fenon

عن الفن والدين | دكتور مصطفى محمود

الفن والدين كلاهما يتنافسان على القلب .. وما أكثر ما أصابت الغيرة رجال الدين فرموا الفن والفنانين بالكفر. وما أكثر ما تصالح الاثنان فانضوى الفن خادماً للدين يرسم له المحاريب ويزين السقوف وينحت التماثيل ويرتل الأناشيد .وفى مصر مشرق الحضارة والأديان كانت مسيرة الفن والدين واحدة.

شيد الفن للدين المعابد والأهرامات والمسلات وأبدع له الأغانى والتراتيل، وصمم له الرقصات، وكان موكب جمال وزينة لرجال الكهنوت. وفى كنائس الفاتيكان أبدعت ريشة ميكائيل أنجلو ورفاييل فى رسم الجدران والسقوف وتألق فن البناء القوطى فى بناء الأبراج، وفى العصر الإسلامى إذدهرت العمارة والزخرفة.

ووصف القرآن الشعراء فقال إنهم قوم يهيمون فى كل واد، وأنهم أهل غواية ولكن منهم الصالحون المؤمنون.

” وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) “

فلم يرفض القرآن الشعر ولا الفن بإطلاقه وإنما جعل من الفنانين فريقين .. فريقاً من أهل الكذب، وفريقا من أهل الصدق والإيمان، فأقام بذلك موازين ثابتة للحكم على الفن وتقييمه.

ثم جاء بعد ذلك أهل التطرف والمغالاة فحاربوا فن الرسم والتصوير والنحت وحرموه على إطلاقه، كما حرموا الموسيقى والغناء والرقص. وسمعنا اليوم من يقول إن السينما حرام على إطلاقها، كما أن المسرح حرام والتليفزيون حرام وكلها موجات من التطرف والتعصب لا أساس لها فى قرآن أو عقيدة. وكلنا نعلم من السيرة أن النبى عليه الصلاة والسلام أستمع إلى شعر الخنساء وإستزاده وأستحسنه. كما أن القرآن فرق بين الفن الهابط والفن العالى، وهو ميزان ينطبق على كل فروع الفن.

وفي الموسيقى هناك السيمفوني الذى يحرك الوجدان وهناك موسيقى الجاز التى تحرك الغرائز، وفن المسرح هناك مسرح العبرة والحكمة والعظة، وهناك مسرح الهزليات والنكات الرخيصة .. وفى السينما هناك الفيلم التاريخى والفيلم العلمى والفيلم التسجيلى، وهناك الدراما العظيمة التى تربي وتعلم كما أن هناك أفلام الإثارة الهابطة والبورنوجرافى الفاحش. وفى الأغنية القصيد الجميل كما أن هناك الأغنية السوقية العارية.

كما أن تحريم الرسم والتصوير والنحت قياساً على ما جاء من أحاديث نبوية فى هذا الباب قياسى خاطئ، فالنبى حرم الصور والتماثيل لأنها تعبد وتتخذ فى البيوت آلهة. أما الآن فلا أحد يعيد صورة ولا أحد يسجد لتمثال.

ثم دعونا ننظر إلى آيات صنعة الله فى الطبيعة. ألا نراه قد خلق طيوراً تغنى، وعصافير تغرد، وخيولاً ترقص؟ ألا نراه قد رسم أجنحة الفراش وزخرف الطواويس ونحت أجسام الحيتان وعرائس البحر كأنها الغواصات فى انسيابها وجمالها؟ ثم تعالوا نسأل:

ماذا تفعل بنا مشاهدة مسرحية لشكسبير أو الاستماع إلى سيمفونية لبيتهوفن أو رؤية باليه بحيرة البجع؟

هل تنحط بنا هذه الفنون أو ترتفع؟

هل تستحضر فى الذهن شهوات غريزية أو تستحضر خيالات ملائكية ومعارف إلهية؟

إن الفن الراقى يقيم معبداً للجمال فى القلب. وهل ربنا إلا الجمال والكمال والحق والخير.

إن القرآن على ترفعه وقداسته قد روى لنا جانباً جنسياً من حكاية يوسف وامرأة العزيز، وكيف غلقت إمرأة العزيز الأبواب وقالت هيت لك، وكيف همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، وكيف وجدوا أن قميصه قطع من دبر فعلموا من ذلك أنها هى التى روادته عن نفسه. ولكنها كانت لمحة خاطفة للعبرة لم يعمد القرآن فيها إلى إضافة أو تفصيل أو تجسيد، وهذا مثال ومقياس نفهم منه أنه يمكن أن تتطرق الرواية إلى الجانب الجنسى فتلمح وتوجز بالإشارة الخاطفة ودون إفاضة وتجسيد وتفصيل وإثارة فلا يتنافى هذا مع جلال الهدف وجمال الأثر.

ومع ذلك نفهم من آيات الله فى كتابه ومن آيات الله فى كونه أن الفن والجمال كالعلم والفكر نشاط إنسانى محمود وعظيم وأنه من آثار نفخة الله الربانية فى آدم ونسله، وهى النفخة الروحية التى استوجبت سجود الملائكة وتسخر الكون لهذا المخلوق من طين.

“إنى خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين”

أما الغلاة والمتطرفون الذين يريدون تحريم كل الفنون على إطلاقها فهم من يردون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. ويأبى الله إلا أن يتم نوره. وهم الجاحدون بنعمة الله حقا. أو لعلها الغيرة من دائرة الضوء التى يقف فيها الفنان محاطاً بجمهوره. أو لعلها الفتنة التى تورثت الفنان والغرور فتهبط به فى رفيف الملائكة إلى وسواس الشياطين. وكل الواقفون فى دائرة الضوء معرضون لدوار الرءوس وغواية النفوس إلا من عصم ربك. ولكن تبقى قضية الفنان وعيوبه قضية أخرى غير قضية الفن ومكانه.

فقد بدأ الإنسان يرسم ويصور من بدايات العصر الحجرى فكان فنه علامة على إنسانيتة ولا يزال. والفنان مهما طوحت به الأهواء والشهوات تراه ساعة يمسك القلم قد تجرد وتحول إلى راهب متبتل راعش القلب ساجد الفؤاد. ولاغرابة فى ذلك فمدد الدين والفن من عين واحدة، هى العين التى تنورت بها كل المظاهر وهى العين التى إخضرت بها الصحارى وإذدهرت الحياة وأضاءت النجوم وإبتسم الوليد وغرد الكروان.

الفنان ورجل الدين كلاهما يأخذان من يد واحدة. إنما يسقط الفنان حينما يتصور أنه يأتى به من عند نفسه .. وتلك هى بداية الغواية.

فصل من كتاب: “نار تحت الرماد”  للدكتور مصطفى محمود

PhD. Mostafa Mahmoud

تم تصحيح بعض الأخطاء الإملائيه دون التغيير في جوهر النص ولم تبدل كلمة مما قد نسخ من مقال منشور على أحد المواقع. خالد الصحصاح