الفَصْـل
بين الخديعة والأدب والمناورة
أشدّ الأمور صعوبة في حياتك – دعك من حياتي الآن – تلك المحاولة الدائبة كي تنفصل عمّا يحدث حولك بعض الوقت, ثريّاً كنت أو فقيراً, بسبب هذه الفصائل المداهمة – أو المحاصرة – لك: عيال وأصوات ومسلسلات تلفزيونية وفصول باردة من أصدقاء ذوي نوايا حسنة دائماً, غير أن الأمر لن يكون بالغ الجودة إذا ما انتحيت جانباً ليغمرك السكون الهادئ, على ضفة نهر أو بحر أو محيط أو كتاب أو موسيقى أو إمعان في لوحة بالغة الرواء, أو وجه – ذي عيون متألقة لأنثى تود أن تسمع رأيك – وهي تتراقص – في تفصيل فستانها أو فصلها الدقيق بين حركة أهدابها, وما يدور في ذهنك, وهذا الفصل الدقيق هو نوع من الشحن الإنساني الحيوي الذي يصل أوجه الفن في انتقال حركة الحياة أو المسرحية – أو الرواية – أو الأمنيات من فصل إلى فصل, ولا تستطيع الجيوش – بأساطيلها ومدافعها وقنابلها وصواريخها وقدراتها المروعة أن تأخذ من الفصل: سوى الفصيلة – بعدها يمكن استخدام الفصل المُتعسّف – حين تريد القوى المسلحة – بين الشعوب وأمنياتها, أو حين يجد قائدها نفسه معزولاً أو مفصولاً يسعى لكتابة مذكراته بعد ذلك بعدة قرون, لتتحول الفصيلة – إلى فرقة أو لواء أو أي حشد عسكري من هذا القبيل.
وأول من وقع في مأزق الفصل (البارد) أبونا آدم مما أودى به – مع زوجته أمنّا حواء – إلى الهبوط من الفردوس الجميل إلى عالمنا الدنيوي المرهق, ثم ما كان بعد ذلك من فصول توالت ساخنة – ودموية أحياناً: فصل دماغ هابيل بيد أخيه قابيل حسداً أو حقداً أو غيظاً (وتفصيل الأمر لايزال مركّزاً في فعل القتل فقط, مما يعطيني حق التصوّر الأكثر عنفاً أو دموية, ولاسيما أنني من أبناء صعيد مصر), وهناك الفصل التاريخي المؤثر – والذي مازالت أمة المسلمين تدفع ثمنه حتى الآن – حين قام عمرو بن العاص بدوره الماكر في التحكيم الذي خلع فيه أبو موسى الأشعري سيدنا علي بن أبي طالب, لكن ابن العاص قام بتثبيت معاوية بن أبي سفيان, وربما كان هذا الفصل هو جوهر كثير من العلاقات الدولية وموائد المباحثات, فقد كان السفير الياباني – في أواخر الحرب العالمية الثانية – يقدم حسن النوايا للرئيس الأمريكي في واشنطن, في الوقت الذي كانت الطائرات اليابانية تدمّر ميناء بيرل هاربور. كما أن إسرائيل ظلت تصرخ في أنحاء العالم طالبة إنقاذها من عبدالناصر, حتى أنها أقامت مجموعة من الخيام في بعض الأقطار الأوربية – والأمريكية – أشهرها مخيّم كندا في أوتاوا ومونتريال, في الوقت الذي شنّت فيه قواتها المسلحة هجومها الشهير على مصر ثم سوريا في 5 يونيو 1967, وقبل ذلك يظل مكر شيلوك المرابي الشهير في (تاجر البندقية) إشارة إلى إدراك وليم شكسبير لمعنى المؤامرة الأوسع من مجرد التحايل, وهو ما استفاد منه الألماني العظيم جوته في ملحمته (رينار الثعلب) ثم في مسرحيته الشهيرة (فاوست), وربما كان كل ذلك راجعاً إلى هذا الفصل الذي مارسه يهوذا في العشاء الأخير الذي أتاح لكل أعداء سيدنا عيسى القبض عليه كي تصل فصول العذاب إلى أقصى درجات الألم العظيم, علينا أن نوقف هذا التيار اللافح من تلك الفصول الآن, كي نستنشق الهواء – أو النسيم – في فصول (فيفالدى) الموسيقية, والتي تحملنا إلى أطياف الربى بين الخريف والشتاء ثم الربيع المتألق, فالصيف الذي قد لا يتيح لك السباحة, فتكتفي بأن تضع قدميك على حافة تيار البحر قبل أن يصبح موجاً على نغمات الكمان العاصفة – رغم رقتها, حينئذ نتذكر مجلة (الفصول) التي أصدرها محمد زكي عبدالقادر أوائل الأربعينيات, وكان من كتابها الراحل فتحي غانم, أما (فصول) التي تصدر الآن والتي ي ترأس تحريرها الدكتور جابر عصفور, فإنما هي حديثة تواكب الاتجاهات الأدبية والفكرية المعاصرة, وقد بدأت في الصدور عام 1980, رعاها الله وحال بينها وبين ما يحدث من فصول للمجلات التي من هذه الفصيلة عادة, وفي البلاد العربية بالذات.
وأمور الفصل بكل أنواعها تخترق تكوينات عالم الأحياء في العهود الحالية, الفصل من الخدمة أو الوظيفة أو بين الأطفال وآبائهم – بالواقع أو بالأحكام القضائية, ثم (القرقرة) – والتي قد لا تجد لها أثراً في المعاجم اللغوية وتعني الفصل بين حبوب القمح أو الفول أو الشعير, وبين الشوائب بعد عملية التذرية (بالمذراة) التي تفصل بين التبن والحبوب, وفصل الأقاليم عن الأوطان بالحروب أو الثورات أو المباحثات التي تخضع لسياسة المفاصلة, تلك المفاصلة التي تعتبر جزءاً من المساومة الشهيرة بين البائع والمشتري – حيث لم تستطع أوامر تحديد الأسعار من وقفها حتى الآن, أمي – مثلاً – لا يريحها أبداً أن تشتري ما تريده دون الفصال الذي تمارسه مع الباعة المتجولين, فيحقق لها إحساساً بالفوز والانتصار, في القماش بالذات الذي تقوم بعد ذلك بتفصيله ثياباً لها دون اهتمام بالمحلات التي يلجأ إليها الآخرون المعاصرون: تفصيلاً وتجهيزاً وخياطة, ثم هناك التفصيل الذي يعني التبيين والتوضيح {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه} سورة يونس. ثم {ما كان حديثاً يُفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء} سورة يوسف, والفاصل هو الحاكم {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين} سورة الأنعام, والفصال يعني العظام {وفصاله في عامين} سورة لقمان. ويوم الفصل هو يوم الحساب – أي يوم القيامة {هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذّبون} سورة الصافات. والمفصّلات هي المبينات الموضحات, كما أن المفصّلات – في حياتنا الآن – هي الرابط بين جزأين أحدهما أو كليهما متحرك كما هو معروف في مصاريع الأبواب والنوافذ, وربما جاء لفظها من ربط المفاصل أو الفصول, لاحظ أن بعض فصول المسرحيات كانت تحتوي على نوع من الأداء الموسيقي أو التمثيلي القصير فور انتهاء فصل والتمهيد لفصل جديد, أما المفاصل, فلا تخرج كثيراً عن المفصلات, إلا أنها كادت تتركز في التكوين المرن الذي يربط الأعضاء العظمية في الأحياء, مع أن كثيراً من ترع مصر – في الصعيد بالذات – يطلق عليها المفصل, وربما تكون وظيفتها تحديد ما بين أسماء الأحواض الواسعة في الحقول – وهي غير الأحواض الصغيرة, وهو ما يدفعنا إلى الانتباه الحديدي لمعنى الفصيلة في أنواع الأحياء, حيث تنقسم البرمائيات – مثلاً – إلى فصائل التماسيح والضفادع وسمندل الماء, رجاء عدم التدقيق في ذ لك حتى لا ترتعد مفصلاتي من عدم الإلمام الجيد بهذا الموضوع.
وسوف تترى أمور كثيرة – ومتناقضة – إذا ظللنا واقعين تحت سطوة مادة الفصل: جمعاً أو تقسيماً أو تحديداً أو متابعة لمعانيها الشعبية أو التراثية أو المعجمية, فالفصل – في مثل هذه الأمور – يحتاج إلى دقة فصل الجلد عن اللحوم, دعك الآن من فصل فروة الرأس عن الجمجمة.
محمد مستجاب