Home | فنون جميله | العيال – محمد مستجاب

العيال – محمد مستجاب

العيال

فور أن تتأزّم الأمور, وأحس بالاختناق, تداهمني رغبة أن أصبح العيّل الذي يتوقف مخّه عند حدود معينة من الإدراك, فيريح ويستريح, وهي رغبة سريّة لا يعلن عنها أحد, فإذ بنا نفاجأ بمن يمدح واحداً من كبار الأصدقاء بأنه طفل, أي أنه بريء نقي لا تشوب أفكاره وسلوكه أي ذرات شريرة, ومع ذلك فإنك لا تستطيع – ولا يجوز – أن تصف الشخص نفسه ذا النيات الحسنة بأنه (عيّل), لسبب بسيط نمارسه في تلقائية دون إدراك عقلي: الطفل لفظ مهذب تميل إليه الثقافة المعهودة, أما العيّل فإن محاولة استخدامه تصبح شائكة, ولذا فقد ظهرت مجلات ومطبوعات وقصص الأطفال دون العيال, كما أن برامج الأطفال تطفح فوق ذبذبات محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون وتسجيلات الفيديو وألحان الموسيقيين وحناجر المغنين, دون أن يقترب هذا العالم الطفولي من العيال بالمرة, مع أن الإمعان في المسألة سوف يضعنا أمام حقيقة واضحة: إن الطفل- من الناحية الذهنية والسلوكية – وكل القدرات الغامضة أو الواضحة الأخرى – لا يرقى لمستوى فهم أو إدراك ما يقدم له باستخدام اسمه, الطفل هو الوليد الذي بدأ يستشرف اكتمال العام الأول من عمره, وسيظل طفلاً عامين أو ثلاثة – أو أربعة – ليبدأ بعدها مرحلة أن يصبح العيّل ذا الصبيانية المرنة المدركة لبعض ما يدور حوله, لكننا لا نتخلى أبداً عن كونه طفلاً, مع أن العيّل الذي يستخدم لفظه في الكلام والتوصيف يملأ معاجم اللغة وحكايات الأجداد وروح المداعبة, أو التخفيف من قوة العقاب, أو إثارة الإشفاق على من يكون عائلاً – أو أباً للعيال, أو الإعجاب الشديد للعائل نفسه أبي العيال حينما يقوم بعمل يثير الدهشة بصفته كبير العائلة – أي العائل الأكبر لها بما فيها من عيال – مهما كبروا – فهم هكذا بالنسبة إليه, دون أن ترد على اللسان وفي ألفاظ المصطلحات أي إشارات عن الأطفال, هؤلاء الأطفال الذين تهتم بهم كل ما أشرت إليه من مطبوعات وأغاني وتسجيلات دون العيال بالمرة.

فإذا كان العائل عيل صبره – أي نفد من إرهاق العيال أو الأمور أو النوائب أو البلايا, فإنه يعول – مرة أخرى – أي رفع صوته بالبكاء والنحيب, فإن انتقل الفعل خارج الإنسان إلى الميزان – مثلاً – فعال الميزان: أي اختلت كفتاه فمالت إحداهما هبوطاً وارتفـعت الأخـرى , إشارة إلى خلل التقدير أو العدل. فإذا عال فلان في الميزان تصبح الجملة تعني مباشرة (الخيانة المقصودة). وعال السهم: مال عن الهدف فلم يصبه, والقاموس اللغوي توقف عند السهم مع أن (العوْل) في عصرنا القائم يستولي على أنواع عدة من السهام الحديثة كطلقات الرصاص والصواريخ, فإن عال أمر القوم: اشتدّ وعظم وأصبح نموذجها إسرائيل ومَن يقف وراءها أو أمامها, وعندما تعول الأنصباء – في تقسيم الميراث – دخلها العول: أي خلل الظلم والميل عن الحق, وهو ما لم يقع فيه معظمنا لانتفاء ما يمكن تقسيمه من الميراث حيث لا يبقى إلاّ الأمل في الستر – وهو ما لا يخضع للعول المشار إليه.

لكن المعنى لا يلبث أن يعود إلى العائل – ليس فقط فيما يقوم به من تغطية حاجات عياله من الطعام والكساء والمسكن والرعاية, بل عندما يعوّل على شخص آخر: أي يعتمد عليه في شئون لا تخضع الأسرة – أو العائلة – لها على وجه اليقين, يقال: عوّلنا على فلان فوجدناه نعم المعوّل, فإذا عوّلت على الحرب أو السفر أو الانتقام أو التراحم أو الصبر أو الخداع أو المناورة أو مائدة المباحثات أو التغابي – افتعال الغباء – فإنك بدأت توطّد وتوطّن نفسك على أيّ منها – أو عليها كلها…!!

ونأمل ألا تزعم أنك العائل الوحيد المرهق في هذا العالم, فهناك نباتات عائلة تعتمد عليها نباتات أخرى – طفيلية – تستمد منها غذاءها وتشب على أكتافها, مثل نبات الفول الذي يتطفّل الهالوك على جذوره, ألم تلاحظ أننا استخدمنا (طفيلي – و يتطفّل) وهي ألفاظ قادمة من الطفل دون العيّل?? وألا يدعونا هذا إلى التفكير في ذلك العائل – الذي هو واحد منّا – حيث يعيش علينا كائن آخر – متطفلاً أيضاً – يستمد منّا غذاءه? إنه دودة البلهارسيا والإنكلستوما والاسكارس, لكن – وبرغم ذلك – فإننا نفخر بأن فلانا (عوْل) لنا, أي أنه كبيرنا وعمدتنا – كما جاء في القاموس, وبالتالي فإن لفظ العوالة – الذي لم يرد في ما بين أيدينا من مراجع – يصبح جديراً بالاهتمام, فقد تردد لفظ (العوالة) في أعلى جنوب مصر صفة للمتطفل الذي يعتمد في حياته على الآخرين, وهي المرة الثالثة التي يعود فيها الطفل في مزاحمة المعنى الصادر من العيّل حتى لو كان عوالة. أما العويل – وهو غير البكاء والنحيب – فإنه ذلك الشريط الذي يتشبّع بالسوائل في المصابيح القديمة – هل تذكرها?! – لكي تسري فيه إلى منطقة الاشتعال, ومن المؤسف أن هذا العويل لم يرد أيضاً في الكتب, لكن الذي جاء آخر الأمر وأثارني هو المعول: تلك الأداة من الحديد ينقر بها في الصخر, إنها نهاية لم أكن أرغب فيها بسبب انتشار المعاول في المناطق القاسية, ليست المحاجر فقط, بل وفي السجون أيضاً.

العودة إلى العيال – أي أن أكون عيّلاً – عند الوصول إلى مثل هذه الأمور أفضل.

كلمات لها معنى

جريمة كاملة ثابتة الأركان, واضحة الشهود, لم تقدم – حتى الآن – لمحاكمة مرتكبها, قتل الوقت.

حتى في المخلوقات غير الآدمية: عيون الأنثى لها وميض خاص, وذكاء خاص أيضاً.

جرّب أن تصعد جبلاً, وأن تسترخي ممعناً في الآفاق الممتدة, إحساس غامر بالطهارة والنقاء, أو الأمل فيهما.

الذهب والماس: إنهما الوحيدان القادران على السعي الدائب حتى يصلا إلى عنق الأنثى, ثم يبدآن في البريق.

بعد أن تكون رسالة تسعى إلى غلاف – أي ظـرف – تحتمي به, تتحوّل إلى غلاف – أي ظرف – بالغ الخشونة, أنا لا أقصد زوجتك.

محمد مستجاب