Home | فنون جميله | عبد الهادي الجزار ” 1925 – 1966 “

عبد الهادي الجزار ” 1925 – 1966 “

عبد الهادي الجزار ” 1925 – 1966 ”
====================
بقلم جرجس بخيت
———————–

من أهم الدعائم الحركة الفنية المصرية المعاصرة ، و ركناً من أهم أركانها .. رفض الاستسلام و الرضوخ للتابوهات الفنية الجاهزة و المستهلكة .. اهتم بمضمون العمل الفني ، فتوجه لعمق البيئة الشعبية .. انغمس فيها و توحد معها .. و نهل منها ، و عبّر عنها أصدق تعبير . رفض الرؤية المزيفة للفن و قدم الدليل على بلاغة و قوة تأثيره .

أنه الفنان ” عبد الهادي الجزار ” أحد رواد التجديد .. جاء أداؤه فتحاً جديداً في عالم الفن التشكيلي ، فقاد و عن اقتدار مشعل الأصالة و المعاصرة ، و قدم فناً مصرياً خالصاً يضاف الى رصيد مصر الثقافي و الحضاري .

*

ولد بالاسكندرية في مارس عام 1925 بحي القباري .. تلقى دروسه الفنية الأولى على يد المفكر و الفنان حسين يوسف أمين بمدرسة الحلمية الثانوية بالقاهرة عام 1938 .. التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1944 ، و انضم الى جماعة ” الفن المعاصر ” عام 1946 و هو لم يزل طالباً ليكون أهم أعضائها و أكثرهم نشاطاً و تفرداً .

أصيب أثناء دراسته بروماتيزم القلب .. لم تظلم الدنيا أمام عينيه ، فأصر على مضاعفة جهوده في الوقت الذي كانت أعماقه تنتفض من شبح الموت الزاحف نحوه .. و الذي ترك أثره الواضح على انجاز ه الفني فيما بعد .
تخرج عام 1950 بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف .. عين معيداً حتى وصل الى درجة أستاذ مساعد لقسم التصوير .. سافر الى ايطاليا في منحة دراسية عام 1954 ، ثم في بعثة رسمية لاستكمال الدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة بروما عام 1957 .. و عاد الى مصر في عام 1961 ، و رحل عن دنيانا في 7 مارس عام 1966 .

*

كانت ” جماعة الفن المعاصر ” أول جماعة فنية تتجه نحو المحلية ، و تتميز بموقف فلسفي يتصل بالتراث الحضاري المصري . تحمل مضامين اجتماعية و سياسية و فكرية .
و كان الجزار هو التعبير الأنقى حيث رفض الأساليب التقليدية و توجه نحو أسلوب تفرد به يجمع بين السريالية و التعبيرية و الرمزية .. كان أكثر وعياً بظروف مجتمعه .. مهموماً بقضايا و مستقبل بلده .. ربط الفن بالمجتمع فاتضح موقفه الفكري الذي وضعه في عداء مع السلطة في ذلك الوقت .

قدمته لوحة ” الجوع ” عام 1949 للتحقيق معه حول مضمونها الفاضح للبؤس و الجوع الذي عانى منه الشعب كثيراً .. و هي تمثل مجموعة من الفقراء يقفون أمام أطباق فارغة .. و أفرج عنه بعد أن ضمنه الفنانان محمود سعيد و محمد ناجي بنفوذهما الاجتماعي و صلاتهما بالسلطة .

بعد قيام ثورة 1952 كان الجزار من الفنانين الذين أمنوا بها و أخلصوا لها .. كان أصدقهم تعبيراً عن منجزاتها ، و أكثرهم وعياً و رغبة في التلاحم بين الفنان و المجتمع و التعبير عنه .. و يبدو ذلك واضحاً في لوحاته عن تأميم القناة ، السد العالي ، الميثاق ، الدعوة للسلام و غيرها ….

كانت أعماله المبكرة تمثل رؤية خاصة اختلطت فيها الخيالات بالتساؤلات الفلسفية حول مفهوم الموت و القدر و المجهول ، ثم ارتفع بمضمون أعماله بتحويلها الى رؤى انسانية تتصل بالمشاعر و الأحاسيس . امتزج بالطيقات الشعبية المطحونة .. شاركهم معاناتهم و واقعهم التعس .. تعّرف على ارتباطاتهم الوثيقة بالخرافات و أسرار القوى الخفية و ظواهرها .. توّحد معهم حتى صاروا جزءاً من تفكيره و عالمه .. تعاطف مع البشر المستسلمين للغيبيات الغارقين في عالم السحر و الشعوذة .. فاحتلت الرموز و الطلاسم الشعبية لوحاته و حياته أيضاً ، و جاءت تلك اللوحات المستوحاة من هذا الجو الغريب الغامض قوية التعبير .. يشع منها الصدق الفني الذي أصبح سمة من أهم سماته الفنية .. و هذا الصدق ينتقل بسرعة الى عقل و وجدان المشاهد مباشرة .

*

لوحات الجزار ذات ايحاءات سرياليةو رمزية و تعبيرية .. الى جانب كونها شديدة الواقعية .. يصيغها برؤية فنية نابعة من صميم البيئة الشعبية المصرية . نلمح تأثيرات من عصر النهضة الايطالية ، و تأثيرات من التراث المصري ، الفرعوني و القبطي و السلامي ، و تأثيرات من الفن الشعبي بزخارفه المستمدة من البيئة الشعبية ، بالاضافة الى التأثيرات الفنية العالمية .. السيريالية .. الرمزية .. التعبيرية .. و التجريدية … كان حريصاً على استقلاليته فلم يتقولب في أي من هذه المدارس الغربية .. و في نفس الوقت مستفيداً من منجزاتها الفنية .

لجأ الى تحريف و تشويه الأشكال للخروج من القوالب التقليدية الجامدة .. فجاءت أشكاله و عوالمه غير محددة .. ذات تراكيب خرافية تنتمي الى عالم مجهول .. بصياغة متفردة للتعبير عن عمق الواقع الحقيقي . امن منذ أن تبلور وعيه الفني بأن الفن ليس مجرد قوالب جامدة ، و صياغات تقليدية متواترة .. انما هو رسالة . فاهتم بالمضمون و حافظ على الجوانب التعبيرية دون أن يفقد علاقته بالواقع .. معطياً الفرصة للحوار بين الفنان و المتلقي .

*

عناصره غريبة و غير مألوفة .. دميات .. ثعابين .. سلاحف .. تماسيح .. سحالي .. قطط .. أسماك .. ديوك .. مفاتيح ضخمة .. أكف عجر مانعة للحسد ..شوم .. و زخارف شعبية تنتحي لعالم الشعوزة و السحر .. بشر متحجرون مستسلمون للقدر .. مجاذيب .. مهرجين .. حواة .. لاعبو سيرك شعبي .. فتوات .. غانيات .. خلفيات لوحاته مواد .. أضرحة .. أقبية رطبة .. تجميع غريب لعناصر أكثر غرابة أعطت لوحاته قوة و ايحاء و تأثير طاغ .

كان تصويره للطبقات المطحونة و المسحوقة و المقهورة .. و انغماسها في الطقوس الغريبة باعتبارها تجسيداً لمظاهر التخلف و الجهل .. معادل هروبي لقسوة الواقع و مأساويته .. تبلورت في لوحات المجنون الأخضر .. العين السحرية .. عربة السيرك .. اكل الحيات .. محاسيب السيدة .. الفارس .. تعويذة .. المولد .. تحضير الأرواح .. عصفور الجنة .. أبو أحمد الجبار .. المأساة .. قارىء الكف .. طقوس الزار .. الدراويش .. التعاويذ .. شواف الطالع .. و غيرها من اللوحات التي لم تخل من السخرية عن الواقع الأليم . كان يحاول تحرير هذه الطبقات المسحوقة بما فيها نفسه من العبودية و التخلف و ايصالها الى الحرية عبر الفن .. بتصويرها و التأكيد على حضورها .

*

اختلف النقاد حول سيريالية الجزار .. منهم من اعتبره سيريالياً ، و منهم من اعتبره واقعيا ً.فالناقد صبحي الشاروني يرى أن الجزار ” فنان سيريالي سار بالمذهب السريالي خطوات أبعد من التي قطعها ” دي كيريكو ” ، ” سلفادور دالي ” ، ” ايف تانجي ” ، ” بول ديلفو ” ، و بقية نجوم هذا الاتجاه . و يقول : ” أن سيريالية الجزار مصرية خالصة في المرحلة الوسطى التي صور فيها الأساطير و الحياة الشعبية ” .

أما الشاعر و الناقد ماجد يوسف ينفي وجود أية سيريالية في أعمال الجزار .. و يقول : ” هناك حقاً غرابة ، و لكنها غرابة واقعنا ليس الا .. فالسيريالية تخلق الصدفة من واقع علمي تماماً ، و ليس هناك رسم أوتوماتيكي عند الجزار كما نجده عند السيرياليين ، لذلك فلا مكان في أعماله لميتافيزيقيا من أي نوع . لهذا كان الجزار فنان الواقع المصري بحق ، و لأنه واقعي رفضنا أن نراه ” .