fenon

الطبّ .. والتطبيب – للكاتب محمد مستجاب

الطبّ .. والتطبيب
منذ وارى قابيل جثمان شقيقه هابيل, في أول حالة اغتيال في تاريخ البشر, ظهرت بواكير الطب, فمن المؤكد أن القاتل ـ فور اندفاع نار الندم في أعصابه ـ ظل يأمل أن تعود لشقيقه أنفاس الحياة, أو أن يستمر الجثمان سليما دون أن تتلفه عوامل العطب, وهو ما أدى ـ في الأحقاب المرهقة التالية ـ إلى قيام الطب على الإسعاف السريع, ثم فنون التحنيط التي ارتبطت بقدماء المصريين, وخلال ذلك كان الطب ـ دون أية كلية أو معهد أو دراسات سوى الخبرة ـ قد تفرع إلى اجتهادات مذهلة في تجبير العظام, ومعالجة كسور الجمجمة, وتلبيط العيون الرامدة بالمساحيق, وقد عوملت ـ أنا ـ من هذا المنطلق علاجاً لعيني اليمنى التي أصابها حسد المنافسين لي حين كنت أول الناجحين, (وقد ضاعت عيني هذه تحت وقع الجهل, أما عيني اليسرى فهي في طريقها للضياع الآن تحت وقع الثقافة), وكان علاج العيون بمسحوق الشليشم المكون من نيترات الرصاص والنحاس فيما اعتقد ـ يطلقون عليه آنذاك: التلبيط, وقد اندثر ذلك بعد اكتشاف القنبلة الذرية والصواريخ الفضائية بانتشار قطرة العيون بأنواعها المتعددة دون أن تدرى أمي بذلك حتى الآن, حيث لا يزال الطب في جميع المجتمعات ـ حتى التي تبدو على قمة التطور العصري في الغرب الأوربي والأمريكي: مرتبطاً بالسحر والدجل والخرافات والابتكارات الفردية, مع أن هذا العلم تفرع إلى أنواع من الطب استقل كل نوع عن غيره: طب العيون أو الجلد أو الأذن أو القلب أو الأسنان أو المخ أو الأعصاب, ثم هناك الطب النفسي أو الاخصاب ومعالجة العقم والبيطري (الخاص بالحيوانات), أما الطب العقلي فقد أصبح موضوعه تشخيص الاضطرابات العقلية وعلاجها ليتواصل مع الطب النفسي (وكلاهما ـ مع ذلك ـ مستقل), ثم الطب الشرعي الذي يجمع اجتهادات وإنجازات كل أنواع علوم الطب السابقة لتطبيقها على مشكلات القانون والقضاء كإثبات البنوة وحالات العته أي الجنون (من أجل التمهيد لتعيين أو أوصياء في أغلب الحالات) والموت الناجم عن عوامل العنف وصولا إلى حقوق قد يكون من بينها التعويضات للورثة والأقارب.

إلا أن أختى الكبرى كانت تحملني فوق أكتافها صبياً ـ أكبر من كوني طفلا ـ لتذهب بي إلى شيخ اشتهر في ذاك العصر بقدرته الفائقة على إسباغ الشفاء في أجسادنا الكليلة, وكانت خلال المشوار المرهق بين المزارع التي تفصل قريتنا عن مقر الشيخ المعالج ـ تضطر إلى أن تستريح في ظلال المستشفى الكبير دون اهتمام بما يقوم به هذا المستشفى (لاحظ أني لم أرغب في تأنيث المستشفى), وكان باعة الحناء وسفوف الشفاء من دود البطن, والذين يعالجون وجع الدماغ ـ أي ارتفاع ضغط الدم بالحجامة, وخالعو الأسنان, وأخصائيو تجبير العظام, وناقشو الوشم, ومرممو فقرات العنق, وما نحو العرسان الجدد حبوب التزود بالثقة ليلة الزفاف, ومدخلو العويل في الأذن التي تعاني من الصفير المزمن, وتسليك انغلاق الأنف والبلعوم بالسوائل الطيارة ذات الرائحة النفاذة, والقادرون على صياغة التمائم والأحجبة لفك أسر الرغبات الشاحبة أو تنشيطها, كل هؤلاء يجوبون القرى ليقطعوا الطريق بين أهلي والأطباء الذين انتشروا في عصر جمال عبدالناصر ـ أي في مصر ـ يعالجون الناس مجاناً: علاجاً جاداً وصادقاً, دعني أشرح لك بعض ما جاء في هذه السطور من ألفاظ أو تعبيرات لم يجربها أو يسمع بها كثيرون من الأجيال الجديدة: السفوف: أنواع من المساحيق ذات الأصول المعدنية أو النباتية, الحجامة: كوب فارغ يتم تسخينه بحرارة شديدة ثم توضع مقلوبة على منطقة يتم تجريحها في جلد الرأس, وتظل مضغوطة على الجروح حتى تبرد جدران الكوب فيتقلص الهواء فيها ليسحب ما يراه القائمون بالحجامة: دماً فاسداً, ونقش الوشم تجريح في الجلد بالوخز والتلوين, وقد مارسته الجماعات الإنسانية منذ العصور القديمة لأغراض ترتبط بالمقدسات وطقوس الترقب منها, وقد يقترن بالحجامة ـ أو التشريط ـ تعبير الحزن على مفقود أو طلب الحماية من عين الحسود, أو لإبراز امتياز خاص بالفرد أو الجماعة التي ينتمي إليها, ومن المهم أن نشير إلى أن الوشم والكي بالنار ـ وهو غير الحجامة ـ استعمل من زمن طويل, ولا يزال معمولاً به ـ علامة على المجرمين أو المسجونين أو الأسرى من الأعداء تحقيراً لهم, لكن الوشم بدأ يضمحل الآن, بل وقد اندثر في كثير من المجتمعات المعاصرة.

ومن السهل أن نذكر أول طبيب عرف في التاريخ ـ أي مارس الطب وأصبح مهنته وليس مجرد هواية له ـ كان ايمحوتب المصري الذي عاش في عصر الملك زوسر ـ رأس الأسرة الثالثة الفرعونية وصاحب الهرم المدرج (2780 ـ 2760 قبل الميلاد), لكن الأخطر من الأطباء الذين لم يكونوا أطباء: كان راسبوتين الروسي, والذي قتل في الخامسة والأربعين من عمره على يد فريق من النبلاء ـ راهباً ذا سطوة على كل من يقترب منه, مع أنه كان فلاحاً أميا جاهلاً, إلا أنه سيطر على القيصر والقيصرة عن طريق علاجه الخارق لولي العهد المصاب بنزيف الدم, ثم استفحل أمره في الهيمنة على نساء القصر وزوجات النبلاء, ويعد راسبوتين رمزاً عصرياً للعلاج ذي السطوة الشريرة, وهو منتشر ـ بنسبة قدرات أقل كثيرا ـ في سلوك شخصيات مشابهة تخترق التجمعات البشرية ثم تصبح أسطورة فيها ـ ولاسيما بعد اغتيالها, ولعله من المناسب أن نتذكر أن مواليد المنطقة الروسية في سنوات شهرة راسبوتين الكاسحة قبل عام 1916 ـ حملوا اسمه, الذي لم يلبث أن اندثر من دفاتر المواليد بعد ذلك.

وسوف أكون واقعا تحت تأنيب الضمير الطبي الحديث لأني بدأت موضوعا عن الطب بقابيل قاتل أخيه هابيل ثم أنهيه براسبوتين الذي يقول عنه التاريخ المحايد إنه (الفاجر اللعين), دون أن نمر على ابن داود الانطاكي, وجابر بن حيان, وابن أبي أصيبعة, وابن الأحنف (بيطري), وابن الجزار, وابن جزلة (وكان يدرك فضل الموسيقى على شفاء الأبدان), وابن جلجل, وابن خاتمة (وضع كتابا عن وباء الطاعون الذي وقع ببلدته), ومحمد ابن دنيال, والعالم الشهير ابن رشد صاحب الاجتهادات الفلسفية المبكرة والرائعة, وابن طفيل, وابن ميمون, وابن النفيس (مكتشف الدورة الدموية وعلاج ما يصيب الشرايين والرئة), وابن الهيثم البارع في الرياضيات وعلوم الطبيعة ثم الطب, وعلينا أن نأخذ أنفاسنا حتى لا ندخل العصر الحديث بأطبائه العرب ـ في كل أنواع الطب حتى ـ وعذرا ـ المتخصص في علاج السموم وعلى رأسهم المرحوم محمد سليمان, مع اشارة سريعة إلى طبيب متخصص في البايولوجي هو مصطفى إبراهيم فهمي, وقيمته عندي ترجع إلى أنه أصبح صديقي, مع اعفائي من ذكر باقي أطباء العصر.

محمد مستجاب