fenon

السمعة السيئة للفن المعاصر

نتساءل يوميا عن تعريف محدد للفن المعاصر ,,أو بالأحرى (ماهو الفن المعاصر؟) .

كيف يمكن لكتلة صغيرة من الألوان أن تأخذ حيزا كبيرا وهاما ضمن صالة العرض الفني ؟ كيف يمكن لجسم مكون من مواد أولية استهلاكية بسيطة إن يؤثر كل هذا التأثير في أعين الأخصائيين والجمهور على حد سواء؟ هل يمكن اعتبار تلك الكتلة اللونية البسيطة المكونة من مواد استهلاكية ابسط عملا فنيا أصلا ؟

لن نستطيع العثور على الأجوبة المناسبة مهما حاولنا لأننا وبكل بساطة نطرح السؤال بشكل خاطئ.
عندما أعاد الفن المعاصر صياغة نفسه بعد 100 عام من ولادة المدرسة التجريدية ليغوص مجددا في القضايا اليومية المعاصرة بدأ الصراع الحقيقي حول قيمة الفن المعاصر ثقافيا , وأدى هذا الصراع إلى حجب الرؤية عن التحديات الحقيقية التي تقف في وجه هذا الفن ( خلق عمل ما قابل للرؤية , الشعور والإحساس بهذا العمل , خلق واقع جديد ومختلف بكل الوسائل الممكنة ) .
إن الأعمال الفنية تشبه إلى حد بعيد الفنانون الذين قاموا بانجازها وتركيبها , ولان هؤلاء الفنانون مختلفون ثقافيا ونفسيا وفكريا وفنيا وجغرافيا اختلفت أشكال هذه الأعمال , فمنها الجميل ومنها القبيح (رمزيا) والجميل هنا هو مايتفق مع مخزوننا البصري والثقافي والفكري والنفسي والجمالي تجاه مانشاهد , والقبيح هو كل شيء مختلف وصادم وجديد بالنسبة لمخزوننا والتي لم تعتد ذاكرتنا على رؤيته .
لاشك بان الكثير من هذه الأعمال المعاصرة اليوم قد أضاعت جزءا كبيرا من جذورها التقليدية والتراثية والتاريخية وانتهت إلى مجرد أشكال زخرفيه فقط , ومع ذلك فان ردود الأفعال الرافضة لهذا الفن ليست بالجديدة , فعبر تاريخ الفن شهدت كل المدارس الفنية تقريبا ردود أفعال مشابهة عند بداية ظهورها , ولاقت مالاقته من انتقاد وهجوم ورفض تماما كما يحدث اليوم بالنسبة إلى الفن المعاصر .
واليوم لابد إن نواجه كل تلك الأسئلة وكل تلك الانتقادات بجدية وان نحاول تفسير الأمور دون تملق ودون الانسياق وراء ردود الأفعال تلك وصولا إلى هدم وتحطيم هذا النوع من الفنون .
سأحاول هنا ومن خلال عشر نقاط مختصرة وبسيطة إن أعيد طرح هذه الأسئلة لنكتشف معا أين أصاب هذا الفن وأين اخطأ لنتمكن جميعنا من فهم هذا الفن وقراءته بشكل صحيح وفهمه بعد أن أسيء فهمه كثيرا

:
1-الفن المعاصر هو ليس ب (شيء) جامد
إن الجواب على التساؤل ( ماهو الفن المعاصر؟) هو جواب مبهم وغامض بكل تأكيد , ولكن من وجهة نظر احترافية , فان الفن المعاصر هو حصيلة ومجموع الأعمال المنتجة والمخزنة منذ أكثر من عشرون عاما التي سبقت لحظة الكلام عن هذا الفن اليوم, ومن المهم جدا العودة إلى الأعمال المنجزة منذ أواخر العام 1950 , فمنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم استطاع الفن المعاصر إن يتجاوز اغلب الإطارات التي وضعناها له بهدف حصره وتحديده لنكون قادرين على فهمه ضمن مفردات محددة تتناسب مع نمطية حياتنا التي نراها ونعيشها.
إذا , ولفهم أفضل للعمل الفني المعاصر لابد أن نتخلص بداية من كل إطاراتنا الموجودة في ذاكرتنا الفكرية والنظر إلى ذلك الفن بعيدا عن قواعد تاريخ الفن , والتخلص من الإطارات أو تخفيف القواعد لايعني نسف الذاكرة الفكرية وهدم قواعد تاريخ الفن والتي مازلنا نبني عليها أعمالنا حتى يومنا هذا , وإنما المقصود به هو التخلص من كل ماهو غير منسجم مع طرق الحياة اليوم فكريا واجتماعيا واقتصاديا وفنيا , من اجل حرية اكبر تطلق إبداع الفنان .
إن مراقبة المشهد الفني المعاصر اليوم تتطلب عيونا تمتلك الحد الأدنى من الخبرات البصرية المستمدة في أساسها للمشاهدات اليومية التي نعيشها والاستمتاع بهذه المشاهدة وهذا الاستكشاف , ويتطلب أيضا تبسيط الأمور عند رؤيتنا لأي عمل فني معاصر دون التوهم مسبقا (فقط لأنه معقد بصريا) بأنه عمل معقد فكريا ونفسيا وفنيا , وان عدم التوهم هي خطوة أولى باتجاه عدم اتخاذ أي رد فعل سلبي أولي تجاه العمل المعروض بشكل خاص ,,وتجاه الفن المعاصر بشكل عام .

2-الفن المعاصر حرٌ
لاشك بان الفن المعاصر اليوم يقوم بمشاكسة اللوحات والمنحوتات الكلاسيكية عبر سعي الفنان المعاصر المستمر للتخلص من القواعد الكلاسيكية , فالفن المعاصر ينتمي إلى الفنون البصرية , وباعتقاد الكثير من ممارسي هذا الفن إن قواعد الفنون البصرية لاتتوافق مع قواعد الفنون الكلاسيكية وقد يكون هذا الاعتقاد في بعض تفاصيله خاطئا , ولكن وفي نفس الوقت لايحق لممارسي الفنون الأخرى مهاجمة ورفض الفن المعاصر فقط لأنه مبهم وغامض بصريا , فما هو واقعي بالنسبة لي قد يكون تعبيريا بالنسبة للآخرين , وماقد يكون سرياليا بالنسبة لي قد يكون رمزيا بالنسبة للآخرين , من يحدد واقعية الفن أو سرياليته؟ هل هي قواعد تاريخ الفن ومدارسه؟ أم الواقع المُعاصر نفسه؟ قد ينتمي احد الفنانين إلى بيئة فقيرة فيجسد مشهد حاوية القمامة مع القطط الجائعة بلوحة واقعية تعكس واقعية مايعيش وما يرى, وفي نفس الوقت قد تكون هذه اللوحة بالنسبة لفنان أخر ينتمي إلى بيئة مزدهرة ماديا واقتصاديا لوحة تعبيرية تعبر عن الفقر الذي لم يختبره ولم يشاهده أصلا .
في الأعمال النحتية للفنان ( اكسافير فيهان ) و ( صوفي كال ) لانجد شيئا يشبه حياتنا اليومية التي نعيشها كل يوم ولكن ثمة مساحات هامة ومثيرة في هذه الأعمال تثير العديد من الأسئلة , ليس بالضرورة أن يكون العمل الفني المعاصر نسخة لواقعنا المعاش حتى يلاقي النجاح والاهتمام , فحرية التفكير التي تطرحها هذه الأعمال الفنية المعاصرة خارج الإطارات والقواعد السائدة (سياسية , اجتماعية, فنية, تاريخية, دينية ) تجعل من هذه الأعمال أعمالا حرة (ثورية ) نابضة بالحياة , ويبقى على الفنان المعاصر إقناعنا بعد منحنا لتلك الحرية بان عمله ورموزه وعناصره لاتنفصل عن واقعنا , وهذا هو التحدي الأكبر .

3-الفن المعاصر ليس بالضرورة (إحساس)

إن من يقوم بممارسة لعبة الكلمات المتقاطعة يكون هدفه هو تجميع الأحرف وتركيبها بهدف الوصول إلى كلمة ذات معنى في النهاية , وأثناء القيام بعملية التجميع لايكون للعاطفة أو الإحساس أي دور هام في عملية التركيب تلك, ولكن عند الوصول في النهاية إلى تركيب كلمة ذات معنى ( بحر, حب, فلان ,,,,الخ,,, ) تبدأ الأحاسيس بالتحرك بحسب ماتولده الكلمة المركبة داخل كل شخص .
وعند ممارستنا للعبة الكلمات المتقاطعة تلك قد لانوفق في البداية , قد نقوم بتركيب تلك الكلمات بشكل خاطئ منذ البداية,, وقد نوفق في ذلك ,,وفي كلا الحالتين لايدخل الإحساس الوجداني العميق في عملية تركيب تلك الأحرف المبعثرة , وهذا المثال يشبه إلى حد كبير طريقة تركيبنا لمعنى ما أثناء مشاهدتنا لعمل فني معاصر.
في لوحات (فاسيللي كانديسكي ) التجريدية مجموعة من الألوان المدهشة التي قد تبدو مبعثرة للوهلة الأولى ,حيث قام الفنان بعملية تراجعية وتفكيكية للواقع عبر ألوان مبعثرة إن قمنا بتجميعها مرة أخرى وإعادة تركيبا سنصل حتما إلى معنى ذو إحساس معين , وعملية التفكيك والتركيب تلك تشبه تماما مثال الكلمات المتقاطعة , إن هذه العملية المجردة من أي إحساس بغية الوصول إلى هدف ذو معنى وإحساس وجداني يحرض العقل على التفكير ,وبالتالي نموه وتطوره , ويجب الانتباه إلى انه أثناء عملية التفكيك والتركيب تلك يقوم بعض الفنانون بعمليات خداع مستخدمين بعض الحيل تماما كالكلمات المتقاطعة , حيث بقوم مبتكر تلك الكلمات بوضع الحروف بشكل يوحي إلينا وياخذنا إلى تركيب كلمة أخرى بمعنى أخر بعيدة عن الكلمة الحقيقية,بعض الناس يصيبهم الإحباط عندما يكتشفون بأنهم قد وقعوا في الفخ , ولكنهم لايدرون بان تلك الحيل تعطي اللعبة المزيد من الجمال والمتعة والتشويق , وهذا بالضبط مايجري في الأعمال الفنية المعاصرة.

4- الفن المعاصر ليس حرفة
قام الفنان ( مارسيل دوشامب ) بوضع عجلة دراجة على كرسي خشبي , ولاقى هذا العمل الكثير من الهجوم الشخصي والفني , لم يكن في نية الفنان مارسيل الاستهزاء بقواعد تاريخ الفن , أو بعقل الجمهور , أو البحث عن النواحي الجمالية في هذا العمل , وإنما أراد أن يقول برأيي الخاص : ( لكل شخص مهما كانت درجة ثقافته الحق بممارسة هذا الفن ضمن أي ظرف يعيشه , وضمن رؤيته الخاصة , وبالمواد القادر على توفيرها حتى وان كانت عجلة دراجة وكرسي ضمن شرط واحد, هو أن ينتمي هذا الشخص إلى واقعه , وان يعيش يومه ,حتى يراكم تاريخا نفسيا وماديا نستطيع من خلاله أن نفهم عمله مهما بدا تافها أو لامنطقيا ).
المشكلة اليوم هي صعوبة تصديق إن مثل هذه الأعمال البسيطة لايقصد بها الاستخفاف أو الاستهزاء بعقل المشاهد , ففي أي مجال من مجالات الحياة هناك من يقوم بالإساءة إلى ذلك المجال , وفي الفن المعاصر هناك من يستغل غموض هذا الفن تحت شعار ( إن أية حركة أو لون أو مادة أستطيع أن اجعل منها عملا فنيا معاصرا دون عناء البحث والتفكير ودون إن أمتلك أي تاريخ أدى إلى إنتاج مثل هذا العمل ) .
ومن هنا تأتي أهمية معرفة السيرة الفنية والتاريخية للفنان قبل رؤية عمله لنكون قادرين على التدقيق وتصنيف الأعمال مابين مزيفة وحقيقة.

5-الفن المعاصر ليس بالضرورة (رسالة)
اغلب الناس عندما يأتون لمشاهدة معرضا فنيا معاصرا , يأتون بأفكار مسبقة بان الأعمال التي سيرونها هي أعمال ذات رسالة ومضمون وهدف , وان عليهم اكتشاف ومعرفة تلك الرسالة المحددة عبر رموز العمل وإشاراته وإيحاءاته.
باعتقادي إن طريقة التفكير تلك هي طريقة خاطئة , ومن خلال طريقة التفكير الخاطئة تلك استطاع بعض فنانو الفن المعاصر الاستغلاليون من خداع الناس عبر إيهامهم بان ماسيرونه من أعمال تحتوي بالضرورة على رسائل محددة , وعلى الناس اكتشافها , وان لم يستطيعوا اكتشافها فإما هم جاهلون أو عاجزون أمام تلك الأعمال , والمصيبة أن بعض الناس يعترف بجهله وعجزه أمام تلك الأعمال , فيزيد تقديره واحترامه للفنان الاستغلالي صاحب العمل باعتباره أكثر معرفة وثقافة منهم , وهذا غير صحيح , وبعض الناس سيصيبهم الإحباط ,وسيقومون بردات فعل سلبية تجاه الفن المعاصر بسبب أولئك الفنانون الاستغلاليون ,وهنا تكمن المصيبة .
في الأعمال المعروفة باسم ( أعمدة بورين ) قام الفنان بوضع مجموعة من الأعمدة القصيرة مخططة باللونين الأبيض والأسود على ارض (قصر باليه ) في باريس , مع مساحات مائية تنعكس فيها مجموعة من الصور الظلالية , وعلى الأرضية قام بنسخ الخطوط البيضاء الموجودة على الأعمدة ووزعها على المساحات مابين الأعمدة وأضاف مجموعة من المصابيح ذات الطابع الكلاسيكي ووزعها على كامل المساحة مابين الأعمدة .
إن تفسير مثل هكذا عمل لايخلو من الصعوبة , ولكن الشيء المؤكد انه مامن رسالة محددة وراء هذا العمل , وان السبب الرئيسي وراء ابتكار هذا العمل لازال غامضا , تماما كما أراد الفنان , وأمام هذا المشهد ,,من الصعب إن لايشعر المشاهد بالخداع , وانه قد تم الإيقاع والاستهزاء به , ولكن لو تخلى هذا المشاهد عن فكرته المسبقة بان ثمة رسالة محددة وراء العمل لما شعر بالإحباط والغضب , وربما كان سيستمتع أكثر بصريا تجاه مايرى ويشاهد وتلك البهجة ستنعكس على داخله وستكون كافية لتمضية ماتبقى من يومه وهو يشعر بالرضي وبشيء من البهجة .
في النهاية ,لاتحتوي كل الأعمال الفنية المعاصرة بالضرورة على أجوبة لتساؤلاتنا اليومية , بل هي محاولة لإيجاد لغة بصرية مشتركة بين الجميع , وان الاتفاق على هذه النقطة سيخفف حتما من ردات الفعل القوية تجاه الفن المعاصر.

6-الفن المعاصر بحاجة إلى الناس
إن علاقة الفنان المعاصر ( وأعماله) مع العالم المحيط به هي علاقة وثيقة وضرورية تضيف آفاقا جديدة على أعماله , فالناس اليوم هم جزء لايتجزأ من العمل الفني المعاصر , وبالأحرى هم جزيئات حية تضفي الحيوية على باقي مكونات العمل الفني المعاصر .
إن انتشار الناس بين تلك الأعمال ضمن صالة أو متحف أو ساحة عامة هو بكل تأكيد المشهد الأهم ضمن عملية عرض ذلك العمل عبر تحركات أجسادهم بما تحمله من فكر وعواطف وطباع مختلفة حيث يتحول العمل الفني إلى الجزء الأصغر ضمن هذا المشهد ويصبح دوره هو دور تحريضي يدخل ضمن تركيب تلك الكتلة البشرية الحية النابضة بالحياة لتقدم مشهدا بصريا غنيا جدا , وحيا.

7-الفن المعاصر مُفسر مسبقا
لاينكر احد بان كل هذه النقاشات وردات الفعل حول الفن المعاصر قد كشفت مدى أهميته , واعتبر الكثيرون بان هذا الفن قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالغموض والصدفة والتحريض على التفكير ضمن حياتنا اليومية بكل تفاصيلها , وطالما الجميع متفق على هذه الأمور يمكننا اعتبارها هدفا للفن المعاصر, وبما إن الأهداف معلنة وواضحة فهذا يعني إن الفن المعاصر هو فن مُفسر مسبقا بشكل عام ,ويعود تفسير التفاصيل إلى الفنان نفسه , لا اعلم إن كان سيقبل القراء بتبسيط الأمور إلى هذا الحد , ولكني أستطيع القول وبكل بساطة إن وظيفة الفن المعاصر اليوم هو صدم الناس, الصدم الإيجابي من اجل تحريضهم على التفكير بطرق أخرى, ومن زوايا مختلفة ,والتفكير بذاته ,وبالآخرين, وبكل مايدور حوله.
طالما بقي الناس على إصرارهم بان كل عمل فني معاصر يجب إن يقدم الجواب على تساؤلاتهم فورا داخل صالة العرض فأنهم سيعانون دوما من الشعور بالهزيمة تجاه هذه الأعمال, والقيام بردود أفعال سلبية تجاه هذا الفن, وممارسي هذا الفن.
يقول ديكارت ( إن أفكر فإذا أنا موجود) .
إما أنا فأقول ( إن الفن المعاصر موجود, فعليك أنت أن تفكر).
العمل الفني المعاصر الحقيقي موجود ماديا , أحيانا دون رسائل ودون تفاسير ,وعندها علينا نحن أن نفكر خارج إطار العمل ,وخارج صالة العرض, التفكير يبدأ من أمام العمل المعروض,وينتهي إلى الذات ,وبكل مايحيط هذه الذات .

8-الفن المعاصر قابل للمحاكمة العقلية
إن رموز الحداثة والمعاصرة الفنية اليوم هي رموز مهجورة من قبل الناس , لم تعد المحاكمة الإبداعية هي أساس أي نقد فني للأعمال المعاصرة , ولكي نحاكم العمل الفني المعاصر لابد من تبسيط تلك الرموز واستعادتها من أولئك (استغلاليو الفن المعاصر) الذين وضعوها في صومعة غير قابلة للاختراق والفهم والتفسير , واتخاذ عملية المحاكمة الإبداعية كأساس لأي نقد وتحليل .
تعرض الكثير من الناس لمصائب وتناقضات حياتية لم يفهموها حتى يوم مماتهم , وقد يكون التفكير بمثل تلك التناقضات عبثيا , ومن هنا أتت ضرورة القيام بعملية المحاكمة العقلية , فالمحاكمة هي إحدى وسائل الدماغ للتفكير الغير مباشر تجاه أي حدث غير قابل للفهم , والتي ستوصلنا إلى فهم حقيقة الأمور بطريقة غير مباشرة من خلال طريقتين : التفكير المسبق أو التدقيق في النتائج ,وفي كلا الحالتين تقدم لنا المحاكمة طريقة نتجنب من خلالها الصدام المباشر مع أي حدث أو مشهد غير قابل للفهم , مما يخلصنا من الشعور بالعجز أمام تفسير مثل تلك الأحداث.
ونفس الشيء ينطبق على العمل الفني المعاصر, فعملية المحاكمة الفنية هي الخطوة الأولى نحو فهم وقراءة وتذوق العمل الفني المعاصر دون الاصطدام به , وتقريب تلك الأعمال شيئا فشيئا إلى حواسنا وعقولنا وخيالنا دون إن نبارزها ونخسر أمام صعوبة تفسيرها , وعندها تبدأ عملية الاستمتاع بهذا العمل .
وإذا قاربنا الأمر على هذا النحو, فان وقوفنا أمام العمل الفني المعاصر ومحاكمته سيولد في داخلنا شعورا كبيرا من التفاؤل من خلال فهم جوانب العمل الخفية وبالتالي جوانب الحياة وما ورائياتها المحظورة علينا , والاستمتاع بها وخلق مشاعر جديدة وربما خلق مناهج جديدة في البحث واستقراء مانرى ونشاهد , وبالتالي فتح فضاءات جديدة أمام الخيال وتوليد أفكار جديدة خلاقة .
أي أن وقوفنا أمام العمل الفني المعاصر هو الخطوة الأولى باتجاه اكتساب طرق تفكير جديدة واكتشاف عوالم أخرى غير متوقعة بعيدة عن العمل الفني نفسه الذي يمنحنا تلك الرحلة الثقافية الفكرية الجديدة التي تنطلق من أمام هذا العمل ولكنها لاتعود إليه أبدا .

9-الفن المعاصر (حي)
في عمل مميز للفنان ( ايفان نافارو) والذي كان عبارة عن حفرة اسطوانية في ارضية صالة العرض الفنية نستطيع رؤية اضاءات جميلة في داخلها عن طريق بضع مرايا وكلمتي (أنا) و (نحن) تتكرران بشكل متناوب وتتلاشيان في أعماق الحفرة بحيث لانعود قادرين على رؤية نهايتها.
تضعك هذه الحفرة أمام شعور مابين الحلم والواقع وتاخذك إلى أعماقها لتضعك أمام خيار غير منتهي بين الأنا والآخرون , وهذا العمق المتلاشي جعلنا نحس باستمرارية العمل , وبالتالي استمرارية الشعور والتفكير إلى اللانهاية , وهذا التلاشي البصري للضوء والكلمات في عتمة الحفرة أعطى شعورا بان هذا العمل كائن حي , فالحياة هي استمرار الكائنات الحية في العيش, وتوقف هذه الاستمرارية هو توقف للحياة,أي الموت , موت الكائن الحي, موت الشعور الحي, موت التفكير الحي , وموت العمل الفني الحي.
يصلح هذا المبدأ لكي يكون رمزا من رموز العمل الفني المعاصر ( الاستمرارية والحياة).
صحيح إن مثل هذا العمل قد لايعني للكثيرين ,ولكنه وبكل تأكيد يمنحنا نشوة الشعور بالاستمرارية , استمراريتنا ( أنا , نحن ) بعد أن أنهكتنا تعقيدات الحياة فتداخلت الانا مع الانت ووقفنا عند حد معين في التفكير بالحياة من حولنا وبالتالي دخولنا ضمن نمط حياتي واحد يشبه الموت.

10-الفن المعاصر مفتوح
في الفن المعاصر لاشيء يُفهم, وفي نفس الوقت هناك كل شيء للفهم .
عمل صغير ما قد يخفي سرا كبيرا , والسر هو لغز , واللغز يوصل الدماغ إلى ذروة التفكير ,والتفكير هو إبداع , والإبداع هو فن .
إن الأعمال الفنية اليوم تخاطب أعيننا , لهذا, لابد أن نمنح تلك الأعمال حقها في النظر إليها جيدا ,,والتمعن بها بكل ماتحويه من رموز وشيفرات والغاز لتكون وقودا لأي عملية تفكير , ولكي ننظر بشكل صحيح إلى تلك الأعمال يجب أن لانشعر ونحن في صالات العرض الفنية وكأننا في معابد صامتة (كالمكتبات والجوامع والكنائس ,,الخ,,) وإنما يجب الشعور وكأننا في مساحات إبداعية تبث فينا شعورا جديدا يدفعنا إلى الكلام بصوت مرتفع بكل حرية ( حتى وان لم يعجب ذلك أصحاب الصالات من تجار ولصوص للإبداع ) , فصالات العرض تلك هي ليست مساحات للتجوال مابين الأعمال الفنية فقط,بل ومساحات تقدم علاقة ثقافية مجانية مابين العمل والمشاهد ,ومابين المشاهدين أنفسهم , وبين المشاهدين والعالم من حولهم خارج صالة العرض دون أية أبواب موصدة في وجوههم .
إن عملية التأمل ستسمح لنا بالخروج من سيطرة شكل العمل الفني , ومن سطوة صالة العرض , وثقل الوقت , عملية التأمل هي خروج من إطار الشكل والزمان والمكان , إلى عوالم مفتوحة , قريبة او بعيدة عن العمل الفني المعروض ,لايهم ,المهم هو إن نخرج إلى أفاق جديدة دائما.

اختم لأقول…
إن أمعنا في النقاط العشر السابقة , قد نستطيع الوصول سوية إلى فهم اكبر للفن المعاصر , والتخفيف من ردات الفعل القوية تجاهه , وبالتالي تخليص هذا الفن من سمعته السيئة عبر التمييز مابين فنان معاصر حقيقي اخلص في عمله , وبين فنان أخر مزيف استغل هذا الفن واساء له ولنا جميعا.
لا ادعي باني من المدافعين عن الفن المعاصر , ولكني كتبت ماكتبت لقناعتي بان الفن هو (إيجاد الحلول لمشاكلنا اليومية ,, وليس روحانيات وعوالم حالمة فقط ) , فإذا كان الفن المعاصر مشكلة , دعونا نتفق على حل مناسب له .
وعلى الرغم من ذلك يبقى باب النقاش مفتوحا دائما..
ويبقى السؤال دائما( ماهو الفن المعاصر,, وماهي الجدوى منه) ؟

أمية المقداد
محاضر في كلية الفنون الجميلة في دمشق