بقلم محمد كمال
تتفق معظم المراجع العلمية أن التعريف الدقيق للديمقراطية هو حكم الشعب بالشعب، وهو ما يؤكد أن حركة التاريخ ومعطيات الجغرافيا ودفء العقيدة هي ملك خالص للجماهير، وبما أن تلك العناصر هي المكون المعرفي الأساسي للشعوب، لذا فالتعريف المنطقي للثقافة فى هذا السياق هو تثقيف الشعب بالشعب، وعليه فإن الحركة الثقافية المصرية الآن هى الأحق بذلك الفعل الثوري الذى يدعو إلى امتلاك تراث الأمم بأيدى أهلها على المستويين العقلي والروحي.
وربما كان هذا هو جوهر ما فعله الفنان الكبير سعد زغلول بتشييده لمؤسسته الثقافية الخاصة بمدينة أسيوط، والتي تم افتتاحها يوم السادس عشر من إبريل الماضي، بحضور نخبة من نجوم الحركة الثقافية المصرية الذين تباروا فى مساندة المشروع واحتضانه بحب ولهفة وطنية بالغة، إضافة إلى ذلك الإلتفاف الجماهيري اللافت الذى أحاط الإحتفالية بوهج منير، حتى بدا المهرجان فى يومين متتابعين وكأن الإبداع المصري قد بدأ يعود من خلاله رويداً إلى حضن الجماعة الشعبية.
وأعتقد أن ما دعم هذا هو السمت الفكري الواضح لمنجز سعد زغلول، والذى تلخص فى الرؤية والرسالة والهدف، حيث ذكر فى مطوية الحدث أن المؤسسة تتطلع إلى مجتمع مصري يستكمل ملامحه الأساسية بوعي كامل لتاريخه وموروثه من القيم الإنسانية وإبداعاته فى الثقافة والفنون والصناعات والحرف اليدوية، علاوة على أن الفن رسالة والإنتاج ضرورة، على اعتبار أن العمل التطوعي والمشاركة الشعبية من ألزم ضرورات المرحلة، وهو ما يجعل رعاية كل المواهب الفنية من الأطفال والشباب نصب العين.
وقد أدى هذا بالضرورة إلى بلورة أهداف المؤسسة فى تنمية المجتمع الصعيدي وتشجيع التعاون والتنسيق مع المؤسسات الأهلية المشابهة، عبر الدراسات الميدانية والنظرية لرصد الحرف والصناعات التي اندثرت أو أوشكت على الإندثار .. وقد ظهر الكرنفال بالفعل متنوعاً وثرياً بعطاءات جماعية وفردية، حيث افتتحت الأمسية بمعرض تشكيلي ضخم ضم إبداعات لمجموعة من الحرفيين والمبدعين، مثل حسن جابر وجلال وهمان ووجدى رفعت ودعاء المراغى، علاوة على حرفيي جمعية أصالة بالقاهرة، والتى يرأسها الفنان والناقد الكبير عز الدين نجيب، إضافة إلى أبرز مافى العرض وهو جماعة ” بدايات ” التى ظللت تحت إسمها مجموعة واعدة من شباب الفنانين التشكيليين، مثل أحمد مجدى وعماد أبوجرين ومصطفى خضر ومي عبد الناصر ومعتز كمال وإيناس ضاحي وعاصم عبد العزيز وعلاء هريدي ودينا محمد، إضافة إلى الفنانين المخضرمين ممدوح الكوك ومنصور المنسي، ومن المسرحيين عماد علواني وعبد الله سعد ونور الدين جمال وضياء المضيرى، ومن الموسيقيين زكى فرغلى وأمير مرزوق ومايكل نبيل ومحمد فرغلي وياسر مرزوق، وهى الفرقة الموسيقية التى أحيت حفلاً تراثياً بديعاً عقب افتتاح المعرض الذى شهد كذلك عرضاً موازياً للفنانين سعد زغلول وبخيت فراج وعدلى رزق الله وهبة عنايت من أبناء أسيوط، والفنان عز الدين نجيب كضيف شرف وأحد المكرمين فى المهرجان، إضافة إلى مجموعة أخرى من فنانى أسيوط.
وعقب الإفتتاح أقيمت ندوة ساخنة تحت عنوان ” الفن والثقافة فى مصر بعد 25 يناير ” تحدث فيها الأساتذة عزالدين نجيب وسعد هجرس ود. محمد عبد الحافظ وكاتب هذه السطور، وأدارها د. محمد إبراهيم منصور، والمدهش أن الحضور كان مكثفاً ومتفاعلاً مع المحاضرين، خاصة وأن الطرح تناول الفساد فى الثلاثين سنة الماضية على الأصعدة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والإبداعية.
وقد تم التركيز على الجانب الثقافي، سيما سلوك فاروق حسنى خلال أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً خرب فيها الحركة الثقافية المصرية كما لم يحدث فى تاريخها من قبل، وقد اقترن الحوار ببعض إضاءات على المستقبل القادم فى حياة مصر بشكل عام، علاوة على إشارة كاتب هذه السطور للفنان رضا عبد الرحمن الذى كان أحد ضيوف المهرجان بصفته صاحب أول عمل تشكيلى عن الثورة ( هدير الثورة )، حيث طرحه فى ميدان التحرير يوم الثامن عشر من فبراير لتحتشد حوله جموع الجماهير، موقعين عليه بحمأة وطنية.
وفى هذا السياق ألقى المحاضرون الضوء على مشروع سعد زغلول كنواة لما يجب أن يكون فى الفترة الزمنية القادمة، وقد اختتمت الليلة بحفل لفرقة الموسيقى العربية بأسيوط تحت قيادة المايسترو حسام حسنى، تجلت من خلاله مجموعة مدهشة من المواهب الفذة.
أما اليوم التالى فقد كان أكثر توهجاً وجماهيرية، حيث بدأ بعرض لكورال أطفال أسيوط بقيادة المايسترو ناصر محمد، حيث جأروا بأعذب الأغانى الثورية المصرية، وأعقبهم تلك الأمسية الشعرية الملتهبة لمجموعة من كبار شعراء أسيوط، مثل درويش الأسيوطى الذى أدار المنصة باقتدار، والشعراء عزت الطيرى وسعد عبد الرحمن الذى تعامل مع الليلة كشاعر فقط وليس كرئيس لهيئة قصور الثقافة، إضافة إلى الشاعر الكبير ماجد يوسف والكاتب السياسى جمال أسعد، وعدد من شباب شعراء أسيوط، حيث انطلقوا جميعاً فى نثر بهجة الحرية الثورية على الحضور المتحمس الذى اشتعلت مشاعره أيضاً مع المطرب والملحن أحمد اسماعيل الذى استحضر التراث الثورى الوطنى للشاعر الكبير فؤاد حداد.
وخلال الأمسية تم تكريم ثلاثة من المبدعين الكبار هم الناقد والفنان عزالدين نجيب والشاعران درويش الأسيوطى وسعد عبد الرحمن، علاوة على أحد ضباط الشرطة الشرفاء الذين قدموا فعلاً استثنائياً فى حماية الأهل والممتلكات أثناء الثورة .. ومع نهاية هذا المهرجان المشرف كان فيض من الأفكار قد اختمر فى ذهنى، وبات حتمياً الإنتباه له، بل وإدخاله حيز التنفيذ، وهو ماأوجزه فى الآتى :
أولاً : أثبت المهرجان أن الكيان الأهلى يملك القدرة التنظيمية للفعل الثقافى وتكريم رموزه، وهو مابدا فى إصرار وإرادة الفنان سعد زغلول على إتمام الإحتفالية بهذا المظهر المشرف .
ثانياً : لم يقتصر الأمر عند الفعل المهرجانى فقط، بل كان مسنوداً بقاعدة إنطلاق فكرية تتمثل فى أهداف ورسالة المؤسسة التى أرسى دعائمها سعد زغلول .
ثالثاً : كشف الحدث عن قدرة على التواصل بين الأجيال، حيث ساند الشباب الأسيوطى هذا الكيان الوليد بحماس لافت تكامل مع خبرة الكبار .
رابعاً : لم يكن المهرجان معتمداً على الإبهار الإحتفائى بقدر ماكان مرتكناً إلى فعل إبداعى حقيقى فى معظم صنوف الفن .
خامساً : أكمل بهجة المهرجان ذلك التفاعل الجماهيرى الملحوظ على صعيدى الرعشة الوجدانية والوهج العقلى، بما أكمل الدائرة الإبداعية القائمة على البث والتلقى.
لذا ومن أجل كل ماسبق فإننا نخلص إلى حقيقة لاشك فيها، وهى أن العمل لابد وأن يتحول إلى نطاق المبادرة الشعبية، حيث الحراك الجماهيرى الفاعل الذى يحفظ ثقافة الأمة من التلاعب بمصيرها، خاصة أن الدولة لم تقدم إلا فشلاً جلياً فى العقود الأربعة الماضية التى كانت فيها الثقافة فى خدمة النظام الفاسد وليس الشعب المشتاق لتراثه الأصيل، لذا فقد أمست مؤسسة سعد زغلول بمثابة البشرى للإبداع المصرى بأنه سيعود رويداً إلى حضن الجماعة الشعبية .
محمد كمال
مقال من جريدة أخبار الأدب _ العدد 927 _ الأحد 1 مايو 2011 م