fenon

القرن … وقرونه الأخرى – للكاتب محمد مستجاب

القرن … وقرونه الأخرى

مازلت أمعن – ضيق الصدر – في مسألة أن زوجتي هي قرينتي, وأنني: قرينها, فتجتاحني قرائن الاتهام ثم الإدانة في القضايا ذات الحيثيات العصرية المتواترة في الصحف والمجلات, مع أن القرين – بصفته الرفيق المصاحب (لم أقل الصاحب المرافق كي لا تكتمل دوائر الاتهام) – وارد في كل الصفات الزوجية الصافية الأمينة على حوائط وأوراق آثار الأقدمين خلال الحضارات المتعاقبة.

إلاّ أن الأمر يصبح هادئًا عندما نتذكر بداية ظهور قرون الفول الأخضر البلدي والبَعْلي, إشارة إلى متعة الأكل الطازج لهذه الحبوب المنتظمة الغضّة – كالقصائد والموسيقى – داخل القرون, قبل أن تنضج وتصل إلى مرحلة الجفاف. ولعل اقتطاف قرون الفول من نباتاتها في الحقول أعمق تأثيرًآ في النفس – والمزاج الإنساني – من شرائها أكوامًا صغيرة في كفة ميزان الباعة, وعليك ألا تغادر هذه اللحظة الصبيانية المفقودة الآن في القرون الحديثة, ولاسيما القرن الذي مضى من ثلاث سنوات, ثم ذلك الضاغط على أعصابنا الآن بما فيها من ويلات الحروب والانفجارات والمذابح والاجتياح, والغمّ التاريخي الذي يبدو أن قرونه لن تنكسر أبدًا لنصل إلى مراحل الهدوء والألفة والمراوحة بين نفوسنا والبراري والمراعي والحقول الخضراء, لنرى – ونستمتع – بذوات القرون التي تهيم بفطرتها الحرّة دون مشاكسة وتناطح هجومًا ودفاعًا, ذلك أن هذه الحيوانات – الثديية بالذات – تملك ثلاثة أنواع من القرون: قرون جوفاء يتوسط كل قرن عظم ينمو من الجمجمة كما في البقر والجاموس والأغنام والظباء, ثم لا تلبث أن تتفرّع القرون إلى أشكال تذكرك بأغصان الأشجار الجافة المتداخلة كما في الأيائل, والتي في ثالث أنواعها: تتشعب القرون حتى تكاد تجذب كل الأنظار دون الانتباه إلى تكوين حاملها لتجمع بين قرون البقر والأيائل, ليكون قرن الخرتيت, وهو غير الكركدن الذي يكون قرنه ذو الشكل الاستثنائي الفريد: ناميًا فوق أنفه, إنه وحيد القرن والذي يمكن – بحمقه المعروف – أن يكون وحيد القرن العصري أيضًا, والذي يظل متأهبًا لمداهمة الجيران والأصدقاء تنفيذًا لرغبات غير مدروسة, الإشارة قد تعنى – دون أن أقصد – بعض الحكام وحيدي القرن العسكري الدموي المروع, فوق الأنف ليحجب النظر, وداخل الجمجمة أيضًا.

وقد لقب الإسكندر الأكبر المقدوني بذي القرنين, قيل إنه سُمّي بذلك لأنه كان على جانبي رأسه خصلتان عظيمتان من الشعر تشبهان قرني الحيوان, أو لأنه بلغ بجيشه قطري الأرض, وقد أطلق هذا اللقب على كثيرين كالمنذر الأكبر والأقرن ملك اليمن, إلاّ أن الأمر يدخل في دائرة شديدة الحساسية – والحرج – حينما يكون القرنان صفة لشخص ما (دون أن يكون اللفظ صياغة لمثنى قرن), إذ إن القرنين نعت سوء للرجل الذي لا غيرة له على أهله, إنه نعت مشهور بيننا دون أن نتجرأ فنكتبه أو نسجله, مع أنه مرصود في (المعجم الوسيط) بطريقة هادئة دون اقتران الأمر بالحرج, كما أن القرنين مرسومان بوضوح في كل التشكيلات التي تناولت إبليس زعيم الشياطين ذا النشاط الشرير المداهم للنفوس منذ الحادثة الشهيرة التي أودت بأمنا حواء وأبينا آدم للنزول من الفردوس إلى ذلك العالم المرهق, حيث ولدنا جميعا فيه.

علينا أن نتنفس قليلا لعلّنا نجد من يستضيفنا في القرن الذهبي – ذراع البوسفور التركي – حيث تقع مدينة استانبول, والتي كانت بموقعها الفريد وجمالها الراقي عاصمة للإمبراطورية العثمانية في العصور الحديثة, وكان اسمها القسطنطينية في العصور الوسطى والقديمة, وهي الآن تضم كنوز الفن الإسلامي وآثار حضاراتنا برغم انتقال العاصمة إلى أنقرة عام 1923, فإذا استعصى علينا أن نصل إلى القرن الذهبي بتاريخه وجماله فيمكن لي أن أشيرإلى قرية القرنة, ذات الطبيعة الجبلية قريبًا من وادي الملوك (أشهر منطقة أثرية في العالم) في الجبل الغربي المقابل لعاصمة مصر القديمة طيبة, والتي أصبحت الآن مدينة الأقصر المعروفة, وتنتشر منازل قرية القرنة بين قبور الأفراد (وليست قبور الملوك والحكام), منذ عهد الفراعنة, وهي التي كتب عنها الروائي الراحل فتحي غانم عمله الشهير: الجبل, أيام أن حاولوا تهجير سكانها إلى منطقة أخرى بعيدًا عن القبور الأثرية التي يداوم الأهالي الحفر فيها بحثًا عن كنوز الأقدمين. وقرية القرنة الحديثة هي التي خططها ورسمها وأشرف على إنشائها المهندس المصري الشهير حسن فتحي, ومع أن تكوينات بيوتها عصرية وصحية, فإن الهجرة النهائية لم تتم من القرنة القديمة إلى الحديثة حتى الآن, والمشهد – من بعيد – يتيح لك رؤية القريتين لتحس بما يعنيه التمسك برائحة المكان ذي السطوة المعروفة على نفوسنا نحن الشرقيين – والعرب – بالذات. وليس من السهل أن نبحث عن وسيلة للخروج من مأزق القرون دون الإشارة إلى مدينة القيروان التونسية التي أنشأها الفاتح العربي عقبة بن نافع في بواكير العصر الإسلامي, والتي تشتهر حاليًا بصنع السجاد المنافس للسجاد الإيراني, كما أن بالقيروان جامعًا ذا شهرة معروفة في جماليات بنائه وقبابه ومئذنته, وقد يؤدي بنا ذلك إلى نوع من المقارنة في هندسة إنشاء أشهر المساجد في كل دول العالم, وهو أمر لا نستطيعه, تمامًا مثلما حدث لي حينما جرني الموضوع إلى الأدب المقارن والتشريع المقارن, والذي جعلني ألوذ بقارون – أشهر وزراء الفراعنة المصريين, والذي ورد ذكره في القرآن الكريم ثلاث مرات, أقصد ألوذ ببحيرته في الفيوم – غرب وادي النيل – كي أتنفس في الهدوء الجميل المتسع استقبالاً لشروق الشمس والمبتسم في شجن لغروبها آخر النهار

كلمات لها معنى

أكثر أعضاء الجسد حنوًا وأمومة: الجمجمة حينما تغلق كل ثقوب أو نوافذ الخطر كي لا يصل الهواء إلى المخ ابنها أو جنينها الوحيد, الذي يستنيم داخلها – في أمان – إلى الأبد.
الأستاذ الذي دهمني ببحث في مجلة أدبية نقدية عن إبداعي الرائع في مثل هذه الكلمات, سوف أرفع عليه دعوى تعويض, لأنه وضع عنوانا للبحث: مستجاب.. يتأبط شرًا, وتكرر الإعلان به عن المجلة.
ليس صحيحًا أنك الأذكى, الأكثر دقة أنك الأقل غباء حتى الآن.
محمد مستجاب