بقلم: د.هبه الهواري
في ظل عالمنا المفتوح بلا معالم ، المزدحم بلا رواسي ، المنشغل بلا قضايا ، المشوش باهتزازات براقة مغرية كسيولة المعرفة ، وسهولة تدفق المعلومات ، و مقولة الإنسان الكوني الجديد المحايد المتعدد الهوية ، وكوحدة المعرفة الإنسانية و سقوط أقنعة العقائد الماضية ، في ظل كل هذا تبقى مصر منذ فجرها وهي براح المبدعين والمفكرين ومزدهر المواهب والموهوبين ،مصرنا بوتقة تجمع الروافد وتصهر الجواهر في صلب معدنها النبيل الفريد .ومنذ ما اتخذت ٌسنة انفتاحنا على العالم التشكيلي من شرق وغرب وهي ترحب بكل وافد وتستقبل كل جديد في سماحة وسعة مجال ،وأصبح من السهل على أي تجمع أو أي جهة أيا كان أصلها أو تمويلها أو مقاصدها إقامة الأحداث والفعاليات والبيناليات البراقة ذات الجوائز والضيوف من كل حدب وصوب، حتى لو كان هذا الصوب مكروهاً ملوثاً منبوذا بعار تاريخي لا يمحوه جمال ولا مياه أي بحر : أحمر كان أو أبيض .
ونحن هنا نقيم حدثاً تشكيلياً مقاوماً للعماء ….للمراوحات …لفقدان الاتجاه .. نقيم هذا العرس لنتذكر ونذكر أبناءنا بتاريخ النصر والرفعة والنصوع ، بلحظة تعرف الإنسان المصري على ذاته الرفيعة الشجاعة التي تحققت بنصر أكتوبر المجيد .نعرض لأعمال تشكيلية تتغنى بالنصر لنكرس له ،تتغنى بمصر لنتذكرها، تتغنى بالروح الناهضة للإنسان المصري اليقظ المتنبه وليس المشوش المغيب ،في ظل عصر تميع فيه الحقائق وتتداخل الثوابت و تهتز المقدسات . و على الرغم أننا لا نجد غزارة في إنتاج الأعمال التشكيلية التي مجدت نصر أكتوبر كما حدث بعد العدوان الثلاثي على مصر في عام1956 ، لكن من حين إلي آخر كان يظهر في أعمال بعض الفنانين تعبير عن هذا النصر .
فنرى في ترحالنا التشكيلي الاحتفالي في صباح النصر حامد ندا و قد أبدع لوحته الرائعة في نفس عام الانتصار وهي حصان طروادة.: 135×128سم.أكريليك وزيت على خشب : متحف الفن الحديث.1973.حيث المسطح الغني الذي تسبح فيه أسرار الخلق الأول و آيات الوجود ؛فالفضاء التشكيلي النشط الموار بالوميض عند حامد ندا هنا ليس سديماً أو عماءً سيميوطيقياً كما قال أستاذنا د.محمد فكري الجزار : إنه –بالأحرى – الأيديولوجيا (السلطة) التي انتخبت ظاهرة أو شيئاً أو صورة مادية أو رمزاً و تناصاً أسطورياً كحصان طروادة ؛ لتلعب دور الدال ، أي لتنظم عالم الفكرة ، هذه الفكرة المتميعة غير المحددة التفاصيل و الحدود ، الثرية النابضة الحية بالتشكيل المفتوح الرحيب الذي يحلق بنا صوب المطلق …حيث يتسع المدى الرحيب بين يدي حامد ندا .. أو ما يصح تسميته ( بالسديم الدلالي ) .الذي يضعنا في إطاره و يشير لنا فنسري معه لنقيم في أذهاننا تلك العلاقة بين الدال – و المدلول ..الذي اختاره لنا باستخدامه أيقونة حصان طروادة كعنوان لعمله التشكيلي و التي كرس فيها لمفهوم الخداع الإستراتيجي للعدو وهو المعنى الذي يستدعيه اسم حصان طروادة فمن الصعب على العدو إصابته لكنه يحتوي في داخله كل أسباب النصر مجللة باسم الله والاستعانة بقوته جل جلاله ، هذا الحصان له صفات تشريحية مغايرة للطبيعة يشبه البراق الذي يظهر في اللوحات والمنتجات الشعبية ،حيث ربط الفنان بين رحلة البراق في الإسراء والمعراج وبين العبور من الهزيمة إلى النصر،والبراق مكتوب على جسمه نص الشهادتين ، ولفظ الجلالة يتكرر في الخلفية بجوار الهلال، شخوص سابحة في الملكوت بلا منتهى : نساء و رجال وأطفال و سمكة فوق رأس الطفل أشكال شبه دائرية تحيط مساحات غير مؤطرة ، ظلال على الأرضية توحي بمصدر الإضاءة ، التفاصيل تتلاشى في العمق، تتناثر العناصر دون تماثل و كأنها أطياف أو رموز تخلت عن ماديتها و لم يبقى سوى النزر اليسير الذي يشير إشارة خفية بليغة إلي كنهها .والخطوط رأسية في معظمها ليست حادة أو منكسرة بل منبسطة في سلاسة و منطقية.
أما التخطيط فيقسم اللوحة إلي ثلث و ثلثين 2:1 وأكبر مساحة تولدت من شكل الحصان محملاً بدلالات دينية أسطورية بها تلخيص شديد هو ما يتميز به أسلوب الفنان فعناصر لوحاته علامات نقية تعطي دلالات مكثفة،أما اللـون : فدرجات الأزرق الذي يميل إلي الرمادي ،واستخدام اللون الأحمر للفظ الجلالة و الشهادتين ، هو لون الدم و الفداء و الحياة الكامنة في حصان طروادة .درجة أصفر فاتح في الأرضية و الظلال ألوان توحي بالقدم و التاريخية كأنها ألوان مخطوط بدائي قديم .
الضـوء ينبع من خلف العناصر وهو غير محدد المصدر ولكنه يلقى ظلالاً تدل على سقوطه من أعلى اليمين. لا يعطي إحساساً بالتجسيم النحتي ولكنه يوحي إيحاءاً قوياً بالفراغ اللانهائي والامتداد أفقياً إلي نقطة الزوال الأقل إضاءة.والإيقــــاع الهادئ يتولد من التنوع في المساحات بين عناصر اللوحة، ومن تكرار اللون الأحمر في نغمات غير صاخبة. كما أقام حامد ندا احتفاليته المبهجة في مصريته ومفرداته التشكيلية ورموزه التي تميز بها في لوحة :”المنتصر”،زيت على أبلاكاش، متحف الفن الحديث، 1973 ، وفيها نرى حصان عربي راقص، مكتوب عليه لفظ المنتصر يمتطيه رجل وامرأة وطفلان : إذن فهي أسرة هي بذرة الحياة على الأرض ، والممسك باللجام طفل؛فالفنان يضع القيادة والمستقبل في يد الطفل ،والرجل يمسك بيده طائر ،والمرأة تمسك بيد الرجل، والطفل الأصغر يجلس بين الرجل والمرأة و يمسك برجل أبيه، خلفهم يقف شخصان :رجل وامرأة تمسك بيدها اليمنى مفتاح الحياة وباليسرى ثلاث بيضات وهي ملامح تراثية مصرية ، مع لوحة تشبه الصلايه . في الفن المصري القديم مسجل عليها عبارات النصر في أكتوبر 1973 ،في أعلى اللوحة نرى العين والأهرامات الثلاثة و قرص الشمس وشخص يتطلع من وراء السحب عند نهاية الأفق ينادينا بترانيم روح الشهيد ترفرف فوق الفرحين بالنصر. سحب وتهويمات لونية تزيد الجو الأسطوري.مع أولئك الذين يرفعون الورود وأكاليل الغارفي خطوط لينة منحنية فيها عضوية وفطرية وتجويد وتلخيص مع إهمال للتفاصيل.
إن التركيز على دلالة الشكل أو المعاني العامة هو من أهم السمات الأسلوبية التي تميز حامد ندا،حيث تفقد الملامح خصوصيتها وتتجه إلي المعاني الرئيسة فهذه علامة تدل على الرجل وتلك تدل على المرأة وهكذا تتخلى الأشياء عن ماديتها الشكلية إلى العلامة المميزة أو الدلالة المكثفة البليغة دون إطناب، والمجموعة اللونية السائدة في أعمال ندا توحي بالِقدم وكأنها رسوم الكهوف فيما قبل التاريخ حيث بهتت ألوانها وترسبت على جدرانها الأملاح.
و من ثم تظل مخلوقات حامد ندا تهرب من التفسير الواحد الوحيد ،إنها تظل قابلة لتعدد التفسيرات و التأويلات ،و تظل تروغ ، دائماً ،من الأسر في إطار ضيق أو محدد ،إنها تتبخر مثل السراب ، وتتجدد مثل طائر الفينيق الأسطوري على الرغم من أننا نظل ندركها على أنها الواقع ،لكنه يكون الواقع الخاص بها،كعمل فني ،أكثر من كونها “الواقع”كما نعرفه و ندركه في حياتنا اليومية العادية.
د.هبة الهواري
أكتوبر 2011
. تسجيل النصر مصري قديم على حجر*
****************************************************************
نشر هذا المقال بجريدة نهضة مصر بصفحة فنون جميلة
صباح الخميس السادس من أكتوبر
كل الشكر و التقدير و الاحترام لأسرة تحرير نهضة مصر ..
و للدكتور رضا عبد الرحمن مشرف الصفحة .
هبة