fenon

بين النفر… والنَّفْرور – للكاتب محمد مستجاب

بين النفر… والنَّفْرور

ظل القط النَّفور يحاصر نومي خلال دهور طفولتي وصبيانيتي, كان مواؤه يخترق – في شراسة – زقزقة عصافير النخيل في البكور, وعندما أراه, تحت تيارات دخان فرن الخبيز الذي تكمن بين جمراته الأواني الفخارية ذات اللحوم الملتهبة, يظل القط النفور مكشّرًا عن أنيابه, مستعدًا للهجوم الشرس, دون أي ممارسة لأي هجوم, لكنه يظل مرعبًا, وعندما كانت كفّ أمي تمتد إلى أنواع أخرى من القطط والكلاب: تنحني رءوسها حبّا وامتثالاً وطلبًا للطعام, ولم أكن أدري – حينذاك – أن قواعد النفور تنتشر بين مخلوقات متناثرة بين الخراف والجديان (ذكور الماعز) والأوز والبط والخيول والظباء والجمال, والبشر أيضًا, حتى أن النفري – الذي أصبح شهيرًا لدى عدد من ثوار الثقافة المعاصرة – لم أجد له أثرًا, أو عنه سطرًا واحدًا في الموسوعات, لقد كان ابن عبدالجبار بن الحسن النفري من أكثر الشخصيات غموضًا في التاريخ الفلسفي أو الإبداعي, ولم يعرف له سوى كتاب شهير – الآن – هو (المواقف والمخاطبات) وهو الكتاب الذي قيل إن النفري لم يكتبه, بل كتبه ابن بنته أو أحد تلاميذه كما جاء في الطبعة التي أصدرتها دار الكتب المصرية بعد أن تحمّس له عام 1934 المستشرق الإنجليزي نيكلسون, شديد الإعجاب بالشطحات غير المرغوب فيها إزاء العقائد الدينية, ولقد رحل النفري بين عامي 354 و361 هجرية.

والنفور – في المعجم الوسيط – هو الخروج أو هَجْر الوطن والضرب في الأرض, ولذا فإن النفور عندما يصيب الجسد الإنساني – دون النفس الإنسانية – يعني ذاك الورم الذي يؤذي اللحم والأعصاب, متوازيًا مع نفور الزوجة من زوجها حينما تعرض عنه وتصدّه, فإذا نفرت الجماعة من الناس ضد العدو ذي الخطر عليهم: يصبح النفور حالة أخرى يقوم بالتنبيه إليها – في الجيوش الحديثة – النفير حينما ينطلق مؤذنًا بالاستعداد تمهيدًا للدفاع أو الهجوم, ومن الغريب أن هذا النفير لم يرد في المعجم الوسيط: أحدث وأشهر معاجم مجمع اللغة العربية, تمامًا كما لم يرد النفري – المشار إليه – في الموسوعات, في حين وردت النافورة التي تنبثق مياهها في ميادين المدن – خاصة العواصم – متألقة في أضواء كهرباء ناعمة وساحرة.

والنَّفر يطلق على الفرد, أي الشخص الواحد, واعتدنا أن يختص لفظ النفر على ذوي الاحتياج, هؤلاء الذين يُستدعون للعمل في أشغال يدوية أو استخدامًا للفأس وما يقاربها تقليبًا للأرض أو قطعًا لجريد النخيل, أي الأعمال المحدودة, لكن النفر أيضًا يطلق على الجماعة من ثلاثة إلى عشرة رجال, ومنه جاء موروثنا في الجملة المشهورة (فلان لا في العير ولا في النفير), والعير ما يجلب عليه الطعام والاحتياجات من قوافل الإبل والبغال والحمير, وتطلق هذه الجملة – أو المثل – تعبيرًا عن الفرد الصغير القدر, أو الذي تنقصه القدرة على الحركة الفاعلة النشطة, وربما يكون المصطلح المعاصر – (السّلبي) – أي فاقد الإيجابية تعنيه أيضًا.

إلاّ أن عددًا من زوجات قدماء المصريين دخلن التاريخ المبكر متوجات بالنفر, أشهرهن: نفرتاري سيدة زوجات رمسيس الثاني والمهيمنة على قصره, ولها هيكل بين هياكل آثار أبي سنبل في جنوب مصر, ونفرتيتي: زوجة أخناتون وشريكته في الخروج على عبادة (آمون) ليصبح (آتون), ثم ما حدث بعد ذلك من كوارث الارتداد, وتقول الموسوعة العربية الميسرة إن نفرتيتي واجهت مأساة مروعة بعد وفاة زوجها الملك أخناتون, فاستنجدت بواحد من أعداء زوجها الراحل, فأرسل إليها بواحد من أبنائه ليتزوجها ويشاركها في العرش, لكن الرواية لم تكتمل, فهناك مَن كمن له في طريقه إلى نفرتيتي, وقام باغتياله, وتظل منطقة (تل العمارنة) حتى الآن تحكي حكاياها عن هذه الملكة نفرتيتي, والتي لها – بين كنوز متحف برلين في ألمانيا – تمثال نصفي رائع مشهور, وآخر في متحف القاهرة, وقريتنا – ديروط الشريف – تنظر بنصف عين إلى تل العمارنة – عاصمة نفرتيتي وأخناتون – حيث لا تزيد المسافة بيننا على عشرين كيلومترًا, لكنها – هذه العاصمة القديمة – دخلت التاريخ المبكر, وهو ما تحاول قريتنا أن تفعله الآن.

ويحظى العصفور في أيام الطيش والنزق – أي قبل أن تهيمن عليه عصفورة ذات بهاء وذكاء – بلقب النَّفْرور, لاحظ القياس الصوتي والإيقاعي بين العصفور والنفرور, إنه الفعلول بوزنه اللغوي الجميل الذي جاء على تكويناته: زغلول – خفيف الروح – والطفل – وفرخ الحمام أيضًا, ثم: البهلول الجامع لصفات الخير والمرح والفكاهة (وقد تولد منه البهلوان المعروف), والشملول: غصن الشجرة المتشعب بالأوراق النضرة, والذي في السياق خارج المعاجم, فإن الشملول هو ذلك الذي يمتلك اتساعًا مفتعلاً ونشطًا في المعرفة العامة, والذي كثيرًا ما تردد – أي الشملول – في أفلام نجيب الريحاني وبشارة واكيم. عليك أن تتذكر نفرورًا آخر: إنه الزرزور, وحتى لا نعود إلى النفور والتنافر, فتدخل علينا المخاصمة, فإن المنافرة – في واحدة من معانيها – تعني المفاخرة وإعلان المجد الشخصي, ثم هناك عندنا في الأرياف – خارج المدن – تعني المنافرة اتجاها لأن يطلق الزوج أو الزوجة لفظًا غير مريح على طفلهما, أي يلقّبانه لقبًا مكروهًا تنفيرًا للجن والعفاريت أو عين الحسود عنه, مثل: شحاتة وهي تعني التسول وطلب المعونة كما هو معروف, وتوازيها في المقصد دون المعنى: الحرامي: أي اللص, والغلبان: أي المحتاج الذي يعاني الغُلب, وما إلى ذلك من ألفاظ التنافر التي تدعونا أن نحمد الله أن منحنا القدرة على الإدراك حينما ورد في سورة الإسراء: {وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرًا}, ليصبح للنفير تأثير نفسي يمنحنا بعض العزاء والارتياح.

كلمات لها معنى

كلانا يعرف, ويتباهى بالمعرفة, ويناجز الآخرين بها, وكلانا يجهل أيضًا.
حتى الغيوم والبرق والرعد ووابل المطر: تظل خارج الأفئدة العامرة الصافية غير قادرة على اختراقها.
أي عدد مذهل من أحفادي, الذين دهموا حجرتي صباح احتفال آبائهم وأمهاتهم بيوم ميلادي, فصرخت في هؤلاء الورثة الذين يحبو نصفهم على الأرض: لماذا تفعلون بي ذلك بعد أن توقفت عن الإنجاب يا ذوي القلوب القاسية??
حينما تدق بيدك دقات ناعمة على باب صديق قديم لم تره منذ سنوات طويلة, فيفتح لك الباب, ويمعن فيك بعينيه, ويبربش بعض الثواني, ثم يفتح ذراعيه, ويعود للإمعان فيك مرة أخرى, لحظات نادرة بالغة التواصل الإنساني.
وقفت الزوجة أمام القاضي تشرح ما تعانيه من زوجها, نظر إليها القاضي في ملل آمرًا أن تختصر, فاستدارت إلى الخلف وخرجت من المحكمة دون أن تسمع أي أمر أو رجاء بعودتها.
عندما تتلألأ الجواهر لتصبح لؤلؤا, تبدأ الأنامل سابحة سعيًا لتلمسها.
محمد مستجاب