fenon

العفـر والعفـريـت – محمد مستجاب

العفـر والعفـريـت

فوجئت – عند ولوجي عالم العفاريت – بأن المعجم الوسيط الذي أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة في عدة طبعات متوالية – توقف عند التعريف بالعفريت بأنه: الخبيث, والنافذ في الأمر مع دهاء, دون أن يربطه بالجان أو أي نوع من الجن, مع أن القرآن الكريم أعلنها بوضوح في سورة النمل {قال عفريت من الجن أنا آتيك به}, وبالتالي فإن رعبي الممتد إلى بدايات الطفولة – حينما كان الذين يشرفون على تربيتي يستعينون بالعفريت كي لا أتجاوز حدود الزحف على الأرض خروجاً من البيت – يصبح ذا معنى ومغزى في التراث الإنساني كله. فالعفريت نوع من الجن وليس مجرد صفة للخبث محدودة المعنى, حتى لو استخدمناها نحن البشر صفة بعد ذلك كأن تقول عن صديق – أو خصم – ذي تفكير شرير: إنه شيطان, إلاّ أن العفريت – كعادته – ارتد بي إلى تلك الأيام التي كان يداهم ظلام ليلتي الممطرة تحت الخُصّ – أي السقف القروي المصنوع من البوص والحطب – بساقه المسلوخة كي يرعبني مهما احتميت بصدر أمي, ومع استبعاد (أبو رجْل مسلوخة) حاليا لضرورة العودة إلى منطقة لغوية أكثر رحابة وأمانا, فإنني أود أن أعيد لفظ العفريت إلى نوع من المدّ أو الامتداد في فن الكلام جعلنا نهزّ عالم الجبر القسري إلى الجبروت: أي القهر الشرس, والملك إلى الملكوت الواسع ذي البراح الشامل لكل تكوينات الكون في الأرض والسموات, وعالم رجل الدين الموروث قبل ظهور الإسلام – أي الكاهن – إلى الكهنوت, ولا ننسى أن الصبر المركز يصبح الصبروت في لغتنا غير المكتوبة, حيث لا أثر للصبروت في كتب اللغة وإن كان قد ورد في دفاتر سجل حصر أفراد المواليد.

ولعلّ العفريت قبل أن أقع معه في مشاكل عدة تكاد تكون قد شملت أحقاب عمري كله – قد جاء أصلاً من العَفَر: أي التراب ذي الكثافة الغبارية, وعفره عفراً – أي مرّغه في الأرض (ومن هذا المرغ أو التمريغ جاءت صفة الحمار المولع بهذا النشاط خلافاً لمعظم الحيوانات ليصبح ابن المراغة – تذكر ما حدث من هجاء بين جرير والفرزدق, (مع استبعاد مدينة المراغة بالصعيد المصري: أرجوك). لكن العفر يمكن أن يصبح نوعاً من المقاومة التي لا يميل المثقفون إلى استعمالها اعتقادا بأنها لغة العوام, حيث لا تجد أثراً في أي نص أدبي للمعافرة التي نستخدمها دائما في تصرفاتنا اليومية: أي المحاولة الدءوب في تصميم وعناد, لكنك حين تعفر الزرع فإنك ترويه للمرة الأولى. كما أن العفر يعني أيضا من لم تطاوعه قدماه في السير, فإذا ما أصاب اللفظ ظبيا فإنه يكون قد خالط بياضه حمرة داكنة فصار لونه كالعفر. لاحظ أنك لو كسرت عين العفر فسوف يكون ذكر الخنزير, لكنك – إن ضممت العين – فإنك تعني: الغليظ الشجاع الشرير, ثم لا يلبث العفر ذو العين المضمومة – أن يخترق الزمن, ليصبح البعد وطول العهد, بل وقلة الزيارة, يقال لمن جاء زائراً بعد غياب طويل: ما تأتينا إلاّ عن عُفر, ثم لا يلبث العفر أن يخترق في تكاسل مواضع البيع والشراء ليعني السوق الكاسدة, أما العفراء – رعاك الله – فهي صفة للأرض البيضاء البكر التي لم توطأ, كما أنها تطلق على الليلة الثالثة عشرة من ليالي الشهر العربي كمقدمة لانتصاف الشهر وما يعنيه عندنا – نحن المسلمين – من إحساس بالطهر والنقاء.

وتحصل الشعرات النابتات في وسط الرأس من الإنسان على لفظ العفراة (بكسر أو فتح العين), فإذا ما تدخّل الأسد بشعر القفا في مؤخرة عنقه فسوف يحس بكبرياء العفراة التي لا يلبث الديك – من الدواجن – أو أي ذكر آخر أن يجد له نصيبا فيها إن ظهرت في عنقه الشعيرات المشار إليها. وقد تذكرت ذلك حينما لاحظت أن بعض أفراد من الجماعات البشرية المتنقلة – كالغجر والنَّوَر والحلب – يميلون إلى الاحتفاظ بخصلات شعر ذات شراسة في مؤخرة العنق, لا تظهر من تحت غطاء الرأس إلا أثناء التصارع الودود – لأني لم أشهد التصارع الدموي مع البشر والأسود.. رأيتها في الديوك فقط..!!

أما العفار فهو تلقيح النخل وإصلاحه, ولا أعرف إن كان ذلك ينسحب أيضا على أنواع أخرى من الأشجار, ولاسيما أن ثمة شجيرات نحيلة يطلق عليها: العفار, فإذا ما رغبنا في قليل من الإمعان فسوف نجد راعي الغنم – والحيوانات الأخرى كالأبقار دون الجاموس – يقوم بتعفيرها: أي يخلط سود الغنم والإبل بالبيض منها, فإذا ما أصاب العفر أو التعفير امرأة فإنها تكون قد مسحت ثديها بالتراب تنفيرا لطفلها وصولا للفطام. وإن قمت – أنت – بممارسة العفر أو التعفير للحم فإنك تقصد تجفيفه على الرمل في الشمس, والعصر الحديث لا يحب أن يمارس ذلك بعد قيام الآلات بالتعفير المناسب لكل أنواع اللحوم في الأكياس والعلب – وفي الثلاجات أيضا.

وقبل أن أعافر في محاولات جادة كي أخرج من كل هذا العفار اللغوي – الجميل – حتى أستريح وأريح, فإنني أود أن أشير – مخلصا – إلى أن ثمة لفظا جاء في اللغة يعني: النافذ في الأمر مع دهاء مكير, إنه العفرِّين, رجاء تشديد الراء, حيث إن العفريت لا يميل إلى هذه التعقيدات وصولا للشّر, تاركا نون العفرِّين للشيطان

كلمات لها معنى

الكلاب الضالة تظل تخفي ذيولها بين أفخاذها جُبناً, وإبراز أنيابها شجاعة وشراسة.
أخطر ما يمكن أن يتعرض له أديب من أخطار: أن يرتحل داخل الكتب والمراجع فقط, الأرض تتسع وتنظر إليه في سخرية.
قانون أينشتاين المروع: الطاقة تساوي الكتلة في مربع سرعة الضوء الصادر من عيون أنثى فاتنة.
الحوائط ولدت علم الهندسة الذي أنجب علم الجبر, فلما استخدمت السياسة الجبر ألقت بنا وراء الحوائط والجدران.
عندما يشرق القمر: تبتسم الجبال والصخور.
محمد مستجاب