الــجُــب
نحن – أبناء الريف – يستدرجنا لفظ (الجبّ) إلى أعماق الرعب, فإن كانت هذه البئر العميقة تمثل الأمل للعطشان في الصحارى, فإنها في مناطق الأنهار ترتبط بصنوف من الانتقام تؤدي إلى ما حدث لي شخصيا حينما أخرجوا جسد ابن البطران – الصبي – من عمق البئر, فظل كامناً في جوانحي وفي تصوراتي وفي قصصي. وسوف تلاحظ أن الجب طغى على تأنيث البئر وجعلني أسقط في قاع الاضطراب اللغوي. ومازلت أرتاح للموروث عن النبي يوسف – عليه السلام – الذي قال قائل من إخوته: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب , حتى جاءت سيارة – أي مجموعة من السائرين المسافرين – لتنقذه, وتتحرك بعدها حكايته من الجب لتصل إلى ذروتها الممتعة مع (زليخة) ثم أغوار السجن ثم النجاة مرة أخرى. وليس من السهل أن يحدث ذلك لكل من يقع في الجب الريفي لعدم اللجوء إلى هذا النوع من الأعماق لاستحضار ماء يفيض في الجداول والترع والجوابي, والجوابي – هنا – جمع قسري للجابية التي تكون البحيرة الصغيرة أو البركة التي ينهل منها الشادوف المياه في إيقاع موسيقي يثير الشجن والرغبة في الشدو والغناء أكثر من السواقي والمحاريث. ومع ذلك فإن الشادوف سيظل رهين المعاجم حيث نطلق عليه – وربما لهذا السبب – لفظ العود. وبرغم رغبتي العارمة أن أستظل بالعود الذي على الجابية – دون العودة للجب ـ فإن الضمير اللغوي (المستتر أو المعلن) يجعلني أشير إلى أن الجابية تتوافق صوتياً ومعنوياً مع الجب إلاّ أنها تختلف في المصدر اللغوي (جاب – و – جبّ) وهذا شائع في حالات عديدة أخشى أن يبتلعني عمقها دون أن تتاح لي فرصة إنقاذي من بعض السيارة الذين لا ينتبهون لمثل هذا السلوك الراقي في عصرنا الراهن, حيث لا فرق بين الجب والجابية والجبّانة. وكما تعلم – أطال الله عمرك – فإن الجبانة هي المدافن – التي تؤوي أجسادنا بعد أن يحل الأجل, وللجبّانة اسم آخر أقرب إلى الأجساد هي الأجداث.
إلاّ أن الجب ليس مجرد بئر, ففور أن تفتح الجيم بدلاً من ضمها لتصبح (الجَبّ) تواجه (القطع), ومنه جاء الحديث الشريف (إن الإسلام يجب ما قبله), أي يقطع ويمحو ما كان قبله من الكفر والذنوب. والجب أيضا: الاستئصال, في الأعضاء على وجه الخصوص كالأذرع والسيقان. ولا أعتقد أن هذا الجب يصلح للرقبة – أي العنق – والمخ – أي العقل, لكن النباتات – النخيل بالذات – ترتاح لاستخدام الجب في التلقيح دون القطع والبتر, مع أن اللبن حين يجبّ – أي يصيبه الجُباب (رجاء ضم الجيم) يعني أنه أصبح أكثر دسامة بهذه الطبقة الناعمة المعروفة التي تعلوه. وربما تكون هذه الدسامة وراء الجبة: هذا الثوب السابغ: أي الفاخر واسع الكمين المفتوح أو المشقوق من الأمام (عذراً: ما كان لي أن أشرح لكم الجُبّة). وهناك جبة أخرى من نوع مختلف تفصل بين حبوب العدس البني الغامق لدرجة السواد والعدس الأصفر, والعدس أبو جُبّة له لذة لا مثيل لها في المأكولات مع أهمية محتوياته ذات الطاقة الكامنة التي تفح بالدفء – والحرارة – في عز الشتاء, ونحن في مصر لا نأكله في الصيف أبداً, وكثير من المشاكل أو التصادم العائلي يكون وراءه الاغتذاء المبكر صباحاً بالعدس ذي الجبّة, إنه استنتاج شخصي من واقع شخصي. عليك ألا تجوب هذه المنطقة الآن, حتى لا أضطر إلى الزج بك إلى الجيب: سواء كان جيب الزاوية في علوم الرياضة, أو جيبك الخاص في مجالات الصرف والإنفاق – أي النفقة – والإغداق أيضا, أعرف – مرة أخرى – أن العلاقة بين جيبك والجب صوتية فقط, وهذا خير من اصطحابك إلى عالم الجباية القديم (وزارة المالية بما فيها من مكوس وضرائب الآن), أو سيارة المغامرات الصحراوية من طراز (جب), أو جب الباحث اللغوي الاسكتلندي (السير هاملتون ألكسندر روسكن جب) الذي ولد في الإسكندرية بمصر إلاّ أنه تعلم في (أدنبرة), حيث أصبح – بعد رحلة مثابرة علمية – رئيساً لقسم الدراسات العربية في جامعة اكسفورد, ووضع كتباً عدة في هذا المجال, مثل: مقدمة في الأدب العربي, ومختارات من رحلة ابن بطوطة, والاتجاهات الإسلامية الحديثة, والمحمّدية, حضارة الإسلام, وقد رحل عن عالمنا عام 1971 بعد أن أصبح عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة, وأعتقد أن السير هاملتون جبّ يصلح نهاية مريحة للخروج من أي جب آخر
كلمات لها معنى
إنه مرض نفسي يخصني: لا أحب أن أنظر في وجوه السياسيين أثناء إلقاء خطبهم, لكن الاضطراب الناجم عن لغة الخطابة يعيدني فوراً إلى وجوههم, اللجوء إلى الفراش أو الشارع أفضل.
الدنيا على كف عفريت, هناك كف أخرى لاتزال شاغرة.
التاريخ يحب الجغرافيا, إنها العلاقة الزوجية الأبدية, دعك من الحضارات والمدن المندثرة, عليك أن تستريح – كما هو حادث الآن – تحت ظلال الأطلال.
حول جلستي على النجيل – أقصد البساط الأخضر – ظلت حفيداتي الصغيرات يتقافزن سعيدات, وما كاد عمهن – الذي هو ابني النشيط – يظهر في الأفق حتى هجرنني لأجلس وحيدا.
ستظل العسعسة صفة لليل فقط, أما النهار فلا حواس له
محمد مسـتجاب