fenon

ما بين الطرح .. والطرحة – للكاتب محمد مستجاب

ما بين الطرح .. والطرحة

لا أستطيع أن أنسى: الطرحة السوداء ذات الطريقة الثابتة, والمحكمة, في ضبط رأس ستّي – أي جدتي – نفيسة مع رقبتها وكتفيها, بشكل لا يتغير ولا يهتز في الأفراح أو الدهشة أو الأحزان أو التصفيق الرافض نشوة, أو حين تندمج في حلقات (الزار) أو احتضان الأحفاد الصارخين, وهو أمر لا تستطيع مواجهته طُرح أو طرحات أخرى فوق دماغ فطيمة أو فريجة أو حافظة, تهتز وتضطرب وتنفكّ وتتهدّل كلما داهمتها رياح أو نسائم أو حرارة أو عين رجل غريب, لاحظ أن ستي نفيسة تعبير عربي صحيح شائع في بلادنا – وسط الصعيد المصري – دون كلمة جدتي, كما أن (الست) صفة مطلقة للآنسة أو السيدة شائع في كل البلاد والأقطار, لكننا – نحن أبناء الكتابة – لا نطرح مثل هذه التعبيرات اعتقاداً بأنها عامية لا فصاحة فيها, إنه جهلنا الخاص, دعنا منه الآن, حيث إن كثيراً مما يجري في مجال تفكيرنا يود أن يجد له مطرحاً بين السطور, ذلك أن المشهد الأثير عندي – والذي أشار إليه قائد الأوركسترا الموسيقية يوسف السيسي-يرحمه الله – يركّز في حركة ذراعي أمي خلال تحريك يديها بالمطرحة أمام فرن الخبيز الريفي, وقطعة العجين تتحرك في دورة لدنة سلسة بالغة الرقة لتتسع وتتسع حتى تصبح رغيفاً أو بتّاوة – باتساعها المعروف – لتلقي بها فوق البلاطة الملتهبة, الأجيال الحالية – معظمها – لن يسعد بهذا المشهد, وربما أيضا لا يدركون العلاقة الساحرة بين حركة ذراعي أمي أمام الفرن وذراعي يوسف السيسي قيادة للعازفين في الأوبرا, وكلاهما يصل بالإبداع إلى أوج النشوة, دون أن ينطرح اللحن أو الرغيف أرضاً.

وإذا كان الطرح – في الحساب – إنقاص عدد من عدد آخر, فإنه في الشواطئ يصبح زيادة في المساحة البرية التي يضاف إليها ما تطرحه المياه من طمي وشوائب, ليصبح طرح النهر – أو طرح البحر – مصطلحا معروفاً يقع دائما في دائرة اهتمام خبراء الشواطئ والموانئ وعلماء البحار, ولعل المدينة المصرية مرسى مطروح هي الوحيدة التي أعرف أنها استأثرت بذلك داخل اسمها دون المواقع والمدن العديدة الأخرى الناجمة من هذا الطرح,ربما خشية من الاعتقاد بأن هذا الأمر قد يؤدي بالمدن إلى أن تصبح طريحة الشواطئ مثلما نقع فيه نحن لنصبح طرائح الفراش, مع أن الأطروحة الكبرى – والجميلة – أن يكون ذلك صفة للقصيدة الجميلة في المنتدى الجماهيري الدافئ, لتتوالى بعدها أنواع من المطارحات التي فقدناها في المجال الخاص الذي يشعله شوق العشق حينما يتطارح اثنان – ذكر وأنثى – في همس التواصل الإنساني ذي الإيقاع البليغ على مساحات الصمت… البليغ أيضا.

وعندما يدهم الشجن حياتنا – ليصبح حزنا ضاغطاً – تنطرح الذكريات جاذبة كل أشواك الأسى التاريخي: في الأسرى – خلال الحروب – المنطرحين أرضاً, والأمنيات – خلال الهزائم – المنطرحة في الجهاز العصبي تعوقه عن التسامي والتحليق الهائم, حيث يصعب علينا أن نطرح الهموم جانباً, ونقع في اختناق الطرحة المطروحة بين قواقع المياه بحثاً عن أسماك تتشبث بها حتى تطفو فوق السطح, إذ تظل الطرحة أداة للصياد الجوال على الشواطئ وللصياد الجوال – أيضا – في الغابات بين الأشجار الكثيفة بحثاً عن قرد أو نمر أو ثعلب أو أرنب,أو حتى جرذ أو سنجاب أو ثعبان في كثير من الأحيان.

ومن أكثر المشاهد العصرية انتشاراً الطريقة التي يطرح بها السياسيون أو نوّاب المجالس أو رجال النيابة أو المحامون أفكارهم على من يودون أن يقتنعوا بها من أصحاب السلطة من حكام وقضاة وذوي القدرة على اتخاذ القرار, حيث يلجأون إلى أنواع من البلاغة في الأداء وتحريك الأذرع والاهتزاز الدرامي المتداخل مع ما تحويه الذاكرة من مشاهد أفلام السينما ومسلسلات التلفزيون, حتى أننا نضحك في لذة حتى نكاد ننطرح أرضا, دون أن ندرك أن الفاصل بيننا وبينهم طرّاح شاسع, أي مكان بالغ الاتساع.

إلا أن كل شئون الطرح والتطارح والانطراح تنصهر – كلها – أمام الطرحة الوحيدة البيضاء ذات الإشعاع المتناغم مع الأضواء وإيقاعات الرقص وأمنيات السعادة, تلك التي تتألق فوق رأس عروس تتأهب لتدخل عالم السعادة المطروح في وجدانها, دعك مما سوف يحدث بعد ذلك من أمور تنطرح الآن في عقلك يا صديقي, والتي تراها في ملابس العريس والتي تظل سوداء ليظل مضادا لما ترتديه العروس ذات التألق ناصع البياض.

كلمات لها معنى

أخطر ادوات الابتزاز ليست الأذرع أو السكين أو المسدس, إنها العيون: عيون الأنثى بالذات.
الدليل على أن فن الشعر يعشق الهواء الطلق, أنه يجمع كل بيت منه ليصبح أبياتا, دون أن يصبح بيوتاً مثل تلك التي نعيش فيها.
الشمس تتعمد السخرية بأفكارنا: انظر للعمائر أو الجبال أو أشجار النخيل الشامخة حينما تتعامد عليها الشمس فتفقد ظلها, ثم لا تلبث أن تتحرك فتجعل للفئران والأعشاب والعقارب ظلاً ممتداً.
حاول ألا تيأس بسرعة, إياك أن تيأس ببطء, إنه الموت.
محمد مستجاب