Home | فنون جميله | خصخصة الأوطان

خصخصة الأوطان

بقلم محمد كمال

لم أعرف فى حياتى أسمى ولاأرفع مقاماً من قدر الوطن ، حيث أجده هو الأعلى ولايعلو عليه إلا الله عز وجل ، وفى هذا المقام تذوب كل المؤسسات والأفراد فى حضن هذا الكيان المعنوى والمادى الكبير الذى يتواتر عليه حكام ومحكومون على مر الأزمان ، ويظل هو رمزاً حياً للتمسك بعرى الإنتماء ، لذا فإننى استهجن دائماً كل من يتاجر بإسمه أو يزايد عليه مهما بلغت مكانته ، بداية من البسطاء إلى الأمراء ، ومن السفهاء حتى الشهداء.

وقد كشفت الثورات العربية مؤخراً عن نزوع البعض نحو التفريط والبيع والمقايضة ، حتى خيل لى أننا نتجه إلى خصخصة الأوطان .. ولاأستثنى هنا مجالاً دون الآخر ، ولكن بطبيعة انتمائى المعرفى النوعى ، فإننى سأشير إلى تلك الظاهرة فى حركتنا الفنية والثقافية المصرية والعربية ، حيث لاحظت فى الآونة الأخيرة تحول بعض الفنانين إلى أعمال السمسرة وحصد الأموال بكل الطرق عبر إنشائهم لمهرجانات يشوبها تسويق الوهم لفنانين مشتاقين للتواجد والحضور بسبب القيادات الثقافية الإستبدادية التى أقصتهم عن المشهد من خلال الشللية الفجة.

وفى الحقيقة أنا لست ضد التجمعات الفنية الخاصة إطلاقاً ، ولكننى كنت ومازلت وسأظل مقاوماًِ عنيداً لانتحال بعض الأفراد لشخصية الدولة ، ومن وراء هذا القناع يقومون بعمليات نصب واحتيال على زملائهم من الفنانين الطامحين فى التحقق والتواجد كحق مشروع لاينازعهم فيه أحد ، والذين للأسف يقعون فريسة فى أيدى المتسلقين والإنتهازيين المتجردين من حمأة النخوة وصلابة المبادى

أما الباعث على الدهشة فهو أن هؤلاء الدجالين يستخدمون مسميات ذات ثقل وألفة على الآذان ، مثل ( سمبوزيوم _ بينالى _ ترينالى ) ، وهى إصطلاحات توحى بصفة العمل الدولى بكل واجباته والتزاماته ، ولكنه على العكس يكون فخاً للمهرولين دون تدقيق نحو ذلك السراب الذى يستثمره منشئوه فى جمع مايسمى بالإشتراكات لضمان اقتناص الغلة قبل اكتشاف الحقيقة المرة ، ثم بعد ذلك تتعرى الأشياء وتظهر خالصة من كل زيف.

وربما يكون مادفعنى إلى هذا الطرح الشائك هو ذلك الطوفان من الصراخ الذى ورد إلى صفحتى على الفيس بوك ، فى هيئة استغاثات من فنانين ينتمون إلى جنسيات عربية مختلفة ، منها ماهو على بريدى الخاص ، بينما الآخر فى صورة مدونات لمن وقعوا فى مصيدة النصب ، وفيها يجأرون بشكواهم بعدما كانوا بالأمس يفصحون عن فرحتهم ، وقد كان النصيب الأكبر من الريبة والغموض وإثارة غضب الكثيرين لفنان مصرى مقيم فى إحدى الدول الأوروبية ، حيث تخصص فى الإيحاء للرأى العام الفنى فى مصر وبعض الدول العربية أنه مندوبنا فى تلك الدولة التى تقيم سنوياً صالوناً شهيراً ، علاوة على عدم توقفه عن المزايدة القومية اللافتة ، وذكره فى كل مناسبة أنه يكافح من أجل وطنه العربى الكبير.

وعلى أثر هذا وقع عدد غير قليل من الفنانين المصريين والعرب فى مصيدته ، قبل أن يندفعوا الآن فى الإعراب عن شعورهم بالخداع والمرارة.

وقد ظللت طوال الفترة الماضية أرصد هذه الظاهرة المخجلة عن كثب ، وأجمع مايكفى من مواقف مشينة ، كان منها ماحكاه لى أحد النقاد العرب المعروفين عن تحايل نفس الشخص عليه بشكل فج ، إضافة إلى شروع بعض الفنانين فى بث شكواهم لى على بريدى الخاص الواحد تلو الآخر ، حتى أن أحد فنانى مصر الكبار أطلعنى على رسالة تليفونية أرسلها له هذا الشخص بعد خلاف دب بينهما عقب تقابلهما فى الدولة الأوروبية المشار إليها.

حيث يذكر فيها أن له فضلاً على مصر ( يانهار اسود ) ، وفى موضع آخر يقول أنه باع شقته للصرف على الجناح العربى فى المهرجان المذكور ( تخيلوا ياسادة هذا العار ) ، وبالطبع هذا هو مادفع بعضاً من أصدقائه المنتفعين بدجله للتأكيد بجسارة مضحكة أنه يضع مصر والوطن العربى على خريطة الفن العالمى ، ومن يعترض يلقى به فوراً فى خانة الحاقدين والمتآمرين.

إلى هذه الدرجة وصل التطاول على أوطاننا بتحريض من فرد لم يكن له ذكر فيها أصلاً ، أى أنه دخل هذا الحقل من النوافذ الخلفية .. ورغم هذا فقد كانت المصيبة الكبرى فى تدعيمه خلال الأعوام الماضية من وزارة الثقافة المصرية ، بداية من الوزير السابق فاروق حسنى ، ومروراً بالفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية السابق ، ونهاية بالوزير الحالى د عماد أبوغازى الذى افتتح له فعالية غريبة بالقاهرة تمت فيها إستعارة إسم ( بينالى القاهرة ).

ماكل هذه المراوغة التى تساهم فيها الدولة للأسف ، بما يشيد غطاءاً للممولين من الخارج وأصحاب مهارات المتاجرة بالمقام الرفيع للأوطان .. وهنا لاأشك أن الخطاب الحازم أمسى حتمياً مع عدة أطراف.

أولها هؤلاء المتاجرون باسم الأوطان أقول لهم .. إلزموا حجمكم ، ولاتظنوا أن العيون غافلة عنكم ، فالزيف يسود إلى حين ، ثم يصير كالعهن المنفوش.

وثانيها القائمون على إدارة المهرجانات التشكيلية فى أوروبا أقول لهم .. إن مصر وكل الأوطان العربية أكبر من التعامل معها عبر خدم موائدكم المشبوهة ، فلنا طرق شرعية تعرفونها جيداً ، وهى ماتليق بتاريخنا العريق فى الفنون والأداب والثقافة.

وثالثها زملائى وأصدقائى من الفنانين المصريين والعرب .. أرجوكم إحترموا مواهبكم ولاتلهثوا وراء الأضواء الخادعة ، لأنها فى النهاية لاتمثل إلا سراباً محتشداً بالوجع ، ومن يصر منكم على الإندفاع صوبها ، فلن نسمع بكاءه ثانية.

أما رابع تلك الأطراف فهى القيادات الثقافية فى مصر وأقطارنا العربية الغالية ، والذين أرجوهم أن يستذكروا تاريخ أوطانهم جيداً حتى يعرفوا قيمتها الحقيقية ، ليحفظوها فى وجدانهم ويصونوها فى عيونهم ، بعد أن يتيقنوا أنها غير قابلة للبيع أو السمسرة أو المساومة على كنوزها المعرفية والإبداعية ، إلا إذا كانوا قد اتفقوا جميعاً على السير قدماً نحو خصخصة الأوطان .

مقالات عن صالون الخريف الفرنسي:

Articles Salon d’Automne: