لوحات تمجيد الجمال
للفنان / سيد سعد الدين
بقلم / محمد فؤاد الشاذلي
في قاعة “بيكاسو” بحي الزمالك الراقي يعرض لنا الفنان / سيد سعد الدين أحمد 1944م أعماله الفنية لنتاج عمل يزيد عن الثلاثون عاماً.. يأخذنا في رحلة عبر محطات فنية ووقفات زمنية .. كل محطة تحكي لنا تجربه ذاتية شديدة الخصوصية بملامح مصرية تنطلق بنا إلى آفاق رحبة لتصل إلى
العالمية. تفرز تجارب الفنان عن عمق شديد وحساسية مرهفه في البحث عن جوانب جمالية لمفردات وشخوص وعناصر وأسس للعمل الفني .. تتآلف .. وتتكامل .. وتتمم لحن وإيقاع معزوفة بصرية متفردة .. مصريه خالصة .. وهي رسالة للمجتمع المصري للنهوض بقيم حضارية لتمجيد الجمال وإبرازه والبحث عنه .. وهو القيمة الإيجابية الباقية عبر الأزمنة المختلفة لمصر . ونحن هنا ليس بمكان لنقد الأعمال الفنية ولكننا نلقي الضوء على حدث لا يمر دونما الوقوف عنده وتأمله والاستفادة منه .. فهذه الأعمال الفنية تكاد تكون مدرسه تفيد الدارسين والفنانين من بعد فإذا كان لنا القول عن الفنان سيد سعد الدين وهو واحد من كبار الفنانين من جيل السبعينات والذين وضعوا الفن التشكيلي المصري في نصابه الصحيح فهو سليل الفراعنة أبن قنا والذي جاءت الراية إلى يديه بعد سلسله من فنانينا الكبار من وقت الفنان محمود مختار وراغب عياد ومحمود ناجي ومحمود سعيد وحسين بيكار… والخيط الذي يربط بين هؤلاء الفنانين هي الرؤية الجمالية المصرية ليكون هناك مدرسة للفن التشكيلي المصري شديدة الخصوصية والتميز ونلحظ في أعمال الفنان بأنها مزيج من التصوير والموسيقى والنحت والأعمال المعروضة تحتاج إلى صفحات كثيرة لتحليلها والتحدث عنها وقراءتها فكل عمل هو قصة فنية كبيرة حيث يتميز الفنان بأنه لا يكرر أعماله الفنية أو تجربته بالشكل الرتيب والذي نراه عند بعض الفنانين والذي قد تدور أعماله الفنية في فلك عمل فني وتجربه واحده لمدى الحياة.. ولكن هنا نلحظ روح الفنان وأسلوبه يسيطر على كل عمل مع التنوع في الأطروحات من مواضيع واتجاهات وحركة وإيقاع والتقاط اللحظة والمكان وحركة العين والتناغم بين التراجيديا مرة والدراما مرة أخرى في صمت صوفي، وما صنعه الفنان من نظام دقيق لكافة التفاصيل وإخراجها بشكل منمق مما يجعل المتلقي متفاعلاً باحترام شديد مع هذه التحفه الثمينة التي أمامه. تعكس اللوحات مضمون ومكونات التجربة عند الفنان وهي مرآه لثقافته وأن للجمال قيمة يمجدها بتقديمه لهذه الأعمال وكذلك تعكس مهاراته وقدرته التصويرية والفنية في عمل نسيج بين الخيال والواقع في قضايا وطنية وقضايا إنسانية للإنسان المصري البسيط من عمال وفلاحين وطفل وامرأة ويغلف كل ذلك بعناصر بيئية تحيط الإنسان بدفيء وبصمت صوفي حالم لتعبر عن قيمة إنسانية مطلقة تدفعك للتعاطف والتفاعل معها بحب كبير.
نلمس في لوحات سيد سعد الدين تكامل أدواته الفنية فهو يقدم لنا التصوير في قالب نحتي خلاب وهو يختصر التفاصيل ليعطي لنا إيحاءات موجزه تجريدية كذلك يضع لنا شخوصه على مسرح الواقع باحناءات خفية ومتعددة المصدر ويخرج بنا إلى أعمال تحلق في فضاء واسع بسريالية تمزج بين الحلم والواقع في توافق هارموني وموسيقى عذب وإن أهم ما يميز هذه المجموعة من الأعمال الفنية بأنها “موسوعية” متعددة الجوانب وتخاطب مراكز التذوق والجمال لدى المتلقي وهو لا يعتمد على الصدفة أو الحيل التكتيكية في عمله ولكن لديه حسابات ومقاييس دقيقة تعكس علماً واسعاً ومعرفة ودراية بما كان يبحث عنه أسلافنا عن مقاييس ومعايير للجمال فهو بأسلوبه الخاص والمميز يؤكد الجانب “الدرامي” ويشيع جواً من “الصوفية” جامعاً لخصائص العمارة والنحت والرسم والتصوير في وقت واحد وهو يعتمد على البنائية في تكامل العمل الفني بدون إسراف في الألوان ويعتمد على موسيقى خفيه تعزز من الصمت الصوفي لعناصره وأشكاله.
ولوحات سيد سعد الدين كثيرة وإن كان قد أطلق عليها أسماء فنلحظ أن المتلقي أيضاً شاركه في وضع أسماء من عنده متعاطفاً مع عالمه الجمالي فنرى في معرضه “لوحة الشهيد” لمسة وفاء – “لعبه الطوق” – “لعبه الطائرات الورقية” – لوحة المولد “مواكب الصوفية” – المقهى “الخبر” السباق – تحت المظلة – انتظار – الوصية – عربات اليد – قرية القرنه – الواحات – سيوه – عازفة العود – رحله مع نغم – نزهه – مجموعة لوحات (حواديت مصرية) – الماعز – الحصاد … الخ وغيرها كثير من الأعمال التي تمتع المتلقي واستثمار لا ينضب للمقتني ودروس وركائز لأجيال قادمة … في رحلة عمل فني تزيد على الثلاثين عاماً … ترقي للعالمية وبمستوى الأعمال المتحفية الباقية عبر الزمن… والتاريخ.
نبذة عن الفنان:
ولد الفنان/ سيد سعد الدين بمدينة قنا عام 1944 جنوب مصر لأخوة ثمانية ظهرت مواهبه وميوله تجاه الرسم والتشكيل منذ بداياته وهو طفل في المدارس الابتدائية وعمره ثمان سنوات وإعجاب أساتذته بموهبته أتاح له الفرصة لممارسة الفن والتفوق حتى حصل على جائزة فى عيد العلم والفن الثانى عام 1959 والذى كان يحضره الرئيس جمال عبد الناصر كما حصل على المركز الأول على جمهورية مصر العربية فى مادة التربية الفنية والدرجة النهائية بالشهادة الإعدادية والفنان من أسرة متوسطة ولم يكن سهلاً عليه ليحقق رغباته في تعلم الفن بالجامعات المصرية المتخصصة وكانت أهداف الأسرة هى التى توجهه في التعليم لتحقيق مكاسب أخرى ليكون مهندساً إلا أن الفنان تمرد على هذا وترك دراسة الهندسة ويبحث عن دراسة الفن فلم يكن أمامه سوى المعهد الإيطالى ليونارود دافنشى ولضعف الإمكانات المادية التحق بالمعهد في الدراسة المسائية واضطر للعمل فى سن صغير بإحدى الصحف كرسام ليحقق دخلاً قليلاً يعينه على دفع مصروفات الدراسة.. إلى أن تفهم أساتذته بالمعهد ما هو فيه لأنه كان ملفتاً للنظر وهو أصغر الدراسيين فى القسم المسائى وعمل أستاذه/ سيد عبد الرسول والفنان الإيطالى/ تريفي زونوا وهما اللذان ساعداه على الانتقال إلى الدراسة الصباحية المنتظمة مع إعفائه من مصروفات الدراسة التى كانت تعتبر مرتفعة جداً وقتئذ وأسهم كذلك محافظ قنا/ عبد الله غبارة حينما قرأ مقالاً يشيد بموهبة طالب الفن/ سيد سعد الدين فقرر أن تكون له منحة شهرية وان تكون دراسته على نفقة المحافظة كل هذه الأجواء والترحاب في محيط دراسته أعطته دافعاً قوياً للتفوق وليزيل ما أصاب أهله من احباطات وسوء فهم لتركه دراسته في الهندسة تفوق الفنان عاماً تلو العام حتى تخرج وعين معيداً بالمعهد عام 67-1976م وكانت له هذه الفترة انفراج وانفتاح على الثقافات الغربية والشرقية حتى التحق بالقوات المسلحة من 1968-1973م لقضاء الخدمة العسكرية والتى لم يستطع خلالها أن يمارس الفن إلا قليل حتى أقامت جمعية حبى الفنون الجميلة مسابقة لإحياء ذكرى رحيل جمال عبد الناصر 1972م فشارك بلوحة “زيارة إلى راحل” والتى تم اقتنائها بالمعرض ثم شارك بلوحة “أنشودة إلى راحلين” فى صالون القاهرة 73 وفى هذين العملين ولدت شهادة ميلاد فنان بما كتبه عنه نقاد الفن وقتئذ منهم الفنان/ حسين بيكار ووزير الثقافة/ بدر الدين أبو غازى والأديب الوزير/ يوسف السباعى وشارك الفنان بعد ذلك فى معرض الطلائع ليحصل على المركز الأول بامتياز وفيه ألقى الضوء على أسلوبه ومنهجه وارسى قواعد رؤيته التشكيلية المتفردة.
النحت عند الفنان:
لم ينفصل النحت كمجال تشكيلى عن الرسم والتصوير عند الفنان ولكن عمل الفنان منذ بداياته على التصوير بأسلوب النحات المتمكن من أدواته يجسد رموزه وشخوصه وعناصره ويستخرجهما إل حيز الفراغ فى أبسط الخطوط وأقواها فى قالب تجريدى دونما المبالغة في الحجم أو التدوير أو التفاصيل. وهذا ما أعطانا الأمل في النحت المصرى المعاصر والذى يتقدم ببطئ منذ وفاة الفنان/ محمود مختار. ولقد دفعت إبداعات النحت لدى الفنان إلى الدخول إلى المشروعات الكبيرة والتى تجسيد رؤيته فقد شارك في إبداع وتنفيذ جدارية جامعة سيناء بالنحت البارز بطول يصل إلى ثلاثون متراً كذلك نفذ جداريات من التصوير بالفسيفساء والأزمالتو فى أهم المواقع السياحية بشرم الشيخ وكذلك فى مطار العريش ومن أجمل ما قدمه إقامة تمثالى حورس آلهة الحب على جانبى كوبرى الأقصر وخلفهم المسلة المضيئة من الجرانيت الخالص وإذا كانت الأصل في هذه التماثل هى أنها صورة للتماثيل الفرعونية إلا أن الفنان قد أضاف إليهم روحه وشخصيته وأسلوبه في المعالجة والفورم حتى جاءت النتيجة تحفه فنية باقية على مر الزمان. كذلك جاءت مشاركات الفنان في النحت خارج مصر بنماذج تعتبر نموذجاً مشرفاً للنحت المصرى والتى كان آخرها معرض الأسبوع الثقافى المصرى بالمركز الثقافى بأبوظبى عام 2006 إن كثيراً من منحوتات الفنان القطع الصغيرة نلحظ إنما هى مشروعات صغيرة ابتدائية لتماثيل عملاقة لم تخرج بعد إلى حيز الوجود وهى ما نشعر بأنها تصلح لأن توضع كعلامة بارزة وكعمل فنى خالد تمس شغاف القلوب لرجل الشارع العادي والمثقف على السواء توضع في الميادين والحدائق وعلى الشواطئ وفى المبانى ذات الأهمية والخصوصية وكما أطلق الفنان أسماء على لوحاته فهو أيضاً أطلقها على أعماله النحتية فنرى تمثال الوصية – والكناس – وانتظار – وكبوة – الحصاد – الموكب – الخ. وقدم الفنان تجربته النحتية بقاعة الدبلوماسيين عام 2005م ولم تكن التجربة جديدة على النقاد فقد كتبت عام 1977م فى مدينة بولونيا بإيطاليا كتبت الناقدة “إيرمينيا روبينى” عن معرض للفنان سيد سعد الدين “ولد الفنان سيد سعد الدين نحاتاً ولكنه يمارس فن التصوير” وكتب محمود بقشيش فى مقال له بمجلة إبداع بعنوان التصوير “النحتي في أعمال سيد سعد الدين” كذلك كتب الفنان والناقد حسين بيكار “أن الفنان يجمع في أعماله خصائص النحت والتصوير والعمارة” وبالفعل ظهرت إبداعات الفنان باستخدام وسائط مختلفة في تحقيق منحوتات بالبرونز والجرانيت والأخشاب.
ونشهد تفوق الفنان على أقرانه من الفنانين في مسابقة لعمل تمثال يعبر عن حفر قناة السويس بديلاً لتمثال ديليسبس وليوضع على شاطئ القناة وشارك هو وزميله المهندس المعمارى محمد فؤاد الشاذلى فى تصميم المشروع بمخططاته السياحية ومكوناتة المعمارية للمنطقة ليفوز المشروع بالمركز الأول ولكنه لم ينفذ وتعثر لمشكلات إدارية.. لذا نلمس أن الفنان سيد سعد الدين يتمتع برؤية لتطوير فن النحت وهو امتداد للنحت المصرى العريق مصحوباً بتفاعله بالمكان والزمان فهو مهندس بداخله ونحات يستخلص عصارة التاريخ وحضارته مودعاً لمنحوتاته عالماً خاصاً ذو قيمة وأصالة ومذاق معمارى رصين والذى بنى به أجدادناً الأهرامات والمعابر والمسلات والتماثيل.
ملامح ومصادر الرؤية عند الفنان:
بالرغم من مرور الفنان خلال دراسته وما بعدها كأستاذ بمعهد ليوناردو دافنشى الإيطالى وقربه واحتكاكه بفنون الغرب وتتلمذه على أيدى كبار الأساتذة أمثال “سيد عبد الرسول” و”توليو كرالى” والفنانة “روبينى” الإيطالية والفنان/ “راغب عياد” وزوجته الإيطالية “إيمكالى عياد” بالرغم من كل هذه الأجواء والثقافات الغربية إلا أنه عمل بتوصيات أساتذته ولم يتخذ مدرسة من المدارس الفنية كأسلوب أو اتجاه وإنما هو استطاع أن يهضم كل المدارس والاتجاهات ولديه مخزون بصرى خاص به منذ طفولته يلح عليه ويطل من رأسه من حين لآخر وهو يتهادى بين سحر الشرق وبريق الغرب. عمل الفنان ووضع آراء أساتذته نصب عينيه في البحث عن التراث المصرى وفى خصوصية الفن المصرى وهذا ما دأب الفنان على أن يستلهم منه رؤياه الفنية. دونما انفصال عن مجتمعه وبيئته فى صعيد مصر ووجد أن ما لديه من رؤى وقضايا اجتماعية تحقق ما يصبو إليه فى اتجاهاته التعبيرية وعالمه الخاص واستطاع أن يبرز حلولاً ورؤى تشكيلية تنبعث من روح الفنان/ سيد سعد الدين والتى ظهرت فى بدايات مشاركاته فى المعارض العامة. لذا كانت مفردات العمل الفنى عند الفنان تأتى فى اهتمامه بالإنسان المصرى فى الدرجة الأولى متمثلة فى بيئته من فلاح وعامل ورجل الشارع والمراة فى بيتها وعملها وفى الأسواق.. الخ. كما أن الفنان يتفاعل مع المواقف الإنسانية ويلتقطها بحس ووجدان مرهف ويتفاعل كذلك بما يدور حوله على ساحة الوطن من أحداث مصيرية تتضح فى لوحاته.. الشهيد – الوصية – زيارة إلى راحل – العدوان.. حيث نشاهد قمة المشاهد الدرامية فى أعماله كذلك هو قريب جداً من إيقاع الحياة اليومية.. فى لوحات.. الكناس – الغسيل – راحة – العودة من العمل ..الخ. ونشاهده فى معالجة مواقف إنسانية وصوفية فهو يعالج قضايا الموت وفقد الأحبة فى سلسلة من أعماله والتى بدأت مع لوحة زيارة إلى راحل ثم ارتفعت إلى قمة الصفاء الروحى والصوفية اللامحدودة وذلك عقب وفاة ابنته “أميرة” الشابة وهى فى ربيع عمرها فجاءت مجموعة أعمال الفراق – العزاء – الرحيل – المقرئ – الدعاء – نهاية الرحلة – زفاف أميرة.
كذلك نلاحظ أثر الثقافة التى اكتسبها الفنان والتى انعكست على لوحاته وكان أثرها واضح فى تطوير رؤيته وصقل موهبته. فجاء حبه للموسيقى مصدر آخر ومكون وجدانى عميق يتناغم مع الألوان والفرشاة وإيقاعات كل لوحة فكان الفنان يتذوق الموسيقى ويتفهمها ويستطيع أن يتابع السيفونيات الكلاسيكية ويحضر حفلات الأوبرا الكبيرة وهو على قناعة تامة بأن ذلك ضمن روافد الثقافة التى يعتز بها انعكس ذلك على أعماله ليس فقط فى لوحاته عن الموسيقى بل على جميع أعماله الفنية ونرى الأنغام تتهادى وتتراقص فى مجموعته.. عازف العود – أسطورة مصرية – رقصة – الطوق – رحلة مع النعم – عازف الناي..الخ إن من مصادر الرؤية لدى الفنان ما كان يكمن فى عقله ووجدانه وهى أحلامه وهو صغير فهو يحلق بالطائرات الورقية – ويجرى خلف الدواب – ويدفع الطوق أمامه ويرقب البنات وهى تلعب الحجلة – ويركب المراجيح فى مولد سيدى عبد الرحيم القنائى ويتسابق مع رفاقه فى لعبة السيجة.. وإذا ترقبنا ما عبر عنه الفنان فى مجموعته عن الألعاب الشعبية سنجد أن هذه الالعاب هى المنتشرة فى بلدته قنا وفى شارع سفينة الذى يقطنه والذى رسمه فى إحدى لوحاته وتعتبر هذه المجموعة نقلة كبيرة فى حياة الفنان حيث عالج الفنان الحركة بحس ميتافيزيقى وبصفاء للألوان واستخدام تكنيك مغاير للوحاته الأولى التى كانت ملمسها صخري فعبرت الأعمال عن صفاء ونقاء في الألوان وهى مرآة لروحة الطفولية الشفافة مصحوبة بسريالية وشخوص خفيفة الوزن. استلهم الفنان خلال تجربته الثقافية الصور الشعرية التى تغنى بها الشعراء والأدباء ولعمق تذوقه بهذا النوع وحبه للشعر والشعراء فتاتى لنا رائعته من وحى شعر شوقى حيث يصف أمير الشعراء أحد شوقى معابد فيلة فيقول:
قف بتلك “القصور” في اليم غرقى | ... | ممسكاً بعضهما من الذعر بعضا |
لعذارى أخفين في الماء بحنا | ... | سابحات به وأدين بضا |
هذه اللوحة الرائعة هى من مقتنيات “ديفيد روكفلر” صاحب بنك تشيس منهاتن بأميركا وقد أهديت إليه من قبل البنك الأهلى بالقاهرة وقت زيارته في الثمانينات وقد كتب عنها النقاد بيكار ومحمود بقشيش عن روعة هذا العمل وهناك مجموعة من لوحاته توضح انحياز الفنان لثقافة الأدب والشعر من هذه اللوحات عودة الروح – المظلة – المقهى – الخير – الحمل الثقيل..الخ
ونلحظ أن هناك عمق فى الفكر والمغزى من وراء العمل وهو ما يذكرنا ببعض كتابات أدبائنا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ووصفهم لبعض المواقف فى حقبة زمنية، حتى أن صياغاتهم ووصفهم يأتى كأنما هى لوحات تشكيلية مرسومة ويأتى فناننا ليبدع هذه اللوحات فيحدث توافق في الفكر والرؤى وهو معاصر لهؤلاء الأدباء مما يضف على أعماله عمق ثقافى كبير. ولاهتمام فننانا بالثقافة فكان يشارك بالحضور بنادى الأدباء والقصة والذى منحته العضوية الشرفية لجل أعماله “لوحة الشهيد” أو لوحة “لمسة وفاء” والتى كتب عنها الشاعر “محمود خليفة غانم” قصيدة كبيرة أهداها للفنان فى احتفالية خاصة لتكريمه.
وكان الفنان شديد التأمل لبيئته وما حوله ومتعاطفاً مع الحيوانات يتخذ منها رموزاً وإبطالاً وجماليات فى أعمال فنية لا تخضع لأسلوب التسجيل الواقعى إنما جاءت كأنها ملاحم تخفى ورائها أحداث كثيرة وتوضح عمق علاقة الإنسان بهذه الحيوانات وهى أيضاً لم تخرج عما هو موجود فى محيط بيئة من قطة وماعز وحمير وأغنام وبقر وحصان..الخ. وجاءت مجموعته النورج – الراحة – الراعى – المايسترو – الحصاد – القطيع – الحمل – العودة..الخ. وكثير من اللوحات والتى عولجت بأسلوب مميز تثير حب المتلقى وشغفه للتأمل.
ومن مصادر الرؤية عند الفنان الأسطورة والحلم والخيال فهو كأى طفل في الصعيد حكى له جده “الحدوتة” وخرجت أعمال الفنان يغاير التسجيل الواقعى للمنظور في أعماله وهو يقدمها لنا بسريالية على مسرح من الخيال في قالب جمالى رصين فيقدم لنا مجموعته – انتظار – المرجيحة – حواديت مصرية..الخ.
إن مصادر الرؤية لدى الفنان سيد سعد الدين لا تنضب فهو فنان عاشق لبلده محب لفنه يدافع عن قضايا الفن كأنه فارس مغوار وهو لا يستهين بما يمس قضية فنية بالمهادنة إنما هو فنان استوعب معطيات العصر ويمتلك مهاراته وأدواته بفهم عميق وهو متحاور مع المتلقى بوعي كبير.
مقتطفات من كتابات النقاد عن الفنان:
– بمنطق المهندس وبحكمة الفيلسوف وبوجدان الشاعر المرهف يبنى الفنان هذه الأحلام والملاحم التشكيلية يمزج الرياضة بالحس والعقل في حبكة تصويرية محسوبة ومحسوسة والبيئة في لوحات سيد سعد الدين ليست الماء والحمير والفلاحات وشاعر الربابة وأطفال الحارة التى تتحرك بين أضلاع لوحاته فى جلال ووقار. ولكنه شئ أعمق من هذا بكثير أنها المعنى الذى يستخلصه الفنان من عصارة التاريخ والحضارة أنه ذلك المزاج المتأصل في المناخ متخللاً الحى والقرى ومكسباً الأشياء سماتها وملامحها ومودعاً فيها مذاقها ونكهتها البيئية المتميزة.
الناقد/ حسين بيكار
– إن الذى نكتشفه أثناء تفكيك تجربة الفنان/ سيد سعد الدين شئ قد يبدو هامشياً في التناول الظاهرى للوحاته إنما فى الحقيقة له دلالته الجوهرية فى فنه ذلك هو “الصمت” .. توقف الزمن على الأبدية.. وما صيغه النظام الدقيق والعناية المثالية بكل التفاصيل والتناهى في التهذيب الشكلى للصور.
د.محسن عطية أستاذ النقد والتذوق الفنى بجامعة حلوان
– كان شغله الشاغل أن تكون هناك همسة وصل بينه وبين المتلقى فظل عمله مرتبطاً بالأرض والناس والماضى والاتجاهات المعاصرة دون توقف وقد غاص الفنان فى معظم الخامات مثل الفحم والأقلام الملونة والباستيل والأحبار والألوان الزيتية والفسيفساء والأقلام الرصاص وتبدو في الأعمال سيطرته الكاملة والتامة على الخامات وقدرته على التشكيل البنائى المعمارى.
الناقد د.ممدوح إبراهيم
أسيد سعد أنا الراوية | ... | غمست نهي ريشتى السامية |
وحاولت أن أنتقى الدرمن | ... | بحاري وسفنى بها جارية |
عزمتك من لوحة مثلث | ... | على القبر قصته الباقية |
وقفت وللموت سلطانه | ... | عرفتك من طفلة واهية |
لمست القلوب وكل النهى | ... | وفاء على لمسة ناعية |
مددت يدى إلى لوحة | ... | لانتزاع الطفلة الباكية |
وقد بللت وجهها أدمع | ... | من القلب في لوعة عاتية |
تضم إلى صدرها خوذة | ... | وفى وجهها قصة دامية |
بكت كاليتيم الشهيد الذى | ... | تفوق فى حربة الضارية |
وأقرض رب الورى نفسه | ... | رصيداً لدى الجنة العالية |
…الخ | الشاعر” محمود خليفة غانم” |
– إن أصالة سعد الدين ليست فى مظهرها السطحى ولكنها تتمثل فى البعد الميتافيزيقى الذى يسرى فى لوحاته ويغلفها بغلاله من صمت صوفى فيلسوف يتخطى حدود الزمان والمكان وهى كذلك فى ذلك الشموخ المعمارى الذى ينبت من الأرض الطيبة البناءة. ذلك الشموخ الذى صنع الأهرامات والمعابد والمسلات وتماثيل الجرانيت العملاقة. كما صنع الإنسان
– الراسخ الصامت الذى تعمق جذوره في الأرض ويمد قامته فى السماء.
الناقد الفني/ حسين بيكار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب والناقد الفني
محمد فؤاد الشاذلي
الناقد الفني بالمنتدى الثقافي – بدبي ســــــــــــــــــــــــــــــــــابقا
عضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية – الشارقة
عضو نقابـــــــــة الفنون التشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكيلية – القاهرة
عضــــــــــــــــــــتو الجمــــــــــــــــــــــــــــعية الأهليــــــــــــــــــــــــــة للفنـــــــــــــــــــون
عضو جمعية محبي الفنـــــــــــــــــــون الجمــــــــــــيلة بالقاهرة
عضو نقابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة المهنـــــــــــــــــــدسين بالقــــــــــــــــــــــــاهرة
موجه أول الفنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــون بالإمـــــــــــــــــــــــــــــارات ســــــــــــابقا
مديـــــــــر وحدة المهندســــــــــــــــــين بمركز ترمـــــــــــــــــيم الآثار
بالمتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتحف المصــــــــــــــــــــــــــــرى الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــبير
لوحات تمجيد الجمال
للفنان / سيد سعد الدين
بقلم / محمد فؤاد الشاذلي
في قاعة “بيكاسو” بحي الزمالك الراقي يعرض لنا الفنان / سيد سعد الدين أحمد 1944م أعماله الفنية لنتاج عمل يزيد عن الثلاثون عاماً.. يأخذنا في رحلة عبر محطات فنية ووقفات زمنية .. كل محطة تحكي لنا تجربه ذاتية شديدة الخصوصية بملامح مصرية تنطلق بنا إلى آفاق رحبة لتصل إلى العالمية. تفرز تجارب الفنان عن عمق شديد وحساسية مرهفه في البحث عن جوانب جمالية لمفردات وشخوص وعناصر وأسس للعمل الفني .. تتآلف .. وتتكامل .. وتتمم لحن وإيقاع معزوفة بصرية متفردة .. مصريه خالصة .. وهي رسالة للمجتمع المصري للنهوض بقيم حضارية لتمجيد الجمال وإبرازه والبحث عنه .. وهو القيمة الإيجابية الباقية عبر الأزمنة المختلفة لمصر . ونحن هنا ليس بمكان لنقد الأعمال الفنية ولكننا نلقي الضوء على حدث لا يمر دونما الوقوف عنده وتأمله والاستفادة منه .. فهذه الأعمال الفنية تكاد تكون مدرسه تفيد الدارسين والفنانين من بعد فإذا كان لنا القول عن الفنان سيد سعد الدين وهو واحد من كبار الفنانين من جيل السبعينات والذين وضعوا الفن التشكيلي المصري في نصابه الصحيح فهو سليل الفراعنة أبن قنا والذي جاءت الراية إلى يديه بعد سلسله من فنانينا الكبار من وقت الفنان محمود مختار وراغب عياد ومحمود ناجي ومحمود سعيد وحسين بيكار… والخيط الذي يربط بين هؤلاء الفنانين هي الرؤية الجمالية المصرية ليكون هناك مدرسة للفن التشكيلي المصري شديدة الخصوصية والتميز ونلحظ في أعمال الفنان بأنها مزيج من التصوير والموسيقى والنحت والأعمال المعروضة تحتاج إلى صفحات كثيرة لتحليلها والتحدث عنها وقراءتها فكل عمل هو قصة فنية كبيرة حيث يتميز الفنان بأنه لا يكرر أعماله الفنية أو تجربته بالشكل الرتيب والذي نراه عند بعض الفنانين والذي قد تدور أعماله الفنية في فلك عمل فني وتجربه واحده لمدى الحياة.. ولكن هنا نلحظ روح الفنان وأسلوبه يسيطر على كل عمل مع التنوع في الأطروحات من مواضيع واتجاهات وحركة وإيقاع والتقاط اللحظة والمكان وحركة العين والتناغم بين التراجيديا مرة والدراما مرة أخرى في صمت صوفي، وما صنعه الفنان من نظام دقيق لكافة التفاصيل وإخراجها بشكل منمق مما يجعل المتلقي متفاعلاً باحترام شديد مع هذه التحفه الثمينة التي أمامه. تعكس اللوحات مضمون ومكونات التجربة عند الفنان وهي مرآه لثقافته وأن للجمال قيمة يمجدها بتقديمه لهذه الأعمال وكذلك تعكس مهاراته وقدرته التصويرية والفنية في عمل نسيج بين الخيال والواقع في قضايا وطنية وقضايا إنسانية للإنسان المصري البسيط من عمال وفلاحين وطفل وامرأة ويغلف كل ذلك بعناصر بيئية تحيط الإنسان بدفيء وبصمت صوفي حالم لتعبر عن قيمة إنسانية مطلقة تدفعك للتعاطف والتفاعل معها بحب كبير.
نلمس في لوحات سيد سعد الدين تكامل أدواته الفنية فهو يقدم لنا التصوير في قالب نحتي خلاب وهو يختصر التفاصيل ليعطي لنا إيحاءات موجزه تجريدية كذلك يضع لنا شخوصه على مسرح الواقع باحناءات خفية ومتعددة المصدر ويخرج بنا إلى أعمال تحلق في فضاء واسع بسريالية تمزج بين الحلم والواقع في توافق هارموني وموسيقى عذب وإن أهم ما يميز هذه المجموعة من الأعمال الفنية بأنها “موسوعية” متعددة الجوانب وتخاطب مراكز التذوق والجمال لدى المتلقي وهو لا يعتمد على الصدفة أو الحيل التكتيكية في عمله ولكن لديه حسابات ومقاييس دقيقة تعكس علماً واسعاً ومعرفة ودراية بما كان يبحث عنه أسلافنا عن مقاييس ومعايير للجمال فهو بأسلوبه الخاص والمميز يؤكد الجانب “الدرامي” ويشيع جواً من “الصوفية” جامعاً لخصائص العمارة والنحت والرسم والتصوير في وقت واحد وهو يعتمد على البنائية في تكامل العمل الفني بدون إسراف في الألوان ويعتمد على موسيقى خفيه تعزز من الصمت الصوفي لعناصره وأشكاله.
ولوحات سيد سعد الدين كثيرة وإن كان قد أطلق عليها أسماء فنلحظ أن المتلقي أيضاً شاركه في وضع أسماء من عنده متعاطفاً مع عالمه الجمالي فنرى في معرضه “لوحة الشهيد” لمسة وفاء – “لعبه الطوق” – “لعبه الطائرات الورقية” – لوحة المولد “مواكب الصوفية” – المقهى “الخبر” السباق – تحت المظلة – انتظار – الوصية – عربات اليد – قرية القرنه – الواحات – سيوه – عازفة العود – رحله مع نغم – نزهه – مجموعة لوحات (حواديت مصرية) – الماعز – الحصاد … الخ وغيرها كثير من الأعمال التي تمتع المتلقي واستثمار لا ينضب للمقتني ودروس وركائز لأجيال قادمة … في رحلة عمل فني تزيد على الثلاثين عاماً … ترقي للعالمية وبمستوى الأعمال المتحفية الباقية عبر الزمن… والتاريخ.
نبذة عن الفنان:
ولد الفنان/ سيد سعد الدين بمدينة قنا عام 1944 جنوب مصر لأخوة ثمانية ظهرت مواهبه وميوله تجاه الرسم والتشكيل منذ بداياته وهو طفل في المدارس الابتدائية وعمره ثمان سنوات وإعجاب أساتذته بموهبته أتاح له الفرصة لممارسة الفن والتفوق حتى حصل على جائزة فى عيد العلم والفن الثانى عام 1959 والذى كان يحضره الرئيس جمال عبد الناصر كما حصل على المركز الأول على جمهورية مصر العربية فى مادة التربية الفنية والدرجة النهائية بالشهادة الإعدادية والفنان من أسرة متوسطة ولم يكن سهلاً عليه ليحقق رغباته في تعلم الفن بالجامعات المصرية المتخصصة وكانت أهداف الأسرة هى التى توجهه في التعليم لتحقيق مكاسب أخرى ليكون مهندساً إلا أن الفنان تمرد على هذا وترك دراسة الهندسة ويبحث عن دراسة الفن فلم يكن أمامه سوى المعهد الإيطالى ليونارود دافنشى ولضعف الإمكانات المادية التحق بالمعهد في الدراسة المسائية واضطر للعمل فى سن صغير بإحدى الصحف كرسام ليحقق دخلاً قليلاً يعينه على دفع مصروفات الدراسة.. إلى أن تفهم أساتذته بالمعهد ما هو فيه لأنه كان ملفتاً للنظر وهو أصغر الدراسيين فى القسم المسائى وعمل أستاذه/ سيد عبد الرسول والفنان الإيطالى/ تريفي زونوا وهما اللذان ساعداه على الانتقال إلى الدراسة الصباحية المنتظمة مع إعفائه من مصروفات الدراسة التى كانت تعتبر مرتفعة جداً وقتئذ وأسهم كذلك محافظ قنا/ عبد الله غبارة حينما قرأ مقالاً يشيد بموهبة طالب الفن/ سيد سعد الدين فقرر أن تكون له منحة شهرية وان تكون دراسته على نفقة المحافظة كل هذه الأجواء والترحاب في محيط دراسته أعطته دافعاً قوياً للتفوق وليزيل ما أصاب أهله من احباطات وسوء فهم لتركه دراسته في الهندسة تفوق الفنان عاماً تلو العام حتى تخرج وعين معيداً بالمعهد عام 67-1976م وكانت له هذه الفترة انفراج وانفتاح على الثقافات الغربية والشرقية حتى التحق بالقوات المسلحة من 1968-1973م لقضاء الخدمة العسكرية والتى لم يستطع خلالها أن يمارس الفن إلا قليل حتى أقامت جمعية حبى الفنون الجميلة مسابقة لإحياء ذكرى رحيل جمال عبد الناصر 1972م فشارك بلوحة “زيارة إلى راحل” والتى تم اقتنائها بالمعرض ثم شارك بلوحة “أنشودة إلى راحلين” فى صالون القاهرة 73 وفى هذين العملين ولدت شهادة ميلاد فنان بما كتبه عنه نقاد الفن وقتئذ منهم الفنان/ حسين بيكار ووزير الثقافة/ بدر الدين أبو غازى والأديب الوزير/ يوسف السباعى وشارك الفنان بعد ذلك فى معرض الطلائع ليحصل على المركز الأول بامتياز وفيه ألقى الضوء على أسلوبه ومنهجه وارسى قواعد رؤيته التشكيلية المتفردة.
النحت عند الفنان:
لم ينفصل النحت كمجال تشكيلى عن الرسم والتصوير عند الفنان ولكن عمل الفنان منذ بداياته على التصوير بأسلوب النحات المتمكن من أدواته يجسد رموزه وشخوصه وعناصره ويستخرجهما إل حيز الفراغ فى أبسط الخطوط وأقواها فى قالب تجريدى دونما المبالغة في الحجم أو التدوير أو التفاصيل. وهذا ما أعطانا الأمل في النحت المصرى المعاصر والذى يتقدم ببطئ منذ وفاة الفنان/ محمود مختار. ولقد دفعت إبداعات النحت لدى الفنان إلى الدخول إلى المشروعات الكبيرة والتى تجسيد رؤيته فقد شارك في إبداع وتنفيذ جدارية جامعة سيناء بالنحت البارز بطول يصل إلى ثلاثون متراً كذلك نفذ جداريات من التصوير بالفسيفساء والأزمالتو فى أهم المواقع السياحية بشرم الشيخ وكذلك فى مطار العريش ومن أجمل ما قدمه إقامة تمثالى حورس آلهة الحب على جانبى كوبرى الأقصر وخلفهم المسلة المضيئة من الجرانيت الخالص وإذا كانت الأصل في هذه التماثل هى أنها صورة للتماثيل الفرعونية إلا أن الفنان قد أضاف إليهم روحه وشخصيته وأسلوبه في المعالجة والفورم حتى جاءت النتيجة تحفه فنية باقية على مر الزمان. كذلك جاءت مشاركات الفنان في النحت خارج مصر بنماذج تعتبر نموذجاً مشرفاً للنحت المصرى والتى كان آخرها معرض الأسبوع الثقافى المصرى بالمركز الثقافى بأبوظبى عام 2006 إن كثيراً من منحوتات الفنان القطع الصغيرة نلحظ إنما هى مشروعات صغيرة ابتدائية لتماثيل عملاقة لم تخرج بعد إلى حيز الوجود وهى ما نشعر بأنها تصلح لأن توضع كعلامة بارزة وكعمل فنى خالد تمس شغاف القلوب لرجل الشارع العادي والمثقف على السواء توضع في الميادين والحدائق وعلى الشواطئ وفى المبانى ذات الأهمية والخصوصية وكما أطلق الفنان أسماء على لوحاته فهو أيضاً أطلقها على أعماله النحتية فنرى تمثال الوصية – والكناس – وانتظار – وكبوة – الحصاد – الموكب – الخ. وقدم الفنان تجربته النحتية بقاعة الدبلوماسيين عام 2005م ولم تكن التجربة جديدة على النقاد فقد كتبت عام 1977م فى مدينة بولونيا بإيطاليا كتبت الناقدة “إيرمينيا روبينى” عن معرض للفنان سيد سعد الدين “ولد الفنان سيد سعد الدين نحاتاً ولكنه يمارس فن التصوير” وكتب محمود بقشيش فى مقال له بمجلة إبداع بعنوان التصوير “النحتي في أعمال سيد سعد الدين” كذلك كتب الفنان والناقد حسين بيكار “أن الفنان يجمع في أعماله خصائص النحت والتصوير والعمارة” وبالفعل ظهرت إبداعات الفنان باستخدام وسائط مختلفة في تحقيق منحوتات بالبرونز والجرانيت والأخشاب.
ونشهد تفوق الفنان على أقرانه من الفنانين في مسابقة لعمل تمثال يعبر عن حفر قناة السويس بديلاً لتمثال ديليسبس وليوضع على شاطئ القناة وشارك هو وزميله المهندس المعمارى محمد فؤاد الشاذلى فى تصميم المشروع بمخططاته السياحية ومكوناتة المعمارية للمنطقة ليفوز المشروع بالمركز الأول ولكنه لم ينفذ وتعثر لمشكلات إدارية.. لذا نلمس أن الفنان سيد سعد الدين يتمتع برؤية لتطوير فن النحت وهو امتداد للنحت المصرى العريق مصحوباً بتفاعله بالمكان والزمان فهو مهندس بداخله ونحات يستخلص عصارة التاريخ وحضارته مودعاً لمنحوتاته عالماً خاصاً ذو قيمة وأصالة ومذاق معمارى رصين والذى بنى به أجدادناً الأهرامات والمعابر والمسلات والتماثيل.
ملامح ومصادر الرؤية عند الفنان:
بالرغم من مرور الفنان خلال دراسته وما بعدها كأستاذ بمعهد ليوناردو دافنشى الإيطالى وقربه واحتكاكه بفنون الغرب وتتلمذه على أيدى كبار الأساتذة أمثال “سيد عبد الرسول” و”توليو كرالى” والفنانة “روبينى” الإيطالية والفنان/ “راغب عياد” وزوجته الإيطالية “إيمكالى عياد” بالرغم من كل هذه الأجواء والثقافات الغربية إلا أنه عمل بتوصيات أساتذته ولم يتخذ مدرسة من المدارس الفنية كأسلوب أو اتجاه وإنما هو استطاع أن يهضم كل المدارس والاتجاهات ولديه مخزون بصرى خاص به منذ طفولته يلح عليه ويطل من رأسه من حين لآخر وهو يتهادى بين سحر الشرق وبريق الغرب. عمل الفنان ووضع آراء أساتذته نصب عينيه في البحث عن التراث المصرى وفى خصوصية الفن المصرى وهذا ما دأب الفنان على أن يستلهم منه رؤياه الفنية. دونما انفصال عن مجتمعه وبيئته فى صعيد مصر ووجد أن ما لديه من رؤى وقضايا اجتماعية تحقق ما يصبو إليه فى اتجاهاته التعبيرية وعالمه الخاص واستطاع أن يبرز حلولاً ورؤى تشكيلية تنبعث من روح الفنان/ سيد سعد الدين والتى ظهرت فى بدايات مشاركاته فى المعارض العامة. لذا كانت مفردات العمل الفنى عند الفنان تأتى فى اهتمامه بالإنسان المصرى فى الدرجة الأولى متمثلة فى بيئته من فلاح وعامل ورجل الشارع والمراة فى بيتها وعملها وفى الأسواق.. الخ. كما أن الفنان يتفاعل مع المواقف الإنسانية ويلتقطها بحس ووجدان مرهف ويتفاعل كذلك بما يدور حوله على ساحة الوطن من أحداث مصيرية تتضح فى لوحاته.. الشهيد – الوصية – زيارة إلى راحل – العدوان.. حيث نشاهد قمة المشاهد الدرامية فى أعماله كذلك هو قريب جداً من إيقاع الحياة اليومية.. فى لوحات.. الكناس – الغسيل – راحة – العودة من العمل ..الخ. ونشاهده فى معالجة مواقف إنسانية وصوفية فهو يعالج قضايا الموت وفقد الأحبة فى سلسلة من أعماله والتى بدأت مع لوحة زيارة إلى راحل ثم ارتفعت إلى قمة الصفاء الروحى والصوفية اللامحدودة وذلك عقب وفاة ابنته “أميرة” الشابة وهى فى ربيع عمرها فجاءت مجموعة أعمال الفراق – العزاء – الرحيل – المقرئ – الدعاء – نهاية الرحلة – زفاف أميرة.
كذلك نلاحظ أثر الثقافة التى اكتسبها الفنان والتى انعكست على لوحاته وكان أثرها واضح فى تطوير رؤيته وصقل موهبته. فجاء حبه للموسيقى مصدر آخر ومكون وجدانى عميق يتناغم مع الألوان والفرشاة وإيقاعات كل لوحة فكان الفنان يتذوق الموسيقى ويتفهمها ويستطيع أن يتابع السيفونيات الكلاسيكية ويحضر حفلات الأوبرا الكبيرة وهو على قناعة تامة بأن ذلك ضمن روافد الثقافة التى يعتز بها انعكس ذلك على أعماله ليس فقط فى لوحاته عن الموسيقى بل على جميع أعماله الفنية ونرى الأنغام تتهادى وتتراقص فى مجموعته.. عازف العود – أسطورة مصرية – رقصة – الطوق – رحلة مع النعم – عازف الناي..الخ إن من مصادر الرؤية لدى الفنان ما كان يكمن فى عقله ووجدانه وهى أحلامه وهو صغير فهو يحلق بالطائرات الورقية – ويجرى خلف الدواب – ويدفع الطوق أمامه ويرقب البنات وهى تلعب الحجلة – ويركب المراجيح فى مولد سيدى عبد الرحيم القنائى ويتسابق مع رفاقه فى لعبة السيجة.. وإذا ترقبنا ما عبر عنه الفنان فى مجموعته عن الألعاب الشعبية سنجد أن هذه الالعاب هى المنتشرة فى بلدته قنا وفى شارع سفينة الذى يقطنه والذى رسمه فى إحدى لوحاته وتعتبر هذه المجموعة نقلة كبيرة فى حياة الفنان حيث عالج الفنان الحركة بحس ميتافيزيقى وبصفاء للألوان واستخدام تكنيك مغاير للوحاته الأولى التى كانت ملمسها صخري فعبرت الأعمال عن صفاء ونقاء في الألوان وهى مرآة لروحة الطفولية الشفافة مصحوبة بسريالية وشخوص خفيفة الوزن. استلهم الفنان خلال تجربته الثقافية الصور الشعرية التى تغنى بها الشعراء والأدباء ولعمق تذوقه بهذا النوع وحبه للشعر والشعراء فتاتى لنا رائعته من وحى شعر شوقى حيث يصف أمير الشعراء أحد شوقى معابد فيلة فيقول:
قف بتلك “القصور” في اليم غرقى | ... | ممسكاً بعضهما من الذعر بعضا |
لعذارى أخفين في الماء بحنا | ... | سابحات به وأدين بضا |
هذه اللوحة الرائعة هى من مقتنيات “ديفيد روكفلر” صاحب بنك تشيس منهاتن بأميركا وقد أهديت إليه من قبل البنك الأهلى بالقاهرة وقت زيارته في الثمانينات وقد كتب عنها النقاد بيكار ومحمود بقشيش عن روعة هذا العمل وهناك مجموعة من لوحاته توضح انحياز الفنان لثقافة الأدب والشعر من هذه اللوحات عودة الروح – المظلة – المقهى – الخير – الحمل الثقيل..الخ
ونلحظ أن هناك عمق فى الفكر والمغزى من وراء العمل وهو ما يذكرنا ببعض كتابات أدبائنا نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ووصفهم لبعض المواقف فى حقبة زمنية، حتى أن صياغاتهم ووصفهم يأتى كأنما هى لوحات تشكيلية مرسومة ويأتى فناننا ليبدع هذه اللوحات فيحدث توافق في الفكر والرؤى وهو معاصر لهؤلاء الأدباء مما يضف على أعماله عمق ثقافى كبير. ولاهتمام فننانا بالثقافة فكان يشارك بالحضور بنادى الأدباء والقصة والذى منحته العضوية الشرفية لجل أعماله “لوحة الشهيد” أو لوحة “لمسة وفاء” والتى كتب عنها الشاعر “محمود خليفة غانم” قصيدة كبيرة أهداها للفنان فى احتفالية خاصة لتكريمه.
وكان الفنان شديد التأمل لبيئته وما حوله ومتعاطفاً مع الحيوانات يتخذ منها رموزاً وإبطالاً وجماليات فى أعمال فنية لا تخضع لأسلوب التسجيل الواقعى إنما جاءت كأنها ملاحم تخفى ورائها أحداث كثيرة وتوضح عمق علاقة الإنسان بهذه الحيوانات وهى أيضاً لم تخرج عما هو موجود فى محيط بيئة من قطة وماعز وحمير وأغنام وبقر وحصان..الخ. وجاءت مجموعته النورج – الراحة – الراعى – المايسترو – الحصاد – القطيع – الحمل – العودة..الخ. وكثير من اللوحات والتى عولجت بأسلوب مميز تثير حب المتلقى وشغفه للتأمل.
ومن مصادر الرؤية عند الفنان الأسطورة والحلم والخيال فهو كأى طفل في الصعيد حكى له جده “الحدوتة” وخرجت أعمال الفنان يغاير التسجيل الواقعى للمنظور في أعماله وهو يقدمها لنا بسريالية على مسرح من الخيال في قالب جمالى رصين فيقدم لنا مجموعته – انتظار – المرجيحة – حواديت مصرية..الخ.
إن مصادر الرؤية لدى الفنان سيد سعد الدين لا تنضب فهو فنان عاشق لبلده محب لفنه يدافع عن قضايا الفن كأنه فارس مغوار وهو لا يستهين بما يمس قضية فنية بالمهادنة إنما هو فنان استوعب معطيات العصر ويمتلك مهاراته وأدواته بفهم عميق وهو متحاور مع المتلقى بوعي كبير.
مقتطفات من كتابات النقاد عن الفنان:
– بمنطق المهندس وبحكمة الفيلسوف وبوجدان الشاعر المرهف يبنى الفنان هذه الأحلام والملاحم التشكيلية يمزج الرياضة بالحس والعقل في حبكة تصويرية محسوبة ومحسوسة والبيئة في لوحات سيد سعد الدين ليست الماء والحمير والفلاحات وشاعر الربابة وأطفال الحارة التى تتحرك بين أضلاع لوحاته فى جلال ووقار. ولكنه شئ أعمق من هذا بكثير أنها المعنى الذى يستخلصه الفنان من عصارة التاريخ والحضارة أنه ذلك المزاج المتأصل في المناخ متخللاً الحى والقرى ومكسباً الأشياء سماتها وملامحها ومودعاً فيها مذاقها ونكهتها البيئية المتميزة.
الناقد/ حسين بيكار
– إن الذى نكتشفه أثناء تفكيك تجربة الفنان/ سيد سعد الدين شئ قد يبدو هامشياً في التناول الظاهرى للوحاته إنما فى الحقيقة له دلالته الجوهرية فى فنه ذلك هو “الصمت” .. توقف الزمن على الأبدية.. وما صيغه النظام الدقيق والعناية المثالية بكل التفاصيل والتناهى في التهذيب الشكلى للصور.
د.محسن عطية أستاذ النقد والتذوق الفنى بجامعة حلوان
– كان شغله الشاغل أن تكون هناك همسة وصل بينه وبين المتلقى فظل عمله مرتبطاً بالأرض والناس والماضى والاتجاهات المعاصرة دون توقف وقد غاص الفنان فى معظم الخامات مثل الفحم والأقلام الملونة والباستيل والأحبار والألوان الزيتية والفسيفساء والأقلام الرصاص وتبدو في الأعمال سيطرته الكاملة والتامة على الخامات وقدرته على التشكيل البنائى المعمارى.
الناقد د.ممدوح إبراهيم
أسيد سعد أنا الراوية | ... | غمست نهي ريشتى السامية |
وحاولت أن أنتقى الدرمن | ... | بحاري وسفنى بها جارية |
عزمتك من لوحة مثلث | ... | على القبر قصته الباقية |
وقفت وللموت سلطانه | ... | عرفتك من طفلة واهية |
لمست القلوب وكل النهى | ... | وفاء على لمسة ناعية |
مددت يدى إلى لوحة | ... | لانتزاع الطفلة الباكية |
وقد بللت وجهها أدمع | ... | من القلب في لوعة عاتية |
تضم إلى صدرها خوذة | ... | وفى وجهها قصة دامية |
بكت كاليتيم الشهيد الذى | ... | تفوق فى حربة الضارية |
وأقرض رب الورى نفسه | ... | رصيداً لدى الجنة العالية |
…الخ | الشاعر” محمود خليفة غانم” |
– إن أصالة سعد الدين ليست فى مظهرها السطحى ولكنها تتمثل فى البعد الميتافيزيقى الذى يسرى فى لوحاته ويغلفها بغلاله من صمت صوفى فيلسوف يتخطى حدود الزمان والمكان وهى كذلك فى ذلك الشموخ المعمارى الذى ينبت من الأرض الطيبة البناءة. ذلك الشموخ الذى صنع الأهرامات والمعابد والمسلات وتماثيل الجرانيت العملاقة. كما صنع الإنسان
– الراسخ الصامت الذى تعمق جذوره في الأرض ويمد قامته فى السماء.
الناقد الفني/ حسين بيكار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكاتب والناقد الفني
محمد فؤاد الشاذلي
الناقد الفني بالمنتدى الثقافي – بدبي ســــــــــــــــــــــــــــــــــابقا
عضو جمعية الإمارات للفنون التشكيلية – الشارقة
عضو نقابـــــــــة الفنون التشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكيلية – القاهرة
عضــــــــــــــــــــتو الجمــــــــــــــــــــــــــــعية الأهليــــــــــــــــــــــــــة للفنـــــــــــــــــــون
عضو جمعية محبي الفنـــــــــــــــــــون الجمــــــــــــيلة بالقاهرة
عضو نقابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة المهنـــــــــــــــــــدسين بالقــــــــــــــــــــــــاهرة
موجه أول الفنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــون بالإمـــــــــــــــــــــــــــــارات ســــــــــــابقا
مديـــــــــر وحدة المهندســــــــــــــــــين بمركز ترمـــــــــــــــــيم الآثار
بالمتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتحف المصــــــــــــــــــــــــــــرى الكـــــــــــــــــــــــــــــــــــبير