د. هبه الهواري
د. هبة الهواري
تابعت في مركز سعد زغلول الثقافي تجربة جماعة من شباب التشكيليين ،تميزت بالكثير من التميز و التفرد و سطوع الوعي و نضج القدرة على الإفصاح و التعبير عن المفاهيم الثقافية و السياسية التي تشغلهم باستخدام أدواتهم و تقنياتهم التشكيلية المتطورة و امتلاك ناصية التعامل مع الخامات المختلفة ،تساءل هؤلاء الشباب ماذا لو قمنا بحذف ثلاثين عاماً مضت من تاريخنا ؟ ماذا لو ألغينا تلك الفترة ؟ ماذا نكون وقتها ؟ ماذا نصبح و كيف نستمر ؟ هل نمتلك القدرة على هذا الحذف ؟ و هل يمكننا التخلص من كل مكوناتنا ؟ و نثور عليها و نتخلص من سلبياتها ؟ و كيف يتشكل مجتمعنا في مسيرة التاريخ ؟ ،معظم من شاركوا في هذا العرض هم لم يبلغوا الثلاثين بعد أو جاوزوها بقليل ، و ها هم يناقشون تاريخهم و وعيهم الذي تشكل في ظل نظام تم إسقاطه بواسطتهم ،و يسعون إلى بناء جديد سليم ، فيخلخلون بنيات وعيهم المترسخة المسلم بها و يطرحونها طرحاً شجاعاً للفحص و التحليل و التفكيك ، حتى تكون البداية أطهر ..أفضل ..أكثر وعياً ،يستخدم هؤلاء الشباب لغتهم ليمارسوا فعل الثورة و فعل التغيير و فعل التطهير و التخلص من لعنات الماضي الذي ساهم في تكوينهم على هذا الشكل و أضرم طاقة الوعي و الانفجار و الخلق من جديد .
وقد تجلت الأنماط الشكلية لفنونهم في وجودها “التجميعي ” والمجهز في الفراغ
Installation والاختزالي Minimal والأدائي Performance والبيئي Environmental والحدثي Happening وذلك بالإضافة إلى الأنماط والأشكال التقليدية كالتصوير المسطح والنحت.
كما ظهر لديهم ” Media Art” أي فن وسائط الاتصال كالسينما والفيديو والكمبيوتر والفوتوغرافيا والمطبوع ” الكتب والمجلات ” وكان ذلك بالطبع نتيجة لزيادة الوعي بدور تلك الوسائط في التفاعل مع الجمهور، وكان سعيهم حثيثاً لعدم المبالغة أو تعمد التعقيد أو التعالي على المشاهدين فجاء تعبيراً حميماً صادقاً ، أوصل رسالة الوعي المتحضر الثاقب و الثقافة و التمكن من أدوات التشكيل على مستوى احترافي ينافس في أي تجمع تشكيلي دولي.
فظهر التاريخ الحديث والتراث الاجتماعي الإنساني بوصفه المنبع والمثير للأفكارلدى هؤلاء الشباب ، فالذاكرة الإنسانية المصرية المكثفة في فترة الثلاثين عاماً الماضية بكل جزيئاتها التي شكلت قوى حاكمة في تعليم و ثقافة و وعي و إرادة هؤلاء الفنانين المتفردة التي يسطرها هذا المعرض : حيث أن صور الذاكرة غير مرئية وغير منظومة ، وقابلة لحث الخيال التصوري كأشكال مرئية لها ارتباط بتاريخ الفرد ومستقبله واستعادت فنون التعبير عن الواقع الحقيقي ذاته وليست صورة منه أو استعارة فالعودة إلي الأصول الطبيعية الخالصة هدف من أهدافهم ليس العودة إلي التقليدية ولكن هي تعبير عن اللحظة المعايشة الحقيقية دون مواربة أو تجميل ليثير المشاهد إلي البحث داخل عالمه الحقيقي الخاص.
و في عمل الفنان محمد عبد الله و عمله التجهيزي في الفراغ “إصدار محدود “،حيث يناقش مفهوم الانسحاق البشري و التسليع تحت سطوة النظم الجديدة ، فنراه وقد صنع للإنسان علبة كتلك التي تستخدم للمنتجات و الهواتف المحمولة و زودها بإضافات ترافق البشر المعلب في الصندوق المسيطر عليه سيطرة كاملة ،و الذي يبدو في التشكيل الذي نفذه على جدار الغرفة محيطاً بصندوق السلعة الضخم و كأنه منتج له مواصفات و طريقة استخدام و له نوعان ،و له لون و حجم و ربما ثمن أيضاً ،و احتياطات لتناوله ، هذه الصرخة التشكيلية المتقنة الصنع التي جأر بها محمد عبد الله و ضمنها رسالته المكتوبة و المصاحبة للعمل ، حيث كتب أن البشر أصبحوا يستهلكون ذواتهم و يستهلكون ما يحيط بهم وهم مسيرون مبرمجون مقموعون. كما تطالعنا في عمل الفنان أحمد عبد الفتاح و المسمى صفة سائدة (1981-2042) ، الذي قدم ثمثيلاً لرأس حمار ،أطلق عليه صفة سائدة ،و كأن التضليل و إفساد الوعي قد تسرب إلى تشكيل الجينات الوراثية للإنسان المصري ،
و هذا المجسم لرأس الحمار منفذ بقدرة فائقة على التشكيل ،و هو مكفن كالمومياء و يرقد في تابوت من الزجاج ،و هو قد ولد هكذا و سوف يظل هكذا يكبله الموات و الجهل و العماء و افترض له متوسط العمر البشري ،و أنه ولد في عام 81 و سوف يموت بنفس اللعنة حين يبلغ الستين ، تشكيل ساخر بمرارة و نقد الذات بحدة لطرد الفساد و غرس البذرات الصالحة ،وفي عمل الفنان تامر شاهين (قصاقيص) نرى استخدام الفوتوغرافيا و التوجه إلى أسلوب التشظي و التنافر و التراكب المزدوج الشفرات في تجميع لشرائح من الصور الفوتوغرافية لمنجزات من العمارة الإسلامية و العمارة الحديثة و العمارة العشوائية و المزج بين المتناقضات البصرية ، بين إفراز ثقافة العلم و التحرر و امتلاك الوعي ،و إفراز ثقافة الاستهلاك و الانسحاق و التغييب و سيادة القبح .
أما باسم يسري في عمله المسمى ” برلمان الثورة ” الذي شكل فيه على جدران القاعة رسومه التخطيطية بالخطوط السوداء السميكة ،واللينة المتصلة في بعض الأحيان المكونة للكتل فقط باستخدام الخط ،و كأنه يصور أبطال تلك المرحلة كأنهم عرائس ماريونت معلقة بخيوط واهية و مكونة من سطوح فارغة ليس لها أعماق ، تتردد في القاعة جمل بصورة ضاغطة على وعي المشاهد و هو في هذه الأثناء يرى ذوي الثقافة الشائهة السطحية ، الذين حتى الشعارات الرنانة التي يستخدمونها في تزييف الوعي الشعبي يطرحونها مكتوبة بلغة عربية مغلوطة ،و قد انتفخت بطونهم من شهوة الاستغلال و التضخم البشع ،و يراهم وقد استطالت أنوفهم كالعروس الخشبية الشهيرة في حواديت الأطفال الذي كلما كذب كلما استطالت أنفه .و في عمل إسلام كمال (دائرة معارف الشعب) الذي أسماه الإعلام الهادف و أضاف جملة إنجليزية معناها الإعلام الموجه ،
يطرح في هذا الفيديو الجميل المنفذ بإتقان و عمق مثير للإعجاب بوعي هذا الفنان يطرح فكرة التعود و الإدمان لفعل التلقي ، و الاستسلام للفرجة و اللا مشاركة ، في الحدث و ضمور الوعي و تشويهه و حصره في الاحتياجات البيولوجية و تكريسه لغرض البقاء و الحفاظ عليه بالقوة البدنية و الجنس و الطعام و الصراع المشوش الدائم المغيب للوعي ،
و يصاحب الأداء التمثيلي فسيفساء صوتية صممها بعناية الفنان إسلام ليصنع تناصاً صوتياً تشكيلياً ممزوج بالحنين إلى الماضي المجيد حيث كان محمد نوح يشدو مدد مدد شدي حيلك يا بلد ، ثم ينتقل برفق لبعض أعمال سيد حجاب مع عمار الشريعي ، المرتبطة في وعينا بالكثير من الذكريات و الأحداث السياسية الفارقة في تاريخنا ، أما الفنان أسامة داوود في عمله العالم الشامل نرى فكرة المجتمع المعلوماتي والعولمي والذي طمست فيه الحدود الفاصلة بين المجتمعات وبعضها، وكذلك الطبائع الإقليمية والخصوصيات من هنا زاد ميل الفنان في ذلك العصر إلي التحدي؛ للتعبير عن ذاتيته وشخصيته المتفردة حتى داخل الحدود الضيقة ” المكان ـ الزمان ـ اللغة “، و أرفق به نصاً له دلالات سياسية مضيئة ،
و في عمل أحمد السمرة (الصبية الغاضبة) و هو فيلم فيديو استفاد من لعبة شهيرة من لعب الأطفال المحببة في تجسيد فكرة الثورة المستمرة و هؤلاء الشباب المحافظون على نبتتهم الغضة من الضياع ومن السرقة و التسلق ، صور فكرته في تشكيل من الرسوم المتحركة المحببة القريبة جداً من وعي المشاهد ،و أوضح في نصه المصاحب أنه آن الأوان أن نتواصل مع الناس ،و أن نشكل فكرتنا بصورة جمالية مبهجة ،و قريبة من الناس الذين تعودوا منا ألا يفهموا فننا على الإطلاق ،أما محمد محسن فيطرح للنقاش و التساؤل فكرة (القسم) الذي يقوم بأدائه رئيس الجمهورية و يوجه المشاهد المتفاعل مع العمل و نص القسم و الواقف عند ذلك الخط الأحمر الذي وضعه على الأرض ، يناقش معك أنك قد تتحمل هذه المسئولية في وقت ما و تقسم هذا القسم في وقت ما ،و أننا الآن أمام شعوبنا قد أصبحنا بشراً عاديين و لم نعد منزهون مقدسون ، كما يتيح تكريسه لكلمات القسم للمشاهد أن يتأمل في كلماته و مفاهيمه المثالية النبيلة .
و في فوتوغرافيا متميزة نفذها الفنان أسامة عبد المنعم في عمله (GPS) و هو ما يطلق على نظام المراقبة و تحديد المواقع عن بعد عن طريق الأقمار الصناعية ، و يطرح في تصويره الملون و الذي استخدم فيه تقنية قديمة نوعاً حين لون النيجاتيف ثم طبع ، ثم عرض عمله على الجدار في صورة ضخمة لكوبري السادس من أكتوبر كمنجز من منجزات النظام السابق و قد بدأ في العصر السابق له ،و مبنى الحزب المنحل المحترق و الذي أنشئ في عصر يسبقه أيضاً و كان يرمز لمعنى مختلف كلية عن المعنى المتحقق حالياً حيث التقط أسامة لقطته البانورامية ، ثم يضع على الأرض صورة الأقمار الصناعية لنفس اللقطة و كأنها تلك الرؤية الفوقية المسيطرة الواعية ، الممثلة لعمق الرؤية و شمولها و الممثلة في نفس الوقت لوجود قوى تمتلك التقدم الإلكتروني و التكنولوجيا و المعلومات و النفاذ إلى عمق وجودنا في سطوة هائلة ،
يستخدم أسامة نظام الشفرة التشكيلية المزدوجة ،و التي تنبعث من العمل ، فكل عنصر من عناصره ينطلق منه شفرتين أو أكثر و هو مكون كذلك من ثنائية جدلية تثير العديد من الأفكار و التساؤلات و تصدح بنغمات تشكيلية كثيفة و موفقة إلى حد كبير.و الفنان محمد عز في عمله (خل عسكري كوكاكولا) يكرس فكرة تلك الرسالة التي أرسلها الشعب التونسي للشعب المصري ليؤازره و يشحذ وعيه و ينبهه لوسائل ميسورة و عبقرية في مواجهة القمع.و في عمل الفنان إبراهيم سعد (بيت الجمهورية) نلمح تعبيراً مفاهيمياً و تواجداً قوياً ينعكس أيضا في نشاطات أخرى كان للتوثيق دور كبير فيها. فيسجل الفنان نشاطه في صور فوتوغرافية كظاهرة لما سمي ” فن – عمل “، ويعتمد التوثيق على الصورة الفوتوغرافية والشريط التلفزيوني،
وهو من الوسائل المتبعة في المفاهيمية. أي الوسائل التي يتحول بفضلها مفهوم الفن ” كشيء مجسد ماديا ” إلى الفن كوسيلة إعلام ، حيث يزول العمل الفني بينما تبقي الذكري و ” يحل الاتصال محل الملكية “. أي أن العمل الفني الذي لم يعد يرتبط أو يدمج بأي أثر تزييني أو نظام معماري، يصبح تساؤلا أو يأخذ بعدا فكريا ونفسانيا جديدا، انطلاقا من التجربة المباشرة. حيث استخدم إبراهيم الفوتوغرافيا ببراعة مع المادة المصورة و الصوت في طرح الثورة الرومانية ضد شاوشيسكو و عرض مفهوم الثورة و تعرضها للضياع أو فقدان التوجه و المنجزات في ظل المقارنة بالتجربة الرومانية نفذها بحلول تشكيلية محكمة و مجمعة بعناية و قدرة متميزة على البحث والفحص و جمع المعلومة و استخدام الحشد المعلوماتي الوثائقي في التشكيل البصري لذلك الركن المشع بالدلالات و المفاهيم الذي سيطر عليه إبراهيم سعد تشكيلياً و مفاهيمياً بنجاح.
و في تجربة مشروع ربيع بلا قائد للفنان (مصطفى البنا) نرى فكرة لها ما يميزها من جدة و طرافة و تميز حيث سرد لفترة تاريخية ماضية هي عمره و حدد فيها الأحداث السياسية الفارقة ذات الدلالة و المؤثرة في تشكيل الوعي لجيله و الصانعة لضغط تراكمي وقّاد أدى في النهاية لقيام الثورة في الخامس و العشرين من يناير عام 2011 ،و أكد في نهاية سرده على معنى استمرارية الوعي و استمرارية الثورة ،و نفذ هذا السرد على جدران القاعة و على المحورين الرأسي و الأفقي بتشكيل بياني يرمز للسنين و الشهور و النقاط الملونة المميزة لكل حدث في سرده المكتوب على مدخل القاعة .
تحية احترام و تقدير لهؤلاء الشباب و لمركز سعد زغلول الثقافي هؤلاء الفنانون التشكيليون المصريون الذين توقفوا أمام الإنسان المصري في لحظة فارقة في تاريخه ، يجب فيها أن يعلن و بمنتهى القوة عن رغبته في البقاء و الوعي و الحرية ، فهو الآن لا يبحث عما ” يقول ” أو ” يفعل ” بقدر ما يبحث عن نفسه ويجد ذاته في ” القول ” أو ” الفعل “. ومن خلال ” العمل الفني ” الذي تخطي قاعة العرض ليشمل العالم، يعبر الفنان عن رغبته للدخول جسديا في العالم، بالانتقال من ” الشيء ” ( اللوحة ) إلى المدى المحيط به، مستبدلا إطار اللوحة بإطار الوجود الذي يقدم له مدي تشكيليا لا حدود له، ويتيح له القيام بتجربة حقيقية ومباشرة مع العالم.
د.هبة الهواري
****************************************************
نشر هذا المقال صباح الخميس السادس و العشرين من يناير 2012بجريدة نهضة مصر صفحة فنون جميلة
شكري و تقديري للدكتور رضا عبد الرحمن
و لأسرة تحرير نهضة مصر .
كما أشكر العزيزين الفنان أسامة عبد المنعم و الفنان إبراهيم سعد الذين ساعداني و أمداني بالمعلومات و الصور الفوتوغرافية المصاحبة للدراسة …لهما كل الشكر و التقدير
*****************************************