة إلى الحائط المواجه، وحينئذ اضطربت يده بكـوب الشاي، فأحس بأصوات صفيحيـة تخبط في دماغه، سند كوب الشاي في زواية التقاء درجة السلم الملامسة للحائط فاتضح له أن يده لاتزال مضطربة، ظهر ذلك جليا في إمساكـه المهتز بالفرشاة، حتى أن صدر الباخرة الضخم أصبح هزيلا يقارب صـدر بطة غمغم عم يوسف دون أن ينظر إلى البنت، مطت البنت صوتها معترضة على تجاهل طلبهـا، نادتها أمها من الداخل فلم تهتم، ألقى التحية واحد أو اثنان عابران فلم يهتم، صمم أن يحذر البنت، أن يمنعهـا من تعطيلـه عن أداء مهـام رسومه، لكن البنت رفعت كفها عن عيونها وظلت ممعنة فيه، قالت في وضوح غارق في الخيبـة: أنت لا تعرف ترسم السبع يا عم يوسف، وكررت في صوت أكثر انخفاضا: لا تعرف يا عم يوسف.
كاد السلم المهتز يسقط، ومارت غمغمته الغاضبة في الجو، اسكتي يا بنت، نظر إليها فترة محذرا، كـانت نقاط لونية غليظة قد تناثرت على الحائط مهددة المساحة كلها بالفوضى، عاد فقال: يا بنـت اسكتي، ثم أصدر أمره إليها أن تبتعد عن هذا المكان ثـم قال معاتبا: إيه عم يوسف إيه عم يـوسف، اذهبي والعبي وسيبي عمك يوسف، روحي ياعروسة، كان بتخفيض صوته يتذلل إليها، يا عم يوسف يا عم زفت، هو أنا أكبر منك يا بنت مسعـود، وضحك لكي يخفف من وقع كلامه عليها، وضحكت البنت فور انقشاع الزعل، غطت عيونها- من جديد- بكفها وقالت في هدوء حاسم: طيب ارسم لنا السبع يا يوسف.
السبع يا يوسف، كان وجهها قد تورد انفعالا، ثم عاد إلى استوائه، وكانت ملامح الباخرة لاتزال تصارع هزال البطة، لماذا يقولون يا عم يوسف، بسيطة يا عم يوسف، أحيـانا يبـدأ بعض الناس حياتهم أعماما كبار السن، وأخـذت الفرشـاة تسبح في الهواء يمينا ويسارا دون استقرار، تحاول أن تتلمس الموقع المنـاسب لتحط، وضع يوسف الفرشاة في الجردل وظل صامتا، انشغل قليلا في ارتشاف كوب الشاي، ثم مسـح يده في أطراف قميصه، وأخرج منـديلا فـاقد اللون ومسح عرقا في رقبته، وفي وجهه لكن العرق ظل يعود فيتبلر على جبهتـه، لم يرسم يوسف في حياته سبعـا، لم يجرب ذلك أبدا، سيوف ومدافع وزهور ونخيل وأبـو زيد الهلالي وصواريخ والناعسة ودياب بن غانـم وأسماك وبواخر ودبابات ورايات وبنادق وتواريخ، والحجـاج فقط هم الـذين يطلبون نقش واجهات بيوتهم، أما باقي المناسبات من زواج ورجوع غائبين وختان وشفاء وخروج من السجن فـلا نقوش، لكن البنت- خلال صمتـه الـذي طال- ضحكت، ضحكت في صوت صبياني مشوب باستهانة أنثى، وعادت تركز عيونه عليها دون أن تطرف ودون أن تحمي عيونها بكفها كأنها مهيأة لإعادة التصميم على الطلب، لكنها عادت تضحك- مع أنـه توقع أن تقول له ارسم لنا السبع يا يوسف، فاخترقت الضحكة ظهره ليظل فترة متشبثا بالسلم، ومال برأسه في بطء ونظر إليها، نظر بالتحديد في عيونها، واستمرت البنت، صامتة وممعنة. وبدأت الفرشاة تخترق جدران الباخرة وتصهر هيكلها السميك وتذيبه لينساب شعرا ملبدا، يتحـاور هذا الشعر الملبد ليصنع دائرة ذات استطالة لتكون رأس أسد، ثم أنف برز في الجزء المستطيل له شوارب كالشوك فوق شفتين بينهما نابان واضحان، وعادت الفرشاة فشقت الشفة العليا دون اهتمام بالمشاكلـة مع الشوارب الحادة، وظهرت عيون الأسد متربصة فوقها حواجب كالحراب وظلت هذه العيون- بالرغم من اتساعها- تحتاج إلى ظل غامض واحتاج الرسم إلى جزء من المطار بعد أن أذاب كل المرفأ بما فيـه من بواخر، واهتز رأس السبع فقامت الفرشاة بترسيخه على راحة بدن الطائرة، بدن حرك بسببه يوسف السلم لكي يحتويه بكـل حركة فرشاته، وتمدد جسد السبع في الميناءين البحري والجوي وظل خانعا أسفل مربع الكتابة، ثم ارتفع الذيل بخصلة شرسة جميلة من الشعر في نهايته ليلطم كل جسد الطائرة، حتى أن جزءا من الطائرة قد انشق بعيدا عن مؤخرتها، وظلت الفرشاة تنهش في مسطح الحائط لتظهر قـوائم السبع الظافرة، ثم عادت لتخلع النابين الـواضحين ليصبحـا أنيـابا عـديـدة لسبع يـزمجر في عمق الجـير والمصيص، ويهيمن على الحائط والأجناب وفتحة الباب. كـانت البنت ممعنة في السبع حينما مال رأس يـوسف ليتجـه إليها، فتلاقت عيونهما، وبعـد صمت – طال أو قصر – همست البنت: كفاية يا يوسف.
وجلس يوسف على قمة السلم مرهقا.
محمد مستجاب
مجلة العربي: alarabimag.com/arabi/data/1993/6/1/Art_19386.XML