fenon

حكاية نهضة مصر | سيد هويدي

بقلم سيد هويدي
ملحوظة: النص هو فصل من كتاب “المبشرون” تحت الطبع

محمود مختار.. أغنية “جرانيتية” وهبتنا الخلود !
مازال مثال مصر الأول “محمود مختار” (1891-1934) يمثل علامة فارقه فى حياتنا الفنية رغم عمره القصير ومسيرته الخاطفة. ومازالت أعماله لها نفس السحر الذى كانت عليه فى عشرينات القرن العشرين، ليس بسبب تميزه كباعث للفن الحديث، ورائد للنحت العربى، عندما التقط الأزميل الذى هوى من يد أخر فنان فرعوني، وأعاد مجداً قديما، وليس لأنه صاحب تمثال نهضة مصر الذى كان شعار
مرحلة بأكملها، لكن لأنه جاء تعبيرا عن الضمير الجمعى للأمة، فقد كانت مسيرة صعوده من رحم الريف المصرى الى سدة الريادة، رحلة كفاح جيل، حفظت القرية بذرته الأصيلة فى أرضها، وبعثته الى العاصمة، ومن ثم الى أوروبا، لقد عاش مختار تجربة فنية ثرية، تدعونا الى التأمل، وتثير فينا الشجن والحنين، ووشائج الحب التى تدعونا وتربطنا بزمن النهضة والثورة، زمن الدعوة للاستقلال، زمن شعر “أحمد شوقي” وتمرد “حافظ إبراهيم”، وصوت الشعب فى الحان فنان الشعب “سيد درويش”.. بلادي بلادي لكى حبى وفؤادي، ونضال زعيم الأمة “سعد زغلول”، زمن التنوير، وتحرير المرأة، وتجاوز الأدب قيود السجع، والتكلف، زمن كشف شامبليون عن كنوز الفن المصر القديم، زمن إنشاء أول برلمان مصرى فى عام 1924.
فبمجرد أن ألقى شامبليون الأضواء على الفن المصرى القديم، ولفت الأبصار الى أهمية الفن فى حياة الشعوب، كيقين غائب، أصبح البعث وعودة الروح هى حلم العشرينات من القرن العشرين، وهو الخيط الذى التقطه “مختار” وغزل على منواله قصائد النهضة، والاعتزاز، والرغبة فى الحرية، من خلال أعماله الإبداعية النحتية ليطرح الفن عموماَ كضرورة قومية، باعتباره أحد المكونات الإنسانية للثقافة المصرية، لذلك كان أثره فى مجال الفنون كأثر الشيخ “محمد عبده”، فى مجال الإصلاح الاجتماعى والديني، وأثر “سعد زغلول” فى مجال الزعامة السياسية، وأثر “طلعت حرب” فى مجال الاقتصادي، واثر الدكتور “طه حسين” فى المجال الفكرى والفلسفي.
شهدت قرية “طنبارة” بالقرب من مدينة المحلة الكبرى بوسط الدلتا مولد “محمود مختار” يوم 10 مايو عام 1891.. لأب هو “الشيخ ابراهيم العيسوى” عمدة القرية، ثم هاجرت الأسرة الى قرية (نشا) إحدى قرى المنصورة وتفتح وعيه على صورة جده لأمه الذى نفى الى السودان فى عهد الخديوي إسماعيل، عقاباً على تمرده ضد الظلم الذى كان يقع على الفلاحين من أجل جباية الضرائب، فقد اتخذت سيرة الجد فى حكايات أهل القرية شكل الأسطورة، فقد كانت قصة النفي تروى مع قصص الأساطير الشعبية .. كيف كان الجد يعلمهم الزراعة، ويرشدهم الى صناعة الشواديف، فتداخلت القصـة مع الأسطورة المصرية القديمة “اوزريس” الذى علم سكان مصر الزراعة قبل بداية التاريخ .. فيبدو أن القصة بما حملته من معان، ترسخت فى وجدان مختار مبكراً.
ولم يتخل مختار عن روح القرية والتمرد عندما دفعته الأقدار الى أن يرحل الى القاهرة، فعاش فى إحيائها القديمة، وتأثر بخصال أهل الحى وتعلم منهم أكثر مما تعلم من مدارسه، وما أن فتحت مدرسة الفنون الجميلة بدرب الجماميز أبوابها فى العام 1908، تلك المدرسة التى كانت على مقربة من بيته، حتى تقدم إليها، وتشهد المدرسة نبوغ مختار المبكر، فيوصى أستاذه “مسيو جيوم لابلانى” فى تقريره بسفر مختار مبعوثا إلى باريس، ويوافق الأمير “يوسف كمال” صاحب المدرسة ومنشأها على البعثة.
ويسافر مختار إلى باريس فى العام 1911، تاركا ورائه مصيراً مجهولا لقصة حب غامضة مع إحدى قريبات أستاذ فن التصوير فى المدرسة “باولو فورشيلا” ويتقدم مختار للالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة الفرنسية ” البوزار” مع أكثر من مائة متقدم، جاءوا من فرنسا، ومن سائر أنحاء الأرض ويفوز مختار بالمقدمة، ويلفت نظر أستاذه الجديد “كوتان” إلى موهبته.
والفنان “كوتان” هو صاحب التماثيل البرونزية التى تزين كوبرى الإسكندر بباريس فهو ليس مجرد معلم فن، وإنما فنان مرموق أيضا، كما تتلمذ “مختار” على يدى الأساتذين “مرسسييه” و”انجلبرت” وبدأ يتطلع إلى الفنانين الكبار، فيتقدم فى العام 1913 إلى المعرض السنوى للفنانين الفرنسيين “صالون باريس”، بتمثال يصور شخصية “عايدة” بطلة أوبرا “فيردى” التى تحمل نفس الاسم .. لكن قبول تمثاله لفت نظره لإحترام الأوساط الفنية للطراز الفنى الفرعونى، فى الوقت الذى كان يتطلع فيه “مختار” إلى النموذج النحتى الإغريقي والأفريقي .. لذلك عندما يعود الى القاهرة فى أول زيارة وهو فى الثانية والعشرين، يتجه الى متحف “الانتكخانة” لدراسة كل مافيه، حيث وقف متأملا للتراث الفرعونى، فى هذه الأثناء طلب إليه أن يعمل ناظراً لمدرسة مكان أستاذه “لابلانى” فيرفض رغم إغراء المنصب، لأنه مازال فى بداية الطريق، ولأنه اختط لنفسه أملاً تضيق عنه قيود المناصب.
على الرغم من أن عودة “مختار” إلى باريس هذه المرة كانت محملة بالأمانى، واليقظة، والتحدى، والرغبة فى بعث مجد قديم، إلا أن نذر الحرب العالمية الأولى كانت تتجمع، فواجه أياماً من الضيق والفقر، فاضطر للعمل فى مصانع الذخيرة، بعد أن انقطعت موارده، وإن كان حفظ لفنه ما تبقى من وقت عمله بالمصنع، وفى الوقت الذى كان يسمع فيه أزيز طائرات الحرب العالمية الأولى فى سماء باريس دعى إلى منصب أخر كان يشغله أستاذه- مدير متحف جريفين بباريس- المسيو “لابلانى”، ويقبل “مختار” هذه المهمة التى تعوضه عن عمله بمصنع الذخيرة، وتضعه على رأس أهم متاحف الشمع فى العالم إلى جانب متحف مدام “توسو” فى لندن.
انصب اهتمام المتحف فى هذه الفترة على عمل تماثيل لأبطال الحرب، وقادة أوروبا، وأمريكا، كما أتاح وجوده فى المتحف أن يشهد جلسات مؤتمر السلام، بل ويتابعها مسجلاً ملامح وجوه أقطاب المؤتمر.. كما وجدها فرصة ليعلن عن تقديره وحبه لفن الباليه عندما أنجز تمثال “آنا بافلوفا” أعظم راقصة باليه فى مطلع القرن الماضى، ويعبر عن حماسه لموهبة فنية جديدة، جاءت من الريف مثله هى الفنانة “أم كلثوم” فيصورها “مختار” فى تمثال يفيض بالرقة والشجن والجمال من الشمع، وإن كان بعد ذلك أقام لها تمثالاً أخر عرضه فى باريس.
وما إن وضعت الحرب أوزارها، وفتحت المعارض أبوابها، حتى حمل “مختار” تمثال “نهضة مصر” – الكائن الآن كتمثال ميداني أمام جامعة القاهرة – إلى معرض الفنانين الفرنسيين، ليصبح أول شعاع تنبثق منه ملامح نهضة الفن المصرى بعد فترة انحسار طويلة، ويتم قبول التمثال ضمن 60 عملاً نحتياً، من بين ألفى تمثال تم تقديمها للصالون، الذى كان أول معرض يقام فى باريس بعد الحرب، وافتتحه رئيس الجمهورية الفرنسية، وإذا بالطلبة الدراسيين المصريين فى باريس، يصطفون هاتفين للتمثال ولاستقلال مصر خلال موكب رئيس الجمهورية ويفوز تمثال مختار بإحدى جوائز الصالون، ويحظى العمل بتناول نقاد الفن على صفحات “الفيجارو”، “الالستراسيون” و”الطاف” و”المجلة الحديثة للفنون” فتهتز مصر فخرا وطربا بالفلاح “محمود مختار” الذى يقدم تمثالاً يجسد فيه مطلب بلاده فى الاستقلال والعدالة والدستور، وهو الأمر الذى يسمع صداه لدى الوفد المصرى فى باريس برئاسة الزعيم “سعد زغلول” أثناء دعوة الوفد لاستقلال مصر، فيتعرف أعضاء الوفد على مختار وعلى تمثال نهضة مصر، فيعودون إلى القاهرة متحدثين عن الفنان وتمثاله.
بمجرد عودة “مختار” إلى أرض الوطن فى العام 1920 توالت المقالات فى الصحف والمجلات تطالب بالاكتتاب لإقامة التمثال، وتم عرض نموذج التمثال بدار جريدة الأخبار، التى كان يملكها “أمين الرافعى” وتمحورت الدعوة لإقامة تمثال نهضة مصر فى محورين، عبر عنهما الرافعى فى مقالاته .. المحور الأول إقناع العالم بأن مصر لا تزال تعنى بالفنون الجميلة فهى ساعية إلى استعادة مجدها القديم، أما الثانى فهو الإعلان عن القضية المصرية بطريقة تلفت الأنظار أفضل من غيرها.

محمود مختار 3/6
وتجلى عطاء الشعب فى التعبير عن موقفه فى استجابته للاكتتاب لإقامة التمثال ووقف الخطباء يشيدون بعبقرية مختار، بل ظهر بين رجال الأزهر دعاة لإقامة التمثال، وكان منهم من يجمع التبرعات عقب صلاة الجمعة، فجمعت لجنة التمثال “6500” جنيه من القرى والمصانع، المدارس، ودواوين الحكومية، وطلبت لجنة التمثال من الحكومة الترخيص بإقامته فى ميدان محطة السكة الحديد الرئيسية بمدخل العاصمة “ميدان باب الحديد.. وهو ميدان “رمسيس” الآن فقرر مجلس الوزراء تحت الضغط الجماهيرى فى 25 يونيه 1921 الموافقة على ذلك، لكن صراع القوى السياسية الذى دار بين حزب الوفد ويؤازره المفكرون والمثقفون اللذين تحمسوا لفكرة التمثال، والأحزاب الخارجة على الوفد التى عملت على تعطيل إقامته، أدت إلى تأخير إقامة التمثال، بالإضافة إلى بيروقراطية الإدارة، خاصة أن تمثال نهضة مصر هو أول تمثال يستخدم فيه حجر الجرانيت منذ قدماء المصريين، كما أنه يصور أبا الهول يهم واقفاً بينما اتكأت عليه الفلاحة، فى وقت كانت فيه التماثيل الميدانية حكراً على الحكام والقادة، لذلك بعد أن أنجز مختار تمثاله، ظل الملك يؤجل إزاحة الستار عن التمثال أكثر من ستة شهور.
فقد شهدت الفترة من يونيه عام 1921، وحتى إزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر فى ميدان باب الحديد فى مايو عام 1928 كفاحا حضاريا، يكشف عن شوق الضمير الجمعى للفنون، ظل فيها التمثال سبع سنوات مطلباً شعبياً، متخطياً كل العقبات التى وقفت فى طريق إقامته، وحضر الملك حفل إزاحة الستار، لكن فى لحظات الاحتفال الرسمي انعزل “مختار” بعيداً عن مظاهر الاحتفال، مع مجموعة من الأصدقاء، وعندما طلب الملك استدعاءه لم يجده رجال التشريفات، وبدأ الحرج يرتسم على الوجوه، وأخيراًُ وجدوه بعد بحث فى الجانب الأخر من الميدان يمزح مع بعض الأصدقاء، بل كان “مختار” يردد دائماً: “لست صاحب التمثال بل الشعب هو صاحبه” لذلك تنازل عن مستحقاته المالية التى حكم له بها القضاء.
وعلى الرغم من أن “مختار” كان واحداً من أقطاب حزب الوفد، فإنه لم يشترك فى الحياة السياسية أشتراكاً مباشراً، وانشغل بالجانب الثقافى والفنى، حيث وجه طاقتة فى هذا الاتجاة إلى كتابة المقالات فى الصحف من حين لأخر، مفرقاُ بين الفنون المختلفة، وداعياً إلى ضرورة إقامة المدارس الفنية وإنشاء المتاحف وجمعيات الفنون، مع العناية بالبعثات الفنية، وأكد فى أغلب مقالاته على حرية الفنان فى التعبير بوحي من موهبته بواعظ من ضميره، منطلقا من قناعة أن الفن أحد عناصر البنية الأساسية لثقافة الأمم.
أما الجانب النقدي فقد ظهر فى مقالاته من خلال الحوار الذى دار بينه وبين العقاد والمازني على صفحات مجلة (السياسة) حول تمثال نهضة مصر الذى كان ينتقدانه بشدة، حيث يقول المازني: “أن تمثال نهضة مصر كان حقيقياً أن يكون أوفى فيما أرى لو أن أبا الهول ظل رابضاً إلى جانب الفتاة المعتمدة عليه أشارة إلى اتكاء مصر الحديثة على ماضيها، واعتزازها به واستيحائها أياة، أو لو أن التمثال خلا من الفتاة.
ورغم الصداقة التى جمعت بين “المازنى” و “مختار” لدرجة أنهما ومعهما “العقاد” والأديبة “مى زيادة” جمعتهم “جماعة الخيال” فإن الوعى بمقدرات الأمة والاعتداد بالنفس، كان سمة هذا الجيل، فرد “مختار” على صديقه الكاتب ويصفه بالنابه.. حين قال: “وأنى لا احسب ناقدى النابه متفضلاً باعتبار أن لأبى الهول وهو مخلوق وهمى جمع بين الأنسان والحيوان أن ينهض كما يريد من الخلف، ومن الأمام أو على رأسه.. والواقع أن الفن لا يصبح فناً حقاً، الا إذا هو عرف كيف ينجو من الحقيقة ليصل إلى الخيال والهوى، والواقع أنى كنت أستطيع بعد استئذان “المازنى” أن، أجعل أبا الهول ينهض على رأسه أو على ذيله وكانت المناقشة تقف بينى وبينه، على أنى أريد أن أبرر وجهة نظرى كى أحول دون وقوع الناس فى الخطأ الذى وقع فيه الأستاذ “المازنى” وهو يزعم أن الحيوان من الجمل إلى القط ينهض رافعاً ساقيه من الخلف ثم يرفع ساقيه من الأمام، وما أخطأ هذا التصور وأنى لأدعوك إلى زيارة حديقة الحيوان إذا لم يكن عندك قط أو كلب” ثم يدلل مختار فى رده على “المازنى” بأن الخيل تنهض برفع ساقيها من الأمام مشيراً إلى اللوحة المعلقة فى قصر “فونتينبلو” والتى تجسد نابليون فوق جواده الناهض الذى شد ساقيه من الأمام شداً يدل على النبل والكبرياء.
كان “مختار” ابن العمدة يلقب بين أصدقائه فى باريس باسم “العمدة” فقد كان.. هو الملاذ الأول للتنظيم السرى لحزب الوفد، والذى أطلق على نفسه اسم “اليد السوداء” حيث كان أعضاؤه فى حركتهم ضد الأحتلال الإنجليزى يتعرضون للبطش، والمطاردة، فإذا ما انكشف أمر أحد أفراده، قام التنظيم بتهربيه إلى فرنسا، حيث يستكمل دراسته، إذا كان طالباً، ويواصل نشاطه فى الدعوة إلى قضية الاستقلال مع بقية المصريين هناك، ويشارك فى الحياة الثقافية، لذلك كان أعضاء التنظيم من أوائل من عرض عليهم “مختار” النموذج المصغر من تمثال نهضة مصر، فتحمسوا له، وجمعوا التبرعات فيما بينهم لينفذ الفنان هذه الفكرة من الرخام.
مع ذلك انصب جهد “مختار” وطاقته فى الدعوة لأهمية الفن فى حياتنا، سواء بأعماله التى تمحورت حول البطولة، واليقظة وعودة الروح، وتمجيد قيمة العمل، أو من خلال العمل العام المتصل اتصالاً مباشراً بالنشاط الفنى، حيث شارك فى تكوين “الجمعية المصرية للفنون” التى كونها فى عام 1923، مع الفنانين “راغب عياد”، “يوسف كامل”، وفى العام 1927 كون “محمود مختار” جماعة الخيال، لكن هذه المرة جاء أعضاؤها من خارج الوسط التشكيلى، عبر الصحافة الفنية.
كما يرجع الفضل لمختار فى إيجاد جهاز مختص بالفنون الجميلة فى مصر، وبدء البعثات الرسمية لدراسة الفن وتخصيص اعتمادات مالية فى ميزانية الدولة للفنون، وأيضا المساهمة فى تنظيم مدرسة الفنون الجميلة العليا فى العام 1928.
وتعد الفترة من إصدار الدستور المصرى فى العام 1923، وحتى العام 1930، ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية، من أخصب سنوات المثال ” محمود مختار” أنتاجاً فنياً، رغم العقبات التى واجهت إقامة تمثال نهضة مصر، حيث أقام معظم تماثيله الصغيرة، بل أتجه إلى عمل نماذج مصغرة للتماثيل الصريحة التى كان يحلم بإقامتها، ميدانياً، وعندما أقامت جماعة الخيال معرضها الثانى فى مرسم المستشرق “روجيه بريفال” اقتنى رئيس الوزراء أحد تماثيل مختار، كما أقتنت سيدة أمريكية تمثالاً أخر أهدته إلى متحف “المترو بوليتان” بنيويورك فيما بعد.
إذا كان ” مختار” قد شغلته من البداية فكرة البعث، باعتبارها أرثاً يصل إلى جيناته الوراثية الفرعونية، فالخلود ظل هدفه، يسعى إليه من خلال بناء تماثيله، فقد جاءت أعماله تتمتع بسمات الفن الفرعونى من حيث الثبات والشكل المتماسك الرصين المستقر، متأثراُ بمقولة الفنان ” مايكل أنجلو” التى يقول فيها: “كى تكون تحفة فنية جديرة بهذا الاسم يجب أن يقذف بها من شاهق وتظل عناصرها المكونة لها متماسكة لا ينفصل أحدها عن الأخر، يجب أن تبقى بعد إنحضارها كاملة خالصة أو أن تتحول رماداً يذرى هباء” وهى المقولة التى تعد أحد مفاتيح أسلوب مختار، وجعلته يعطى للكتلة والوحدة أولوية مطلقة.
لذلك مازالت أعمال الفنان “مختار” باقية تحتفظ بنفس السحر الذى كانت عليه قبل ثمانية عقود من الآن، منذ أن تحول فن النحت على يديه إلى فن رفيع، بعد أن كان مجرد حرفة كالتجارة والحدادة، كما أستطاع أن يحقق جانباً مهماً من المعادلة الصعبة فى العملية الإبداعية من خلال ارتباطه بحاضره وإيقاع عصره، وإتكائه على التراث، وتطلعه إلى المستقبل فعلى الرغم من أن “مختار” ظهر فى عصر النحات الفرنسى “ارستيد مايول” “1861 –1944” والنحات الفرنسى الشهير “اوجوست ردوان” “1840 –1917” الذى مهد لاتجاهات الفن الحديث فى أوروبا، الا أنه لم يقع تحت التأثير الطاغى لهؤلاء وغيرهم، فى وقت كانت باريس مع بداية القرن تتمرد على القديم، وتفتح النوافذ للاتجاهات الحديثة.
ظهرت المرأة فى أعمال “مختار” النحتية تتمتع بأنوثة طاغية، لكنها لا تثير غرائز بقدر ما هى بحث فى قيم جمالية مطلقة وسعياً إلى نموذج مثالى، فقد جاءت الفلاحات أشبه براقصات الباليه، تلك هى الروح التى ملأت إبداعات مختار وأخذت بشغاف قلبه، معتمداً على الخط البسيط الصريح، وصفاء الشكل، وهى العناصر التى تنفق مع بساطة القرية المصرية وانبساط الحقول وانسياب المياة فى الجداول.
ويبقى أن “مختار” اتخذ طريقاً من القرية، وحتى المحافل الدولية، مخترقاً كل الحواجز التى تصنعها الظروف الحياتية الضيقة، ومتجاوزاً التعقيدات السياسية، شأنه فى ذلك شأن جيله، الذى أثر أن يأخذ إعترافاً من الشعب بشرعية الدور والمهمة وضرورة بلوغ الهدف فى إطار وعى بالفعل المكتمل، لذلك يعد تأثير مختار، كتأثيررموز التنوير فى العصر الحديث، “سعد زغلول” فى مجال الزعامة السياسية، وسيد درويش فى مجال التلحين، و “مصطفى عبد الرازق” فى الحقوق الدستورية، و “أحمد شوقى” و “حافظ إبراهيم” فى الشعر، و “العقاد” فى الأدب.