ياسر منجي، تشكيل الوعي ومراسم الصعود


يسطع يقيني أن الأرض تؤذي الأنبياء وأن صعود الرموز وترسيم القديسين لا يكون إلا ببذل الثمن الفادح وأن اليرقة الصغيرة الغافلة ما إن يضيء وعيها بقدرتها على التحليق وما إن يبرق النور في أوصالها حتى تخلع عنها قيود الجسد وتهب نفسها للنور، ترتل آيات اليقين. وعلمت أن للصعود طقوساً و قرابين كتبت مواثيقها بالدماء، هذا الكأس الذي ابتهل ابن الإنسان أن يجزه الرب عنه، ما زال يدور و ما زال يعلق على الخشبة كل يوم كصاحب مبدأ و كل صاحب رسالة و كل صاحب معجزة، و طوبى لمن امتلك الوعي و اليقين.

((وأما أنتم فطوبي لعيونكم لأنها تبصر؛ لأنها تسمع. الحق أقول لكم إن كثيرا من الأنبياء والصديقين تمنوا أن يروا ما تبصرون فلم يروا، وأن يسمعوا ما تسمعون)) إنجيل متى.

لم تتشكل إيزيس إلا بالألم ولملمة أوصال الحبيب، لم تر قنوت إلى قبة السماء إلا وقد طالها الصدع الأليم، لم يكن اصطفاء أم النور إلا لهو لا لمكابدة على هذه الأرض، وما كانت أم العواجز رمزاً وأيقونة ورئيسة للديوان ومجمعاً للحيارى والمساكين إلا بعد أن احتضنت الرأس الظمآن في كربلاء.

أقرأ اليوم معرضاً للفن التشكيلي للفنان الجرافيكي و الأديب والناقد و المؤرخ د. ياسر منجي و الذي أقيم بقاعة العرض بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة، حيث يعمل الفنان على تشكيل الوعي السياسي الاجتماعي و استخلاص روحها الفاعلة و تجلياته بتجسيد و إعادة طرح شخصية نسائية ظهرت على الساحة في مصر والعالم أجمع و باتت رمزاً للثورة، و أيقونة للتمرد و علامة أبدية على الصمود في وجه الطغيان، هذه الفتاة المصرية التي تمت إهانتها و انتهاك قدسية جسدها في أحداث مجلس الوزراء و التي عرفت باسم “ست البنات ” .

يقدم الفنان ياسر منجي “ست البنات” و قد تحولت إلى أيقونة في تسلسلات للظهور و إشراقات للتجلي في الوعي المصري و الإنساني عبر رمزية اللون الأزرق الذي أصبح مرتبطاً باسمها بعد أن انكشف للعالم عن طريق كل وسائل الإعلام لون حمالة الصدر الخاصة بست البنات، حيث تتغلغل العلامة اللونية لحمالة الصدر الزرقاء و تتغلغل عبر التاريخ الإنساني كله في أعمال تشكيلية كتب لها الخلود و كما كانت تلك الأعمال و على مر العصور رموزاً بصرية و تحمل دلالات و معان خالدة و راسخة و تظل تسري في الوجود، أصبحت ست البنات والتي صاغ لها المنجي أيقونة زرقاء من نسيجها النبيل، استعار شيء منها و أطلقها في سماء الخلود و نثر اللون الأزرق في كل وثائق الوعي البشري التي استطاع تشكيلها. فهي تتجلى تحت وطأة السحق والقهر في سلسلة تطور الإنسان الأول حين كان يرقى منشبيه القرد إلى المفكر الفنان ثم هبط به ياسر حين انحط ومارس القمع والانتهاك.

ويقاوم الفنان ياسر منجي تلك القواعد والآليات المراوغة التي تسعي إلى تهميش عناصر التغير الثوري، وتغييب الوعي بها، وطمسها وتشويهها حتى تستمر آليات الواقع الراهن في سيطرتها وفاعليتها الرامية إلى ترسيخ علاقات القوة السائدة. فيكرس الفنان المعنى المقدس لست البنات ويثبته اعترافاً واحتراماً وتشكيلاً صحياً للوعي وتصويباً للمفاهيم ومن هنا فإن الاعتراف أو الوعي بالتغير لا يقل أهمية عن مختلف مكونات هذا التغير الاجتماعية والتاريخية والنفسية والاقتصادية، ودور هذه المكونات في منح هذا التغير كينونته الفاعلة.” ومن ثم يصبح الفن التشكيلي جزءً من وعي البشر وأداة تكوين هذا الوعي وطريقاً صافياً للمعرفة الحقة. وها هي تسكن القبة السماوية وتصاعد عند النجوم والكواكب و تقترن بالزودياك القديم، و ها هي نوت قد اكتست بالزرقة المقدسة التي صاحبت بصرياً خلق أيقونة ست البنات.

وقد تكونت تجربة المعرض من شقين رئيسين، هما عمل من أعمال الفيديو آرت مدته سبع دقائق، تم فيه الاشتغال على رمزيات اللون الأزرق ودلالات الصورة في علاقتها ببعض الرموز السياسية والثقافية الدولية، في تفاعل مع عناصر صوتية وموسيقية لبعض الأغاني المحلية المعروفة ذات الدلالات التاريخية في الثقافة المصرية. كما تم توظيف العنصر الكتابي في الفيلم على هيئة عبارات وامضة تظهر أحياناً على شكل شريط إخباري، وأحياناً على شكل ومضات لا تلبث أن تتلاشى

أما الشق الثاني فهو مجموعة الأعمال – مجموعها 26 عمل – وهي تمثل حولي 20% من مجموع الأعمال الكلية التي أنتجها الفنان ياسر منجي انفعالاً بهذه الحادثة، وجميعها من إنتاج العام الماضي2012 ، وهي قرابة 116 عمل، و كما رأينا أثر المنجي ألا تتخذ أعماله ثوب الانفعال المتسرع تحت وطأة الحدث و تحت تأثير الإعلام و مارس انتظاراً محموداً و صبراً جميلاً لتختمر الأفكار و تنضج ،والأعمال جميعها منتَجة بوسائط الكمبيوترجرافيك وبرامجه الرقمية .

و حينما يحيلنا ياسر منجي إلى وجود ما ..إلى وثيقة ما ..ويدفع إلى ساحة التفاعل و التلقي الإبداعي بتقنية من تقنيات فنون ما بعد الحداثة و هي التوثيق و استخدام الكيانات الأيقونية ذات الدلالات المميزة و المرتبطة لدينا بوجودها العيني (أعمال تشكيلية اكتسبت الأيقونية الدلالية) ،و وجودها الذهني واللفظي و أيضاً الكتابي ، فهو حين نسج كيان ” ست البنات ” مع طبقات متتالية و في حفريات متأصلة شديدة العمق في جذور الوعي البصري الإنساني ككل و ليس المصري وحسب ، فكما كان القصد السلبي لمعاقبة الفتاة و كل الفتيات معها هو الفضيحة فقد استخدم ياسر فعل النشر الأفقي و الكثيف العميق للفكرة و للشخصية من جانبه الإيجابي النشط و بدلاً من الفضيحة و الخزي أشرقت العلامة في خلود و ذيوع بديع، و هو يحيلنا إلى قاموس بعينه وترددات لقيم اجتماعية و سياسية محددة ، و لكنها ثرية و متعددة الأوجه و تزدحم فيها الدلالات.

فقد التحمت ست البنات بضحايا النضال و السعي نحو الحرية في مجابهة الظالمين في لوحة الحرية الشهيرة ليوجين ديلاكروا، فليس هناك ارتباط ثابت بين الدال و المدلول كما يذهب بارت فالإشارات التي أطلقها ياسر منجي: تعوم سابحة لتغري المدلولات إليها لتنبثق معها وتصبح جميعاً (دوالاً) أخرى ثانوية متضاعفة لتجلب إليها مدلولات مركبة و هذا حرر الكلمة و أطلق عتاقها لتكون (إشارة حرة)، فمفهوم الملاحقة و الاشتباه وانعدام الثقة الذي قدمه الفنان كل هذه المفاهيم المنبعثة من أيقونته الأنثوية ،قد تنسحب لمعنى أوسع و أشمل وقد تنطبق على سلطة أكبر و أعمق، قد تتخطى كل المطروح على الساحة من مستويات سياسية و اجتماعية إلى مفاهيم ومدلولات فلسفية وجودية أيضاً. كما تفجر وجودها في لوحة جويا الثالث من مايو بين الثوار وبين القوات الغاشمة وتحت وطأة القتال.

وهي تمثل حالة حضور لأن الكلمة موجودة أمامنا في العمل الفني. ولكن المدلول يمثل حالة (غياب) لأنه يعتمد على ذهن المتلقي لإحضاره إلى دنيا الإشارة. وهذه العلاقة لا تنشأ إلا بفعل المتلقي الذي يؤسس هذه العلاقة ويقيمها بين الدال والمدلول وهي ما يسمى بالدلالة. ومن هنا صار الوجود اللوني الأزرق لحمالة الصدر هو الأساس للحضور الذهني. وهذا يؤسس في النفس قيمة الوجود السياسي والإنساني وخطورة إشعاعاتها الثرية، وهنا جعلنا ياسر منتجين للعمل التشكيلي ولسنا مستهلكين متلقين فقط، أوجدنا في ساحة التلقي التشكيلي الذهني النشط .

ومن آليات الثقافة الإنسانية الأساسية تحويل الأشياء الطبيعية إلى ظواهر سيميوطيقية. ولكل ثقافة نظامها السيميوطيقي الخاص، تحدد نفسها من خلاله كما تحكم على الآخر: فكل من يوجد داخل حيز هذا النظام فهو منها، وكل خارج عنه فهو آخر، و يعمل ياسر منجي هنا على عملية اتصال تشكيلية كونية، بحيث يكون فعل التلقي في أي مكان من العالم: نشطاً و واعياً، فالشفرات التي استخدمها لا تختص بثقافة بعينها أوقومية ضيقة بل تشمل العالم ككل و ترتحل بنا عبر المدى الرحيب للفنون التشكيلية.

ولقد تعامل ياسر منجي مع العمل الإبداعي من داخل بنيته ، ولم يخرج عنها إلا في حالات محددة لربط هذه البنية بالنظام الذي تنتمي إليه و بأيقونة اللون الأزرق و شخصية ست البنات، بوصفها إشعاعة خاصة من إشعاعات الثورة المصرية أو مع اللوحة بوصفها تشكيلاً خاصا لأيقونوجرافيات الثقافة المنتجة، فيدفعنا الفنان ياسر منجي علي مستوي التفسير لأيقوناته التشكيلية إلي الخروج من نطاق خصوصية العمل الإبداعي الذاتية ، التي تجلت في أعمال كبار الفنانين التشكيليين العالميين كرامبرانت و بيكاسو في الجرونيكا والمصريين كفتاة محمود سعيد الشهيرة وأعمال التراث الإسلامي والمصري القديم والفارسي و في ما بين النهرين في محاولة لربطه بحلقات أوسع في إطار كل من حلقات الثقافة المنتجة و الثقافة المغلفة و النسيج المكتمل منهما.

ولقد تولد مفهوم الثقافة الوطنية المصرية في إطار كوني إنساني مكتمل من الثقافات البشرية متحرراً من سياق المواجهة والعدائية وصراع الحضارات متعدياً فكرة الهيمنة الثقافية إلى فكرة التنوع البشري الخلاق والنسيج الجمالي الأصيل في النفس البشرية. وحين بثها لنا ياسر منجي في طبقات الوعي التشكيلي البشري قديماً وحديثاً؛ فهو قد أكد وجودها واستقلالها، واستشرف أفقاً جديداً للعلاقة مع الآخر، وذلك في سياق مضاد انطوى على عمليات عقلية، كان الهدف الأول منها نفي الحضور المغترب للـ “أنا” في مواجهة “الآخر” الذي قهرها استعمارياً على مستويات متعددة.

و حين نفحص العملية التركيبية لدى ياسر منجي في خضم قصدياته المتعددة فيتناول بطلته الأيقونة “ست البنات ” و في عملية غرسها في جذور الوعي البشري كله عبر التاريخ ؛ و عبر الذاكرة الجمعية الشعبية المصرية في صورة أم كلثوم و منديل يدها و طه حسين و نظارته ،و محمد أبو سويلم – محمود المليجي- في فيلم الأرض ، و شخصية المحرر الأيرلندي ويليام والاس و قد اصطبغ وجهه بلون أيقونتها الزرقاء و رمز القتال و صرخة الحرية الأبدية، فنجد ما طرح ياسر حينما لجأ الى تركيب و تعقيد خطوط سريان البث البصري بمزج ست البنات بتيار الفن التشكيلي منذ بدايته ،و ذلك بممارسة عمليات صياغة تكثيفية و إزاحة واعية مبنية على دقة الاختيار و تركيز العناصر المضافة دون ثرثرة تشكيلية، حيث تتضاغط وتتكثف صور كثيرة اختزنها ياسر في اللاوعي من الواقع، وحيث تزيح صور بعينها صورا أخرى وتحل مكانها، وباستخدام الفنان لهاتين الفكرتين –التكثيف و الإزاحة –يتم خلق كلا من المجاز والاستعارة والكناية التشكيلية كما يحدث في مفردات اللغة المنطوقة ،وتشحن الرموز التشكيلية بالدلالة الجديدة الفذة باستخدام مفردات وتراكيب و خامات و علامات التنغيم اللوني ، حتى لو تجلت هذه الشحنة الجمالية الدلالية في شخصيات الرسوم المتحركة المحببة و المنتج الاستهلاكي الممتزج بوجودنا اليومي الحميم .

د. هبة الهواري