سحر البيان – مصطفى لطفي المنفلوطي


رأيت في إحدى روايات شكسبير وهي الرواية المعروفة برواية “يوليوس قيصر” موقفا لبطلين من أبطال الفصاحة, وفارسين من فرسان البيان قد وقف كل منهما من صاحبه موقف اللاعب من اللاعب, ووقف الشعب الروماني بينهما موقف الكرة بين
مضارب الأقدام تعلو بها حينا وتسفل أحيانا فلا تثبت صاعدة ولا تستقر هابطة فعلمت أن العامة عامة في كل عصر، والشعب شعب في كل مصر، وأن سواد الأمة تحت صرح فرعون مثله تحت عرش قيصر، وأنه في رأس التاريخ اليسوعي مثله في ذنب التاريخ المحمدي، تدنو به كلمة وتنأى به أخرى، وتجذبه دمعة وتدفعه ابتسامة، وتطير بلبه الشعريات والخيالات طيران الريح الهوجاء بذرات الهباء.
علم بروتس الشريف الروماني أن يوليوس قيصر قد استعبد الشعب الروماني, وأذل نفسه ذلا ملك عليه حواسه ومشاعره حتى ما يكاد يشعر بمرارته، وكذلك الذل إذا نزل بالنفوس سلبها

كل شيء حتى الشعور بنزوله بها، وعلم أن حياة ذلك الشعب في موت ذلك القيصر فهان عليه أن يقتل صديقه وسيده افتداء لأمته, فطعنه طعنة نجلاء سلبته نفسه فهاج الشعب الروماني على القاتل وأعوانه هياج الأمواج المتدافعة على السفن المبعثرة في أكناف الدأماء، فوقف الرجل خطيبا في وجه هذا الشعب المائج المحتدم حزنا على خلاصه من يد قاتله وقفة المستبسل المستميت، وكان لا بد له في موقفه من أحد المصيرين؛ إما نصر يعلو به إلى مدار الأفلاك، أو خذلان يهوي به إلى مقر الأسماك، ومن أحد المخرجين؛ إما مخرجه مرفوعا على محفة الأبطال، أو محمولا على أعناق الرجال، فبعد لأي ما استطاع بعض الناس أن يسكن ثائرة الثائرين ويستدرجهم إلى سماع دفاع القاتل عن نفسه أو التفكه بمنظر هذيانه وهو يتلمس في هذه الظلمة الحالكة المخرج من جرمه.
الخطبة:
بروتس “وهو على منبر الخطابة”: أيها الرومانيون، أتعدونني بالصبر القليل على سماع ما أقول من حلو الكلام, ومره إكراما لموقفي, وإكراما للعدل؟
أنا لا أريد أن أخدعكم عن أنفسكم, ولا أن أعبث بعقولكم

وأهوائكم, بل أريد منكم أن تنظروا إلى قضيتي نظر المستيقظ الحذر الذي لا يعطي هوادة ولا يسلس قيادا ولا ينام عن شاردة ولا واردة؛ لأني لا أعتقد أن في زاوية من زوايا قضيتي هذه كمينا أخاف أن تقع عليه العيون.
أيها الرومانيون، إن كان بينكم صديق لقيصر يحبه, ويتهالك وجدا عليه فليسمح لي أن أقول له: أيها الصديق الكريم، إن بروتس قاتل قيصر كان يحبه أكثر من حبك إياه.
أيها القوم، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتكم، فأعلموا أني ما قتلت قيصر لأني كنت أبغضه, بل لأني كنت أحب روما أكثر منه.
كان قيصر يحبني فأحببته، وكان شجاعا فاحترمته، ولكنه كان طماعا فقتلته، ففي ساعة واحدة منحته دمعي وقلبي وخنجري.
أنا لا أصدق أن بينكم من يحزن لموت قيصر, فأنتم رومانيون والروماني لا يحب أن يعيش ذليلا.
من منكم يكره أن يكون رومانيا؟ من منكم يكره أن يكون حرا؟ من منكم يحتقر نفسه؟ من منكم يزدري وطنه؟ إن كان بينكم واحد من هؤلاء فليتكلم؛ لأنه هو الذي يحق له أن

يثأر لنفسه مني؛ لأني لم أسئ إلى أحد سواه.
الشعب: لا، لا، ليس فينا واحد من هؤلاء.
بروتس: إذن أنا لم أسئ إلى أحد منكم.
وما وصل بروتس من حديثه إلى هذا الحد حتى دخل أنطونيوس صديق قيصر ورأس الناقمين على قتلته والطالبين بثأره هو وآخرون, ومعهم جثة قيصر لتأبينه في هذا المجمع الحاشد, فاستأنف بروتس الكلام وقال:
بروتس: ها هي جثة قيصر وها هو صديقه أنطونيوس قد جاء ليؤبنه فاستمعوا له، واعلموا أن قيصر المذنب غير قيصر الماجد، وقد سمعتم ما قيل عن الأول فاسمعوا ما قيل عن الثاني، واسمحوا لي أن أقول كلمة أختم بها خطابي.
أيها الرومانيون، إن الخنجر الذي ذبحت به قيصر في سبيل روما لا يزال باقيا عندي لذبح بروتس في سبيل قيصر إذا أرادت روما ذلك.
تأثير الخطبة:
الشعب: ليحي بروتس.
أحد الناس: أنا أقترح أن نحمله على الأكف والرءوس إلى بيته.

آخر: انصبوا له تمثالا.
آخر: امنحوه عرش قيصر.
آخر: إنه أفضل من قيصر.
آخر: إن قيصر كان ظالما.
آخر: إنه كان الظلم بعينه.
آخر: لتهنأ روما بالخلاص منه.
آخر: ألا نسمع تأبين أنطونيوس؟
آخر: نعم نسمعه؛ لأن بروتس أمر بذلك.
وهنا خرج بروتس والقلوب طائرة حوله, والعيون حائمة عليه وقد نال بتأثير خطابه من نفوس الشعب الروماني ما أراد، ثم صعد أنطونيوس على منبر الخطابة, فهزأ الشعب بموقفه ولولا كلمة من بروتس ما ثبت في موقفه لحظة واحدة، ثم أنشد قصيدة التأبين المشهورة التي هي آية الآيات في اللغة الإنجليزية فصاحة وبيانا, والتي يكاد لا يوجد إنجليزي لا يحفظها ولا يمجدها تمجيد الأمم المتعبدة آيات الكتب المقدسة.

القصيدة:
أنطونيوس: أيها الرومانيون.
أحد الناس: اسمعوا ما يقوله أنطونيوس.

آخر: لا، لا نسمعه.
أنطونيوس: اسمعوني إكراما لبروتس.
أحد الناس: ماذا يقول هذا الرجل عن بروتس؟
آخر: لا يقول شيئا.
آخر: إذن نسمعه.
أنطونيوس: أيها الأصدقاء، أنا ما جئت هنا اليوم لأرثي قيصر بل لأدفن جثته.
أيها القوم، ما من أحد من الناس إلا وله في حياته أعمال حسنة, وأخرى سيئة.
أما حسناته فتموت بموته, وأما سيئاته فتبقى من بعده خالدة إلى يوم يبعثون.
كذلك كان قيصر في حياته ومماته، وحسناته وسيئاته.
أيها القوم، ما كنت لأستطيع أن أقف موقفي هذا بينكم ولا أن أقول كلمة مما أريد أن أقول لولا أن بروتس قاتل قيصر أمرني بالوقوف وأمرني بالكلام, وها أنتم ترون أنني قد أطعته واستمعت له؛ لأنه رجل شريف.
أيها القوم، يقول الشريف بروتس: إن قيصر كان رجلا طماعا وأنا لا أستطيع أن أخالفه فيما يقول؛ لأنه رجل شريف.

أنا لا أستطيع أن أقول: إن قيصر كان رجلا قانعا عادلا أمينا؛ لأن الشريف بروتس يقول غير هذا.
كل ما أستطيع أن أقوله, إن الفدية التي افتدى بها أعداؤنا أسراهم الذين جاء بهم قيصر إلى روما قد ملأت الخزانة العامة حتى فاضت بها.
كل ما أستطيع أن أقوله, إني رأيت قيصر بعيني يبكي لبكاء الفقراء ويحزن لحزنهم, ويبيت الليالي ذوات العدد ساهرا لا يغتمض له جفن حدبا بهم, وعطفا عليهم.
كل ما أستطيع أن أقوله, إني عرضت بنفسي تاج الملك على قيصر في لوبركال ثلاث مرات فأباه زهدا فيه, وازدراء له.
كنت أستطيع أن أقول: إن الطمع لا يسكن قلبا مثل هذا القلب, ولا يخالط فؤادا مثل هذا الفؤاد لولا أن بروتس يقول: إن قيصر رجل طماع, وأنا لا أستطيع مخالفته لأنه رجل شريف.
أيها الرومانيون، إنكم أحببتم قيصر قبل اليوم حبا جما, فما الذي يمنعكم اليوم من البكاء عليه؟
إن لم تبكوه لصفاته الكريمة فابكوه لأنكم كنتم تحبونه، ابكوه لأنه كان بالأمس ينطق الكلمة فتدوي في صدور العظماء دوي الرعد في آفاق السماء، فأصبح اليوم مطرحا

في ظل هذا الحائط, لا يجد بين الناس من يأبه له ولا من ينظر إليه.
أيها العقل الإنساني، كيف حالت حالك وتغيرت آيتك؟ وكيف انتقلت من الصدور الإنسية إلى الصدور الوحشية؟ وكيف ضللت سبيلك وعميت عليك مذاهبك فحسبت الخير شرا، والشر خيرا، واختلط عليك الأمر بين الحسنات والسيئات, والمكارم والجرائم؟
أيها الرومانيون، عفوا إن هذيت بينكم أو أسأت إليكم، واعلموا أن الحزن قد قسم فؤادي قسمين: قسم على هذا المنبر، وقسم في ذلك النعش.
أيها الأصدقاء، إن بين جنبي قلبا يخفق بحبكم والعطف عليكم والرأفة بكم, ولولا مخافة أن تنفجر صدوركم حزنا وجزعا لقلت لكم: إن قيصر قتل مظلوما.
إنني أعتقد أن بروتس ورفاقه قوم شرفاء عظماء؛ لذلك أحب أن أسيء إلى نفسي وإلى قيصر وإليكم قبل أن أقول: إنهم أخطئوا في قتل قيصر, فأسيء إليهم.
“وهنا أرسل أنطونيوس من جفنيه قطرات من الدموع”.
الانقلاب:
أحد الناس “يقول لصاحبه”: يلوح لي أن فيما يقول الرجل شيئا معقولا.

خر: إنك إذا أنعمت النظر وجدت أن قيصر قد أسيء إليه.
آخر: لقد أثر في نفسي زهده في تاج الملك.
آخر: لقد أحزنني عليه أنه كان يبكي لبكاء الفقراء.
آخر: إن الذي يرثي لبؤس البؤساء لا يكون طماعا, ولا ظالما, ولا قاسيا.
آخر: إذن فسيكون لمقتل قيصر شأن غير شأنه الأول.
آخر: لا بد من عقاب القاتل.
آخر “يقول لجليسه”: انظر إلى أنطونيوس, فقد بكى حتى احمرّت مقلتاه.
آخر: ليس في روما رجل أشرف من أنطونيوس.
أنطونيوس: أتأذنون لي بالنزول من المنبر لأقف قليلا بجانب جثة القتيل؟
الشعب: نعم نعم.
“فنزل أنطونيوس ومشى حتى وصل إلى جثة قيصر وهو لا يزال في ملابسه التي قتل فيها, ولا تزال طعنات الخناجر ظاهرة في قبائه ثم قال”
أنطونيوس: من كان يملك منكم دموعا فليعدها لهذا

الموقف, فإني سأبكيكم في هذه الساعة بكاء شديدا.
إنكم جميعا تعرفون هذا القباء ولكنكم لا تعرفونه كما أعرفه أنا، أنا أعلم أن قيصر لبسه أول مرة في مساء اليوم الذي انتصر فيه على “الذفي” ذلك الانتصار الباهر الذي نالت به روما فخرا عظيما.
“ثم وضع يده على الثقوب التي في القباء وقال”
في هذا القباء الشريف تمزقت جثة هذا الفاتح العظيم.
في هذا الثقب طعنه بروتس طعنته, ومن هذا الثقب أطل دم قيصر ليرى بعينه وجه الضارب، وأحسب أن أفراد هذا النوع الإنساني جميعهم قد مروا بخاطر قيصر فردا فردا قبل أن يمر بخاطره بروتس.
عرف قيصر أن قاتله هو صديقه وصنيعة إحسانه, ففترت همته وعجز عن المقاومة لأن الطعنة التي أصابته في جسمه لم تكن أقل من الطعنة التي أصابته في قلبه، ولم يكن منظر المدى والخناجر أبشع في نظره من منظر الخيانة والغدر، هنالك عجز قيصر عن أن يقول شيئا غير الكلمة التي ودع بها قاتله الوداع الأخير: “وأنت أيضا يا بروتس! “.
وهنالك تحت تمثال بومباي وجد قيصر قتيلا وقد لف وجهه

بقبائه حتى لا تتألم نفسه مرة ثانية بمنظر كفر النعمة, ونكران الجميل.
ها أنتم تبكون على قيصر, فشكرا لكم على هذه الدموع الكريمة التي طهرتم بها ما لوث به الخونة تربة الأرض من الدماء.
إنكم تبكون لمنظر قباء قيصر الممزق, فكيف بكم لو شاهدتم ما تمزق من جثته.
“ثم دنا وكشف القباء عن جسمه, وقال”
إن في كل جرح من هذه الجروح لسانا يشكو إليكم فاستمعوا له, فهو أنطق من لسان الرثاء.
أحد الناس: يا له من منظر فظيع.
آخر: وا رحمتاه لقيصر.
آخر: إن يوما يقتل فيه قيصر ليوم شره مستطير.
آخر: يا للدناءة والسفالة.
آخر: يا للغدر والخيانة.
آخر: الانتقام الانتقام.
الشعب “وهو يضجّ ضجيجا عظيما”: أحرقوا القتلة، مزقوهم، لا تبقوا على أحد منهم.
أنطونيوس: مهلا مهلا, أنا لا أريد أن أشعل بينكم فتنة

عمياء، ولا أريد أن تطالبوا القتلة بالدماء التي أراقوها, فإني لا أزال أعتقد أنهم قوم شرفاء وربما كانوا يعرفون أسبابا لقتله لا نعرفها, وإنما أريد أن أقول لكم: إن قيصر كان يحبكم حبا جما, فهو يستحق رثاءكم له, وبكاءكم عليه.
لولا أني أوثر الإبقاء عليكم, ولولا أني أحب تخفيف ما ألم بقلوبكم من الحزن على فقيدكم لتلوت عليكم وصيته لتعلموا أن الرجل كان يحبكم, وأنه ما كان خليقا أن يقتل بينكم وفيكم عين تطرف وفؤاد يخفق.
الشعب: اقرأ الوصية.
أنطونيوس: إني أخاف على صدوركم أن تنفجر حزنا على القتيل الشهيد.
الشعب: نريد سماع الوصية.
أنطونيوس: إنه يعطي كل فرد من أفراد الرومان خمسة وسبعين فرنكا, ويوصي بجميع غاباته ومنتزهاته ورياضه لأمته.
أحد الناس: يا له من رجل كريم.
آخر: يا له من رجل شريف.
آخر: ويل للقتلة.
آخر: الثورة، الثورة.

آخر: سنحرق منزل بروتس ومنازل رفاقه.
ثم خرج الشعب يتدفق في شوارع روما تدفق الأمواج الثائرة في القاموس المحيط.
أنطونيوس “في موقفه وحده”: أيتها الفتنة العمياء, قد أيقظتك من مرقدك فارفعي رأسك وامضي في سبيلك واشتعلي حتى يحرق لسانك أديم السماء, وحتى لا تبقي على شيء مما حواليك ا. هـ.
وهكذا استطاع أنطونيوس في موقف واحد أن يستعبد الشعب الروماني لنفسه وما كاد يخلص من استعباد قيصر، وهكذا الأمم الضعيفة لا مفر لها من العبودية لحملة التيجان، أو حملة البيان.