القميص.. والمقموص
ظللت دهورًا أتقمص شخصيات لأقوم بدورها الرائع الممتع: أبو زيد الهلالي سلامة أثناء انسيابه من ترانيم ربابة الراوي الممتزجة بانطلاق لسانه وملامح وجهه في الآفاق الصحراوية لمصارعة الزناتي خليفة, عنتر الفارس العتيد الذي احتواه جسد وكيان سراج منير تمثيلاً ليحقق حلمه – وحلمي أيضًا – في الوصول إلى عبلة, طرزان المتقافز مع أبناء الغابة بين أشجار تتراقص قرودًا تتحدى الرياح والأعاصير, ثم لم ألبث – مع التطور الفكري – أن هدأت خواطري في الإمعان الرقيق الدقيق في عذاب عماد حمدي لأتقمص دوره مع شادية وماري كويني, بعدها جذبتني تحية كاريوكا عدة ليال في سخونة أو عذوبة مواقفها المتوالية مع نجيب الريحاني وكمال الشناوي, وحاولت أن أتقمص أي دور ليوسف وهبي فاتضح لي أني لا أتوافق معه, وأن أسمهان كان يجب أن ترحل موتًا دون أن تتوافق معه أيضًا, وكان الأجدى أن أخرج على كل هؤلاء في الوادي الذي تقع فيه قريتنا – ديروط الشريف – لأزيح جانبًا عمر الشريف حتى انفرد بفاتن حمامة, والتي لم تلبث أن ابتسمت لي في حب أخوي لا يصلح ولا يتناسب مع ما أضمره, وكانت النخلات السبع تتهادى مع النسيم في ساحة بيتنا المبتسم فوق تعاريج البرك والمستنقعات خارج القرية, وبالتالي فقد نزعت عني قميص الأدوار كلها لأضطرب حين مشاهدتي لأفراد متسللة من الحقول: اللصوص والذئاب والثعالب والكلاب والنموس أو الأنماس (جمع نِمْس) مع إضافة القطط والضفادع والجرذان والعقارب والثعابين وبعض الطيور الشريرة, حيث لم ألبث – خروجًا على ما ارتديت من تقمص – أن بدأت أكتب خطابات غرام بديلاً لخيول وأشجار وأسلحة لا أمتلكها, ولا أجيد استعمالها إن امتلكتها, وهو ما أدى بي إلى أن أشعر بسخرية مريرة – ومريحة – إزاء كل ما مرّ في حياتي المبكرة – لفقداني الشجاعة والقدرة على المواجهة أو المداهمة في أكوام قمصان مهملة على شواطئ وصحارى وجبالي النفسية, دون أن أدرك أن الدابة حين تقمص فإن ذلك يعني أنها بدأت تنفر وترفض وتحتج على ما يجري, ثم لا تلبث أن تضرب الأرض بأرجلها, مع أن القمْص – في معنى آخر – كما جاء في المعجم – يؤدي إلى أنها تجري أو تعدو في مرح ونشاط, لكن البحر حين يقْمُص ضد سفينة فإنه يحركها بموجه المضطرب, تمهيدًا لأمور أخرى قد تحدث بسبب العواصف, ذلك أن التقمص في الماء يعني التقلب للانغماس – أي الغرق في الأعماق.
وأعظم قميص له دور إنساني مؤثر كان قميص النبي يوسف عليه السلام, حينما راودته عن نفسه زليخة زوجة العزيز التي هو في بيتها {ولقد همَّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدَّت قميصه من دبر}… (الآيتان 24 و25 من سورة يوسف). ومع أهمية العبرة الأخلاقية في حادثة قميص يوسف, فإن القيمة التعبيرية بالمفهوم الأدبي لا بدّ أن أقف أمامها كما حدث لي مرات من قبل, ذلك أن بعض كتّاب القصة أو الرواية كثيرًا ما يلجأون إلى وسائل تعبير بالغة الاستقطاب الفاحش, لأنواع من جماهير القراء لا يملكون الدروع والحصانة النفسية, حين يستقبلون – في حرية وشجاعة – مثل هذه المواقف, وهو ما يؤدي – في حالات عديدة – إلى تدخل السلطة القانونية حماية للأخلاق من تعبيرات وأحداث تؤذي المشاعر. ولو انتبهوا بشكل جيد إلى هذا الوصف الأنيق الراقي الذي ورد في القرآن الكريم, لأدركوا المعنى الحقيقي للتفاعل الأدبي الراقي أيضًا, دون النظر إلى تلك الشهرة التي قد تتحقق لهم بالأسلوب – عذرًا – الرخيص. ولعل معظم أشهر أدباء النصوص القصصية – في العالم العربي – وغير العربي – حققوا مجدهم بالانتباه الجيد للتعبير المشار إليه عن حادث قميص يوسف.
وعندما تشدد الفعل الماضي ليصبح (قمّص) فإنه المبالغة في التعبير عن حالتين متعارضتين: قَمَص القميص: أي ارتداه ولبسه. أما قمص فلانًا: أي ألبسه القميص. وخروجًا على القميص الذي هو ما يرتدى, فإنه القميص أيضًا غلاف القلب, والمشيمة تلتف حول الجنين, وكنا في زمن غابر قد شهدنا مرة أو مرتين بعض من انتصر على خصمه فألحق به إيذاء بطريقة استعراضية, حيث يكبله – أي يقيده – جالسًا على مسطح عربة, وقد خلع عنه قميصه ليلتف حول رقبته وجسده, وهو مشهد تخلصنا منه في بعض مجتمعاتنا منذ ما يقرب من نصف قرن, وكان يقال إن المنتصر قد وشم هذا المغلوب, واعتقدت أنها جاءت من الوصم لا الوشم, لكن وقوعي في لفظ المشيمة وأن مرادفها القميص يعيدني إليها الآن, لاسيما أن القمصة تعني مباشرة البعوضة حين تطير فوق الماء, بل إن المشيمة قد تأتي من الشامات التي هي علامة في البدن يخالف لونها اللون السائد في جلد صاحبها.
أما (التقامص) فإنه التسابق في الجري, وهو ما تعودنا على مشاهدته في مباريات العدو بين العدد الكبير من الشباب للوصول إلى الهدف, والقُمُّص بصفته أحد ذوي المراتب الدينية في الكنيسة المسيحية فإنما أصله اللغوي: القمس – بالسين لا بالصاد, واحتل وقع حرف الصاد محل حرف السين في النطق, ثم لم يلبث أن أصبح لفظ القُمُّص هو المعهود نطقًا وكتابة الآن, مع أنها وردت من اللغة اليونانية ومعناها (المدبّر), وهو أعلى من القس, وجمعه قمامصة, بصفته لفظًا منتشرًا في التناول المصري لبعض رجال الدين المسيحي.
لكن ما لم أجده في المعجم أن للقَمص معنى شعبيًا معروفًا, حيث يقال إن فلانا (انقمص – على وزن انفعل) أي فشل في تحقيق هدفه سلوكيًا, أو منطقيًا في التحاور, أي عدم إقناع الطرف الذي يود أن يستفيد منه, فيحس حينئذ بالألم والضيق والفشل, إنه ينقمص, وكثيرًا ما كنت أسمع واحدًا من ذوي الشأن ينبه من يشكو أن يستمع إليه جيدًا ولا ينقمص, وربما كان هذا الانقماص إحساسًا واردًا عند زليخة – زوجة العزيز – عندما باءت بالفشل في مسألة قميص يوسف, لنرث هذا الانقماص منفصلاً عن الحادث, أو هكذا يجب أن ننظر للأمور, كي نحافظ على هذا اللقب الذي نميل إلى إضفائه على من يتمكن من الهيمنة على منطقة عمل لنطلق عليه (أبو القمصان) دون أن ندري السبب, وحتى لا يظل أحدنا مقموصًا.
كلمات لها معنى
يا لهذا الجمال الرقيق الذي يشع من المياه الهادئة الساكنة, إياك أن تجعلها تستمر في سكونها, إياك…
أكثر الناس بعدًا عن كتابة الخطابات الغرامية المتألقة: من يكتبون المعاهدات الدولية.
مع أهمية علامات التعجب والاستغراب: يقوم القمر بدور مؤثر في قصص غرام الأصدقاء, مع أنه مذكر, والشمس مؤنثة.
الحديد والنحاس والألمنيوم, وحتى الرصاص والماغنسيوم والكوبالت واليورانيوم – وكل عناصر المعادن – تؤدي مهمات واضحة في الأرض والسقف والحوائط والفراش والنوافذ والمواقد والأفران, عدا الذهب, إنه لا يقوم بأي دور مؤثر في حياتنا, ولايزال الذهب هو الأكثر استمرارًا وشيوعًا, دعك من البلاتين فإن معظمنا لا علاقة له به.
محمد مستجاب