Home | فنون جميله | إشكاليات النقد التشكيلي العربي بين المحاباة والتبعية والتجديد

إشكاليات النقد التشكيلي العربي بين المحاباة والتبعية والتجديد

موسى الخميسي – روما

لم تكن العلاقة بين الفنان التشكيلي والناقد المتخصص طيبة كثيرا في ايامنا هذه، ذلك لان الناقد ليس في نظر الفنان الا شخصاً قصارى همه ان يعيد انتاج ما افتقده في حياته، يجمع في احكامه الجارفة الكثير من الخشونة وعدم المعرفة، كما ان الفنان في نظر الناقد ليس الا شخصاً يحمل الكثير من الطيش والغرور والكثير من الجهالة وفقدان الخيال والمعرفة في عمله الفني.
ومن سوء الحظ بين هذين الميدانين، ان تكون هاتان التهمتان صحيحتين في كثير من الاحيان، فكثير من نقادنا العرب يفتقدون الى المعرفة في فهم اللغة التصويرية، و قليل منهم حرصوا على الجمع بين ممارسة الفن وكتابة النقد، وقليل من فنانينا اسهم بقسط من الخيال الاصيل في معرفة عمله الفني، كما ان عدداً قليلاً جدا من النقاد أسدوا يدا طولى للعملية الفنية وجمعوا بين العلم الوافر والخيال السديد والاطلاع الواسع.

ان بعضاً من دارسي الفن التشكيلي وناقديه عندنا لم يجازفوا للاسف بالدخول الى طبيعة الذاكرة والخيال عند الفنان، وان يكون لهم بعض الاهتمام السايكولوجي في معالجتهم المحتويات المادية والحلمية لعمل الفنان، اذ تقتصر معالجاتهم على الجانب اللغوي، كون اغلبهم جاء من الادب، اما ما يسمى بالمستوى الكامن والمتمثل بالرموز فانهم يبتعدون عنه بسبب جهل واحيانا شطط، ومجاوزة للدقة في مواطن العمل الفني.
في العمل الفني اشياء اخرى الى جانب البيئة التي نما فيها، هي فردية الفنان ومشاعره وموروثه الفيزيولوجي والثقافي والمعرفي، اذ لايمكن اسقاط الموهبة الفردية، ولكن ايضا، العمل الفني لاينزل من السماء، ولا يتمتع بالارادة المطلقة ، فالتجارب الجمالية للفنان غير معزولة عن سائر التجارب الانسانية، وهو ايضا ليس مجرد معرفة او تعميم للواقع، وانما هو تعبير مكثف ومؤثر عن التجارب العاطفية الانسانية، انه نشاط عاطفي حي ومتقد، مبني على التأمل الحسي للموضوع، وهو ايضا حالة شعورية او لاشعورية، قد يتقاسمها الفنان مع جملة من الناس، كما قد تخصه دون سواه، تفضي احيانا الى تصور ما لواقع معين له مفاهيمه وصوره ولغته الخاصة، لغة يكونها النقد او الكتابة التحليلية والنظرية، التي قد تفضي بدورها الى اتجاه فني يعكس نمط حياة بكل مكوناته، وعليه فالعمل الفني متورط في ازمات الحياة وتقلباتها، عمل مندمج في النسيج اليومي وفاعل فيه، عمل يتجاوز مفاهيم سطحية كثيرة.

ان كل منتج تتحتم فيه عديد من الامور المتشابكة في حياتنا غير القادرة على الانفكاك منها، ومهمة الناقد كما قالها الشاعر الانكليزي اليوت” توضيح الفن وتصحيح الذوق”وهذه المقولة تطرح عددا من الاسئلة المبنية على المقارنة والتحليل، على اساس ابداعي وليس اتباعياً، تكمن في معظم الاحوال عن ماهية العمل الفني اولا من حيث علاقته بحياة الفنان، وماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه، وماذا يؤدي للمتلقي، ودور الناقد الفني الذي يريد اعمالا فنية متميزة على الدوام ويريد فنانا مستمعا، فانه يقدم ملاحظاته لمساعدة المتلقي على فهم وتذوق العمل، وهو يساعد الفنان في فهم طبيعة عمله وتقويمه، ليعينه في ايقاظ الاحساس بالمعرفة.

وهذا يشترط بالناقد امتلاك صور مجازية متعددة حين يقف امام عمل الفنان، كما يشترط امتلاكه الاحساس المرهف ونفاذ البصيرة النقدية وقوة الاحساس والذكاء والمعرفة والمهارة وايضا القدرة على الكتابة. فعمل الناقد كما وصفه احد النقاد الغربيين هو مثل من يرش الارض بالسماد من اجل حصاد طيب. الناقد يجب ان يحرص على نشر مثل هذا السماد بخلق مراجعة ثقافتنا النقدية وتضييق الهوة بين الفنان ووظيفة الناقد، ووضع همزة وصل بين العمل الفني وتقويمه الى متذوقيه اولا، بدون تعسف وبدون محاباة ولكن بحيادية تدعو الجميع الى الاقتراب للعمل الفني، مع اننا ندرك بصعوبة الارتقاء الى هذا العمل في احيان كثيرة، الا ان الناقد عليه ان يبتعد عن منح الاحكام او تقديم الاطراءات الساذجة، وقطع المسافات الشاسعة في الكتابة لاجل خلق التباين والبحث عن التشابه مع اذواق البعض، فالعملية الفنية هي بالاساس عملية تقويم اخلاقي للتجربة الانسانية بواسطة تقنيات تجعل من الممكن اجراء تقويم نقدي، فما دام الفن اخلاقياً لابد من ان يكون النقد مثله بالضرورة كما يقول الناقد فراي، ولا يتحقق مثل هذا الطموح الا من خلال مطالبة المشاهد للعمل الفني ان يشارك في اضفاء كل الدلائل على العمل الذي يراه، اي بمعنى اخر اشراك الجمهور المتلقي في العثور على المعنى الذي بالكاد يكون احيانا مخبوءا في ثنايا العمل، اذ لم يعد هناك من يقين في الفن المعاصر، فالعلاقة بين الفن والطبيعة اصبحت علاقة اشكالية، ولم تعد فنون اليوم قادرة على تحقيق توقعاتنا الساذجة فيما يتعلق بفن التصوير كما افرزته فترة عصر النهضة، كما لم يعد بمقدرونا ان نسأل عن المضمون الذي يحتويه العمل الفني ، فنحن جميعا نقاداً ومتلقين نعرف تماما حيرة الفنان الذي يلجأ الى تجريد اشكاله وتفكيكها في الوقت الذي نطلب منه ان يمدنا بعنوان لفظي لعمله الفني الذي ينتصب امامنا، فالعلاقة الكلاسيكية القديمة بين الطبيعة والفن، علاقة المحاكاة, لم تعد سارية المفعول في زمننا الحاضر.

كما على الناقد العربي ان يروض الذائقة الجمالية لجمهوره وان يتخلى وللابد عن مقولات تشمل ضرورة وجود نظرية عربية جمالية وخزان بصري عربي وهجمات غربية على الفن العربي، فهذه تقسيمات تعسفية تعيق وتربك حرية العمل الابداعي ، وتكسر اجواء التعاطي المطلوب مع المنتج العالمي، اذ لاخوف علينا من العبور الى كل بقع الابداع المضاءة والموجودة في كل مكان، ان جوهر حقيقة العالم الفني ، هو كشف للحقيقة في كل مكان بفعل الحضور الدائم للفنان، فالانفتاح يزيد الفن غرابته وتنمو وحدته ويتعاظم تفرده ليخرج عن المعتاد.
النقد يتوجه على الدوام نحو المستقبل، ويخاطب الحاضر برؤية مستقبلية، والناقد التشكيلي يجب ان يكون ضد النموذج والنمطية وان يظل مرتبطا بالافكار المبدعة، والتي تستخلص من العمل الفني نفسه ومن اجتهاد الفنان وقدرته على التقاط المشاهد او الظواهر قبل ظهورها والتي نمر بها كمتلقين من دون القدرة على اكتشافها او حتى الانتباه اليها. كما ان النقد قادر الى حد كبيرعلى خلق وعي فني متوخى، ولئن عجز العمل الفني احيانا عن ايصال المشاهد الى خلق تذوق الجمال الفني والاحساس به بكونه ارفع مكانة من الجمال الطبيعي حسب اعتقاد (هيغل) لانه من ابداع الروح ونتاج الحرية، وما هو من انتاج الروح اسمى من الطبيعة.
والمنهج ضروري للناقد لانه اولا يكشف لنا عن ازمة وعينا الجمالي الاغترابي الذي اصبح ينظر الى الفن باعتباره شكلا جماليا منعزلا ومستقلا عن سائر اشكال حياتنا الانسانية، وثانيا فانه تمهيد مدخل جيد ورؤية عميقة للفن ترتكز على ثلاثة مفاهيم هي: التفسير والفهم والحوار، وثالثا فانه ينظم عمله ويرتبه ويحضر من خلاله عمل الفنان ليضع له حلا بما يملك ويليق من خيال بصري بدون تأويلات متحذلقة وبدون نظريات وطروحات تحولت بمرور الزمن الى ايقونات مدرسية تظهر انحيازها القلق الى عقل المتلقي، ذلك ان الافتراضات الساذجة بان العمل الفني يعد مشهدا يشبه ذلك المشهد الذي نراه يوميا في خبرتنا بالطبيعة او بالطبيعة التي يشكلها الانسان، هو افتراض قد تم تقويضه من الاساس بشكل واضح، فنحن لم يعد بمقدورنا ان نشاهد لوحة تكعيبية او لوحة لاموضوعية بلمحة واحدة وبنظرة سلبية فحسب، اذ يجب ان نشارك بانفسنا مشاركة فعالة ونحاول جاهدين ان نركب الاشكال التخطيطية للاسطح المختلفة على نحو ما تظهر على نسيج اللوحة، فعندئذ فقط ربما امكن ان نصبح مأخوذين وان نتسامى بفعل الانسجام والنظام العميق في عمل ما.
وعلى الناقد الاستفادة من مناهج النقد الغربي في التحليل والدرس، لانه ضرورة فرضتها المراحل التي نما فيها الفن التشكيلي الغربي، فالناقد الغربي استطاع ان يغني نفسه وفكره بوفرة ما توفر له من تاريخ عريق تأسس على رؤية معاصرة لم تلغ السابق تماما، بل سعى الناقد في فهم الحداثة في الفن للافادة منها لخلق روح تتوسط بين ما هو موروث وبين افق الحداثة التي اطلقت النار على الفن التقليدي وآلياته المتبعة وموضوعاته وما واجهه من عمليات تحديث في ضوء منظور تطوري جمالي مستند لقاعدة من القيم الفكرية بعيدا عن دراما الملحمية المعتادة في الفنون التي جاءت بعد عصر النهضة.