fenon

رسائل لم تنشر .. التشكيل بالنور في أعمال عز الدين نجيب .. الرسالة التاسعة

بقلم: د. رضا شحاتة أبوالمجد

تضج الصحراء بالضوء ومع ذلك فالأشياء فيها لا تلتمع ، لا تعكس الضوء الظاهر، فسلطة النور كمعنى تتجه للداخل ، إلى الخفاء تحت السطح في الحد الآخر من النفس الذي يتلامس مع السر مع كينونة الأشياء ، حيث تستمد الأماكن وهجها وغموضها وجلالها من نور الباطن ، نور الأبدية الساكن في الأعماق .

في الواحة .. الحوائط بلون ضوء غروب الشمس الوردي .

في الواحة .. ضوء أخضر كثيف ومتموج من النخيل يبزغ من بعيد

في الواحة .. تلمع مرايا كثيرة من الفضة في مياه النبع.

في الواحة .. يطفو من الظلمة الجبال والتلال البعيدة في ضوء القمر .

في الصحراء .. إلتماعات السراب الزرقاء ، الضوء والرمل الأبيض .

فى الصحراء الشمس ساطعة الضوء , شديدة فى أغلب الأوقات .. فى الصحراء لا توجد غيوم تشتت الضوء أو تخفض من درجتة فى ظل هذا المناخ تنبثق جمالية التباين الشديد بين الضوء الرئيسى الساقط على الأشكال وبين الضوء الثانوى الذى يسكن الظلال فى زقاق الصحراء .

وهذا التباين فى درجة الضوء يساعد على حزف الكثير من التفاصيل والتأكيد على الكثير من الأجزاء , وبين هذا الجدل من الاختفاء والبروز تسكن روحية العمل الفنى عند “عزالدين نجيب” .

النور في الصحراء طاقة تتفجر في أعماق النفس الإنسانية فهو يمتزج وينصهر في أعماق اللاشعور ، ومهما ابتعد الإنسان في المكان والزمان ، هناك نوعاً من التواصل السري مع ضوء الصحراء ، معنى ذلك .. أينما ذهب عز الدين نجيب فهو مسكون بضوء داخلي يلازمه وهو قريب منه ، وفي هذا الصدد يقول ” أدونيس ” : الضوء الأكثر بعداً

أقرب إلينا من الظلام الأكثر قرباً .

المسافة غالباً خرافة .

الضوء هو جسر الرؤية الذى يسقط على الأشياء ويسكن فى العين والوجدان . إن تعامل عزالدين مع ضوء الصحراء هو تعامل مستقل متحرر من قيد الزمن الطبيعى متجاوزاً المكان فى العالم المادى . وأصبح توزيع الضوء والظل فى تكويناتة يندرج تحت مايسمى بالخصائص الزمنية الإيقاعية المستقلة للضوء , وهذا الاستقلال هو الذى يدخل الحيز الفنى التخوم المشتركة بين المرئى واللامرئى , تلك الحالة الروحية دائمة الدلالة والغارقة فى فعل المعنى المتجدد والمفتوح .

“عز الدين نجيب” هو رجل منتج للأضواء ، فالمكان فى لوحاتة ، ما هو إلا طبقات ضوئية متكسرة لتجسيد غزو النور للمكان ، إنها عملية أسر للضوء على سطح اللوحة حيث تتحول بنية المكان إلى مناخ ضوئي ينبجس من كل جزء فيها حتى في الأماكن المظلمة .

وهو بتلك الإستعارات الضوئية يكشف عن الجدل بين النور والظلمة داخل بنية العمل الفنى وهذا الجدل فى الميراث الإنسانى يصفة أدونيس على غرار القصائد اليابانية القصيرة ” الهايكو ” فيقول :

– الظلام طاغية يحاصر المكان .

– والضوء فارس يحرره .

وفي قصيدة أخرى يكتب أدونيس عن هذه الجدلية أيضاً فيقول :

الضوء لا يعمل إلا مستيقظاً .

الظلام لا يعمل إلا نائماً .

أن أهم ما يميز أسلوب “عزالدين” نجيب فى تناوله للضوء هو هذا المنهج الواضح الذى ينظم بناء حركة الضوء فى المكان الفنى , وهو ما يفكرنا بأسلوب “الكياروسكورو ” وهى طريقة فى التصوير تعنى تلازم الضوء والظل داخل اللوحة , فالمساحات المنيرة تولدها مساحات مظلمة والعكس صحيح .

إن البيوت فى أعمال “عزالدين نجيب” تستحم بالضوء فالسطح في اللوحة عنده تحول إلى جو أثيري شلال من النور ، ويلعب التضاد والجدل بين درجات الفاتح والقاتم ، الظل والنور ودرجاتهما المجدولة بتغير الإيقاع , دوراً في تفجير المعنى بالمكان .

إن عزالدين نجيب يستغل التباين فى الإضاءة بين الأجزاء داخل الحيز الفنى ليوحى لنا بنوع من الدراما التى يحتويها المكان متبعاً إستراتيجية تغيير زوايا سقوط الضوء على المكان ومن ثم تتغير مساحة كل من الضوء والظل بالزيادة والنقصان .

ويمكن قراءة العديد من الرؤى والجمل الضوئية التى يبثها عزالدين نجيب داخل الحيز الفنى وبخاصة اللوحات التى أنجزها فى معرضة” همس الحيطان ” عام 2005 والتى تختلف تبعا لتنوع فعل المعنى واختلاف شخصية المكان وهى تأثيرات ضوئية تمثل مفاتيح للدخول إلى اللوحة وقراءتها ويمكن إيجاز هذه الرؤى فى المشاهد التالية :

مشهد ضوئى (1) : يضع ” عز الدين ” الضوء الرئيسى القوى منبثقاً من العمق أو من منتصف التكوين , ثم يتدرج الضوء فى الانخفاض على الأجزاء نحو الخارج حتى أن المساحات الداكنة تشكل معظم الحواف الخارجية للتكوين .

مشهد ضوئى (2) : يصنع ” عزالدين ” نهرا من الضوء الخلفى للأشكال ومن شأن هذا الضوء أن يرسم هالة من النور تتناثر حول الأشياء وهو ما يؤسس حالة عاطفية غامضة للشكل .

مشهد ضوئى (3) : يضع ” عزالدين ” نجيب ضوء جانبى خلفى وهو ضوء يعمل على تحديد حواف المكان وهيئتة الطوبوغرافية ويترتب على هذة الزاوية فى إسقاط الضوء زيادة مساحات الظل للأشكال .. وأستغل ” عزالدين ” انعكاسات الظلال للحوائط بتحويرها لتوحى بوجود وجوه من الظل ملقاة على الأرض والجدران بدون أن نعرف مصدرها وهذا ما زرع الإحساس بالخوف والغموض فى النفس .

مشهد ضوئى (4) : يضع ” عزالدين ” ضوء جانبى على الأشكال وهو ما يزيد من مساحة الظلال ويزيد نسبة التجسيم حيث يضاء نصف الشكل ويترك نصفه الآخر فى الظلام ليتيح فرصة للذاكرة باستدراجنا للهروب فى المجهول الخفى .

مشهد ضوئى (5) : يستخدم ” عزالدين ” إسقاط الضوء العلوى الذى لا يصل إلا إلى الخطوط والمساحات الأفقية للمكان ويلاحظ هذا حينما يصور الدروب والزقاق المسقوفة والتى تتخللها فتحات علوية لدخول الضوء وهو ما يجعل الأرضيات والمساحات الأفقية المنيرة فى بؤرة الاهتمام بسبب زيادة كمية الضوء الساقط عليها .

خلاصة الأمر .. حيثما يكون الضوء تكون مشاعرنا ، هنا ينبثق المعنى ، ويتحول الضوء إلى كلام ، إلى حضور عبر إشراق ظلمة المكان ، فكل ما يضيء يرى ، وكل ما هو مظلم خفي غير قابل للوجود .

في أعمال ” عز الدين” نجيب الضوء والنور الملون هما من عناصر التشكيل ، حيث يتحول الحيز إلى أبعاد ضوئية وفيض متدفق من إيقاعات النور المختزنة التي تعطى البعد الروحي للمكان . فالمتأمل للجدران والدروب والبيوت في لوحاته يجد أنها تختزن الضوء والتوهج ، فالإضاءات التي تشع من تحت طبقات اللون ، هي إضاءات داخلية ملونة تحرر الروح المشبوبة من منطق الضوء الطبيعي .

فالجرس الروحي للضوء الملون حينما يندمج بالأشكال يولد مناخاً روحياً للمكان .

– نحن هنا أمام منطق جديد لتوزيع الضوء بعيداً عن الخصائص الإيقاعية لقوانين الضوء الطبيعي ، إنه الإنسان “عزالدين نجيب” منتج نوره الذاتي ، النور الباطن القادم من الأعماق .

د.  رضا شحاتة أبوالمجد

ملحوظة .. الأساتذة والأخوة الكرام . المقال للقراءة .. وغير مطالبين بالتعليق .. ولكم حرية إبداء الرأى والتعقيب إذا لزم الأمر ..