fenon

رمضان… كريم – للكاتب محمد مستجاب

رمضان… كريم

في المعاجم اللغوية فقط: يرتبط رمضان – هذا الشهر الجميل – بالرمضاء: أي شدة الحرارة, والأرض التي تكاد تشتعل من وقع صهد الشمس, والحجارة المستكينة بؤسًا تحت سطوة لهيب الطقس, ومنها جاءنا المثل العربي القديم لمن يلوذ بمن لا يجد لديه الأمن والأمان والمعنى الإنساني للمأوى (كالمستجير من الرمضاء بالنار), وهو المثل الموروث الذي يستخدمه واحد مثلي من آل مستجاب ضد واحد مثل الدكتور أحمد مستجير – عالِم الوراثة المصري المعروف والمشهور خارج مصر, مما يجعلني – في أحيان كثيرة أفخر بالتكوين اللغوي لاسم عائلتي دون الغضّ من حقدي الدفين لأني لا أملك شهرة آل مستجير, ولذا فقد كان الأذكى – والأنقى – قدرة شهر رمضان الكريم على الانفصام الحادّ بينه وبين السعير – أقصد الرمضاء المشار إليها, حتى في السنوات التي تشاء أقدار توالي شهورها أن يأتي رمضان الكريم الجميل خلال فترة الصيف…الحار جدًا.

وشهر رمضان القروي له انشراح يفتح الوجدان بشكل مختلف عن رمضان البدوي أو المدني – أقصد رمضان الخاص بي شخصيًا, ليس اختلافًا في النوع, بل في طقوس استقباله وممارسة الحياة خلال أيامه ولياليه, ونحن أبناء القرى نخفي كثيرًا من أسرار حياتنا الرمضانية حينما تتحقق لنا درجات من الأوضاع الوظيفية – أو الاجتماعية – في المدن بالذات, ففي الأحقاب الأولى من حياتي في قريتنا لم يطرأ في بالي أن الكنافة يمكن أن تظل من المخبوزات الحلوة طوال العام وليس في شهر رمضان فقط, بل الأخطر من ذلك أن الكنافة ظلت في ذهني الريفي هي هذه الشعيرات من العجين السلس المرن الأبيض, والذي ينتهي أمره – بعد إنضاجه السريع على الدائرة المسطحة المتسعة فوق الفرن, بعد أن يقوم ذو الخبرة المرنة بتسييل الخيوط العجينية من خروم – أو ثقوب – الكوز ليصبح دورانه متناسقًا – كالتناغم الموسيقي – مع دوران مسطح الفرن الملتهب, وعند هذه الخيوط العجينية ذات النضج المحدود ينتهي أمر الكنافة عندنا, وتقوم أمي بوضعها في أكوام صغيرة وقد رشت فوقها السكر الناعم أو العسل الأسود السائل مخففًا, حيث تصبح – هكذا – قابلة لأن تتحول بين الأصابع إلى لقيمات في الفم الجائع, غير أن هذا الأمر تراجع إلى الخلف حينما اتضح لي أن الكنافة – في مناطق أخرى – يتم تنظيم شعيراتها في صينية وقد حشيت بالجوز واللوز والزبيب, لتخرج مسطحة بالغة الأناقة والجمال المتدرج بين اللون البنّي الفاتح والغامق – أي الذي يذكّرك فورًا بالنضج في سعير الفرن.

وبالتالي فقد تراجع رمضان الريفي الطيب تحت سطوة رمضان الآخر خارج قريتنا – أو خارج بيوتنا بمعنى أكثر دقة, حيث بدأت أنواع من مخبوزات الفطائر متجاوزة الكنافة, أشهرها القطايف التي تحتوي في بطنها أنواعًا من الياميش والمكسرات والزبيب, غير أن نوعًا من القطايف تناولته – بلذة فائقة – في قرية البحيرة البدوية القريبة من مدينة إدفو – أسوان – على مشارف الصحراء الشرقية (يفصل مجرى نهر النيل بينهما), وكنت ضيفًا على شيخ قبيلة العبايدة الشهيرة, حينما فوجئت بأن القطايف محشوّة بنوع مجهز بطريقة ساحرة من البلح اللدن, مع أن إفطار رمضان في تلك الليلة كان يحتوي على أنواع من الفطائر المحشوّة بالمكسرات والياميش والزبيب, كما أن قمر الدين تم تقديمه إلينا رقائق من الصفحات الورقية, تمامًا مثلما كانت قريتنا تقدمه, إلا أن عصير قمر الدين في الأكواب الذي يفتح شهية الصائم فور أذان المغرب في المدينة يحل مكانه التبلّغ بعدة بلحات لدنة, أو بلحات رطبة في الريف حيث نفتقد البلح ذا الصلابة المرنة الجميلة, وكثيرون كانوا يتبلغون بالبلح خالصًا ليلة القدر إحساسًا بتحقيق الأمنيات الخالصة الطيبة, وتكاد بلادنا كلها – المصرية: الريف والمدن والواحات – تعتبر الفول المدمس – بكل تجهيزاته – مرتبطا برمضان الجميل الكريم (مهما احتوت المائدة أو الطبلية أنواعًا لذيذة ثمينة سمينة تعبق بالروائح من اللحوم والطيور), ولا نميل إلى إدخال الأسماك في مجالات متعة الإفطار الرمضاني, إلا أنني فوجئت بأنواع عدة من الأسماك تقدم في هذه المناسبات عند أهل المواني والبلاد المطلة على البحر, وربما يدفعني ذلك إلى التنبيه إلى عادة موروثة لدينا, ولم تتغير تغييرًا مؤثرًا حتى الآن في مناطقنا القروية والبدوية – دون المدن – في حالات استقبال وتكريم الضيوف عندنا, أن أفضل – وأكرم – ما يمكن إعداده للضيف لحوم الضأن, بعدها لحوم صغار العجول (الجاموس والأبقار), ثم تتتالى في قيمة التكريم لحوم الدواجن, ويظل الحمام جزءًا من الضيافة مضافًا إلى أي مائدة وليس متفرّدًا, ونادرًا ما تدخل الأرانب والبط والأوز خلية الاستقبال. أما الأسماك فهي مطرودة من موائدنا – أو طبلياتنا – الريفية في رمضان أو أي شهر آخر, وبالذات في حالات الضيافة, مع أن الفول المدمس عنصر أساسي بجوار العناصر الأخرى في شهر رمضان بالذات, والمجهز بالزيت والليمون والخل دون أي سمن أو زبدة.

وأشهر موائد قريتنا كانت تلك التي يحضرها الشيخ راشد – يرحمه الله – كان ضريرًا يرفع رأسه دائمًا إلى أعلى, وفي آخر أيام حياته كانت أسنانه قد أصابها ما يصيب القلاع الأثرية من خلخلة لتكون أطلالاً كالحة, كان حاضر الذهن, حار القريحة, جذابًا في تعليقاته الساخرة والشائكة – يحتل الشاعر أبو نواس, شعرًا وسلوكًا – موقعًا واضحًا فيها, وليس صعبًا أن تختلط هذه التعليقات بمُلح وحلاوة العناصر الرمضانية من فطائر ومكسرات وعصائر, كما أنه من السهل إدراك أن كثيرًا منها أيضًا – هذه التعليقات والحكايات – كان يختلقها ويصطنعها الشيخ راشد لحظة سخونة الاندماج في الكلام – مع الأكل – أو بعد الانتهاء منه, وقد نجحت هذه الشخصية الفريدة – بالرغم من تكرارها في مواقع أخرى – أن تكون عنصرًا رمضانيًا على الموائد العامرة, وفي غير الشهر الكريم أيضًا, إلا أن الأمر لم يعد سهلاً ظهوره الآن, أقصد الشيخ راشد.

والسبب في ذلك أن سهرات رمضان الجميلة ظلت مخدومة بالتفاعل الإنساني, في ذلك الوقت الذي كانت البيوت فيه تبرز قدراتها الخاصة في تجهيز المأكولات ومختلف مشروبات السهر الرمضاني, مع النصوص الدينية: تجويدًا وقراءة وترتيلاً, وانشراح النفوس يؤثر في التواصل والإدراك, وهو ما تقلّص الآن, لم يتقلص فقط, بل اندثر, بسبب سطوة التلفزيون بمسلسلاته وألغازه وإعلاناته وفوازيره وحلقاته ذات المواقف الضاحكة والمحرجة أيضًا, مع أهمية أن معظم المأكولات بكل أنواعها تأتي جاهزة, ومغلفة بالرقة والجمال, وما يساعد على أن تظل الجماجم – بعيونها – مطارًا مسطحًا لاستقبال مختلف مراكز الإرسال التلفزيوني دون سمر أو تعليق أو مسامرة حميمة, مع اتساع الابتسامة المتماوجة في المجالات الكهربائية والمغنطيسية.

كلمات لها معنى

هذا الصمت السابق على أذان مغرب رمضان الكريم, يستغرق حتى الكلاب والقطط فتظل بلا نباح أو مواء.
لا حفلات زواج تقام في هذا الشهر الكريم, وتحدد ليلة الدخلة – دائمًا – ليلة الخميس الأخيرة التي تسبق عيد الفطر.
الوقفة هي اليوم السابق على عيد الأضحى, ومع ذلك فقد تعوّد شعبنا أن يتعامل مع اليوم السابق لعيد الفطر بالإحساس ذاته دون الطقوس.
محرم ورجب وشعبان ورمضان وربيع أسماء منتشرة في كل أقطارنا العربية, أين صفر وجمادى وشوال وذو القعدة وذو الحجة??
كنا نتراهن – ونحن صغار – أن قمر رمضان منذ ظهوره هلالاً, ثم وصوله إلى اتساع البدر, لا يمكن للسحب أو الضباب أن تحجبه.
محمد مستجاب