قيمة النقد الفني


بقلم / عبد الهادي شلا

لايمكننا الحديث عن مستقبل النقد الفني العربي دون المرور على حاضره وماضية من حيث الضرورة،وذلك لرسم الصورة التي هو عليها وكيف تكونت إن استطعنا تتبع جذور نشأة النقد الفني في مقالة تهدف إلى تصور شكلا مستقبليا للنقد ربما يكون مشابها للشكل الحالي أو مغايرا ..

وقد جاء في معجم الوسيط أن:
( نقد الشعر والنثر يعني: أظهر ما فيهما من عيب أو حُسن،وفلان ينقد الناس أي يعيبهم ويغتابهم ).
وعليه فالنقد طبيعة في البشر فهو واحدة من سلوكياتهم حين يعجبون بشيء أو يعيبون عليه،وما الإعجاب أو عدم الرضى إلا صورة من صور النقد ،لذلك فإن النقد بكل صوره لم يأت نتيجة إبداعات الفنانين فقط بل هو سابق عليها ولنا أن نبني على ذلك تصورا بأنه نشأ مع بداية إدراك الإنسان لجمال أو قبح ما حوله في الطبيعة أو في سلوك الآخرين..
ولماذا يكون النقد؟
لأنه يفسر تعاطفنا مع العمل الإبداعي ويشرح بمزيد من الوضوح بعض ما خفي علينا فهمه وإدراكه،ويمنحنا الفرصة لمعرفة المزيد عن رؤية المبدع وفلسفته،فنكون أقرب إلى فهم القيمه الحقيقية للعمل الإبداعي.
كما أن النقد..يفصل بين القيم العالية والقيم الرخيصة في محتوى العمل الإبداعي، فيختصر لنا المسافة بين منهج وفكر المبدع،وبين مستوى المتلقي إلى درجة تحقق التواصل الذي يلتقي فيه كلاهما (المبدع والمتلقي) على رؤية واحدة تزيد من قيمة أثر العمل الإبداعي في نفس المتلقي الذي من أجله يبدع المبدعون، فتكون العلاقة حميمية بينهما حين يصبح العمل الإبداعي أقرب للفهم..وهذا ما يمكن أن يحققه النقد الموضوعي..المحايد!!
وحتى يكون النقد سليما ومحايدا فقد ضبطته معايير وأصول وطرق وأساليب،الخروج عنها يقع في غير محله ويميل نحو هوى ورغبة الناقد الذاتية في السيطرة على تفسير العمل الفني بما يتفق وهواه ، الأمرالذي يجعله لا ينضبط تحت أي من سمات النقد الفني السليم والصحيح الهادف إلى نقل ما خفي على المتلقي أو استعصى عليه فهمه، فلا تتحق الغاية النبيلة من قيمة النقد .
وليست عملية النقد بالشيء السهل،كما يتصور البعض، فإن الناقد مطالب بأن يكون أيضا على مستوى عال من الثقافة الفنية وعلم الجمال والفلسفة وتاريخ الفن والتذوق الفني و مطلعا على ثقافات الأمم وتطور الحضارات ومتابعا للحركات الفنية المعاصرة ومعارضها ومتاحفها وتطورها في العالم وليس محليا فقط ..وعليه أن يكون متابعا لإنتاج المبدعين وخاصة أولئك الذين يقوم بنقد أعمالهم حتى يكون قريبا من منهاج أعمالهم وفلسفاتهم ومدى تطبيق رؤيتهم وانسجامهما مع العمل الإبداعي.
ولنا في تسمية”المدرسة الوحشية”مثلا في تأثير النقدالفني والتي أطلقها في العام 1906 الناقد الفرنسي”فوسيل” نتيجة ردة فعل حين شاهد مجموعة أعمال لفنانين وبينها أعمال لماتيس وديران فأطلق صيحته الشهيرة “وحوش” وذلك لجرأة هؤلاء الفنانون على استخدام ألوان صريحة وصارخة،فسرى هذا لإسم على هذا الأسلوب إلى اليوم لما فيه من التجديد والخروج عن المدارس التقليدية في ذلك الوقت.إذ ان الناقد أثاره هذا التجديد فأطلق كلمته التي ذهبت إسما ووصفا لهذه المدرسة الفنية حتى الآن ، وقد كان لنفس الناقد ردة فعل على الفنان”بيكاسو حين نعته ” بالتكعيبي” لإنتمائه لهذا الأسلوب كأحد مراحله الفنية رغم أنه هجره إلى أسلوبه الأكثر صراحة وانفتاحا وجرأة أيضا.. وهنا يكون تأثير النقد فاعلا إن كان متوافقا مع معطيات المبدع.
فالنقد سيف مسلط على رقاب المبدعين حينا،وعليهم أن يحسبوا له ألف حساب لأنه كاشف لأسرار أعمالهم ومبرزا للزوايا الواهنة فيها ،وحينا آخر يكون النقد إكليل ورد على صدورهم حين ينصفهم ويمنحهم التقدير والثناء على تمام أعمالهم فيمهد لهم طريق الاستمرارية نحو الأفضل.
من أين يبدأ النقد؟
على الرغم من أن عمر” النقد الفني ” في معظم أقطار الوطن العربي ليس طويلا كما هو في نقد الشعر والنثر وفروع الأدب الأخرى ،إلا أن حضوره الآن أصبح مؤثرا في وجود هذا الكم الهائل من وسائل الاتصال التكنولوجية التي تتيح الفرص للكثيرين من غير ذوي الاختصاص بأن ينقدوا ويفندوا الأعمال الفنية التي تترتب عليها نتائج غير مرجوة لمستقبل النقد الفني وقد تهدم صروحا فنية عريقة إن لم يقم النقد بدوره الطليعي في تجهيز جيل واع من المتذوقين للفنون.
ولما كان”التلفزيون” هو الملعب الكبير الذي يمرح فيه النقاد كأكبر الوسائل الإعلامية إختراقا للبصر والسمع بإذن وبغير إذن ومساحة الفرص المتاحة فيه أكبر من غيرها للمتابعة وسماع رأي الناقد الأمر الذي يضاعف مسؤوليتة حيث أنه يخاطب عدة مستويات من المتلقين بالصورة والكلمة، لذلك عليه أن يضبط ايقاع كلماته ضمن حدود تسمح للجميع بتشكيل رؤية تتناسب مع قدراتهم واستيعابهم لما يطرحه عليهم، وإن فرض رؤية “منفتحة” بمعنى حرة أكثر مما ينبغي أمر لا يتفق مع ثقافة المتلقي العربي وعلى الناقد أن يختار الأسلوب والكلمات الأمثل لتقديمها،فالأمر على شاشات النلفزيون ليس منوط بدقائق يتحدث فيها الناقد على حساب ثقافة المجتمع فيتبنى فيها وجهات نظر غريبة ومتطرفة فنيا لا تنسجم مع حال مجتمعاتنا ذات الطبيعة الخاصة.
وقد كانت الصحف والمجلات سباقة على التلفزيون في هذا الفعل إذ أنه ومنذ زمن و كتاب الصحف اليومية والمجلات يقومون بتغطية النشاطات الفنية كنوع من العمل الروتيني فتأتي مقالاتهم في أغلبها مجرد تغطية”حدث فني” لا يخلو من المجاملة تفاديا لسقوط الكاتب في مأزق النقد فتنكشف قدراته.
ويطلق على هذا النوع ” ناقد” بحكم أنه موجود بشكل دائم مع كل تغطية لنشاط فني،وهذا مازال سائدا في كثير من الصحف والجرائد اليومية وهو ملحوظ في التلفزيون خاصة في نقد المهرجانات الموسيقية والمسرح والسينما والمسلسلات اليومية بشكل أكثر من الفن التشكيلي والبصري عامة حيث لا يحظى هذا الفن بالكثير من الاهتمام إلا في مناسبات كالبيناليات العربية التي استحدثت في أواخرالقرن الماضي حيث تطورت إلى شكل من أشكال المنافسة بين التجمعات الفنية في الأقطار العربية ولا يخفى على الذين يتابعونها أنها أخذت اتجاها قطريا كانت نتائجه سلبية على هذا الفن.!! وقد لعب ” كتاب الصحف والمجلات” دورا في تغذية هذه النظرة الإقليمية في مثل هذه المهرجانات الفنية بقصد أو بدون قصد ولربما لأنهم ليسوا على دراية كافية بتأثير النقد، فكانت النتائج في غير صالح المتذوق لمثل هذه النظرة الإقليمية التي أفسدت جمال الإبداع و أيضا أصابت المبدع بالاحباط إذ أن الفنان العربي يبدع من منطلق العوامل المشتركة في الوحدة الجامعة للوطن الكبير بكل مقوماته من اللغة والدين والتاريخ والتراث وغيرها،بينما هذا الكاتب يزرع الأرض شوكا و يعبدها حجارة فتتعثر مسيرة الإبداع التي في جوهرها تحمل هدفا ساميا وهو التعبير عن أصالة المبدع العربي الذي يحتاج إلى “ناقد” حقيقي على المستوى الذي جئنا على ذكره آنفا.
نستخلص من هذا أن النقد ضرورة معينة للمبدع يسترشد به حين تكون الحاجة و لايكون النقد فاعلا إلا في وجود عمل إبداعي يستحق النقد،وهذا يستدعي وجود مبدعين ،مجددين.. وهم كثر،وحين يثيرون حفيظة النقاد كي يثروا الساحة الفنية العربية بنقدهم، فلا شك أن مستقبل النقد سيكون أكثر إشراقا وبهاءا.

source: facebook.com/profile.php?id=524403129