fenon

الرسم

بقلم الراحل: محمد مستجاب

ارتسمت على وجهي – دون أن أرى وجهي – علامات الغيظ, حينما اتضح لي أن الرسم – هذا الفن الجميل – سوف يقودني إلى الرسوم الحكومية الخاصة بتحصيلها, كالضرائب والجمارك والعبور والمرور في الطرق, دون محاولة الهروب منها في أسعار
الطماطم والقلقاس والملوخية والزواج والميلاد – والطلاق أيضًا, أو الإخلال بحق الرسوم – أي رسوم – بالرفرفة فوق رايات الأوطان والسفن والسجون وسيارات ذوي الشأن والإسعاف وإطفاء الحرائق, ثم تثبت – دون رفرفة – على زجاج مقدمات مركبات تصنيفات السلطة البشرية, ليصبح رسم الهلال إشارة للأطباء, والثعبان الملتوي حول كأس السموم رمزًا للصيادلة.

والصقر – أو النسر لا أدري – وقد وقف بمخالبه بين أغصان زيتون الشرطة أو الجيش, ولا يلبث الميزان ذو الكفتين أن يتهادى معلقًا بين أصابع يد فتاة جميلة فاقدة الإبصار تحقيقًا للعدل المجرد على كل أنواع المحاكم بمداخل مبانيها وأوراق حيثياتها وأوامر قوانينها وأحكامها, وتظل إيزيس – صديقتنا نحن المصريين – تحتل مسطحات الآثار القديمة بجدرانها في الهياكل والمعابد والمقابر وقصور الفراعنة, ويظل أوزوريس واقفًا أمامها في إشفاق ورومانسية, اعتزازًا بما قامت به إيزيس من نشاط أسطوري, حينما فتك به شقيقه (ست)

ومزق جسده, ونثره في أعماق القرى والنجوع والكفور والسراديب, والأناشيد وكتب المدارس, حينئذ قامت إيزيس – زوجته المصون – بالسعي والبحث والسفر في أرجاء المعمورة, لتجمع في صبر أسطوري رائع: كل أعضاء حبيبها, عظامًا محطمة أو جمجمة ممزقة, لكن الرسوم خلت من تحديد نوع الحقيبة أو القفص أو المقطف أو الجوال أو البرميل الذي استطاعت إيزيس المخلصة استخدامه في الإحساس العارم بتحقيق ما لم تستطع أنثى أن تفعله مع رجلها الممزق – حتى في أفلام السينما أو المسرح أو الروايات الأدبية الحديثة – وهو ما أدى بواحد مثلي, يمتلك نوعًا من الأسئلة التي يصعب الإجابة تاريخيًا أو واقعيًا عنها, أن يسأل: ألا يجوز أن تتداخل أعضاؤه مع أعضاء – ممزقة ومنثورة في كل الأركان – لرجال آخرين?

وكيف – بقية السؤال الشرير – استطاعت إيزيس أن تفرز كل هذه الأعضاء لتستبعد ما لا يكون لأوزوريس منها – الرسوم والكتابات لم تقترب من ذلك أبدًا – حتى أنني تركتها بطلة تسعى كل عدة شهور أو سنوات لتجمع هذه الأعضاء, وبعد نجاحها في تركيبها وصياغتها ومعايشتها, يتضح لها أن هذه الأعضاء لم تكن لأوزوريس كلها, وتبدأ من جديد في البحث والتنقيب في كل أرجاء الأساطير عن فضلات وأعضاء قرينها البطل المشار إليه, دون الإخلال بمتعتي حينما أشاهد الرسوم, التي تجمعهما معًا على المسطحات البنائية الأثرية دون أي تمزيق.

والرسم – في أحيان عديدة – يتحول من رسوم ورسومات, إلى طقوس مراسم تعيين كبار العاملين في الحكومات, لكنها تكون في أهدأ وأجمل صورها – هذه المراسم – في استقبال الرؤساء والزعماء, وفي الترحيب بالسفراء في قاعات القصور. ومع أن واحدًا منا لا يستخدم المرسم بصفته مفرد المراسم في هذه الطقوس والبروتوكولات, فإن أصدقاءنا المسيحيين يميلون إلى توصيف كبار رجال مذاهبهم عند اختيارهم إلى درجة أرقى في الكهنوت ليصبح مرتسمًا بمرسوم من المراسيم – وهذا اللفظ نجده في التراث العربي حتى الآن.

والرسم في علم المنطق: تعريف الشيء بخصائصه, ويطلق أيضًا على تمثيل شيء أو شخص أو موقع جغرافي أو موقعة تاريخية – بالإشارة والتبسيط – أي ليس على شاكلة رسم اللوحات بما تعنيه من معان في دقة التفاصيل وحركة الخطوط وانطلاق الأمواج اللونية, التي هيمنت على كثير من نشاط فن الرسم المعاصر, ولعل الرسم البياني يقوم بوظيفة خاصة, تعبيرًا عن تجريد العمل, والجهود والاستثمارات البشرية والمالية والعقارية, ليصبح الخط البياني واضح التعبير عن المقصود, دون تفاصيل التقريرات والمذكرات والتوضيحات الأسلوبية.

لكن الرسم – في واحد من حالاته المتعددة – يعني الأثر الباقي من الأحقاب الماضية, أي بعد أن غفت وانتهت عهودها, وهو ما نجده كثيرًا في رسم دار الحب, حينما يأتيها العاشق القديم ليجدها أطلالاً, مع أن الشخص الداهية الذكي ذا الخبرة والتجارب كان يطلق عليها (رَوْسم), فإذا قمت بتعديل الروسم الداهية لتصبح الواو بعد السين: رسوم – رجاء فتح الراء – فإن اللفظ هنا يعني ذلك القادر أن يظل يومًا وليلة سيرًا على الأقدام, وهي صفة جديرة بأمثال العاشق الشهير الرومانسي الأصيل: قيس الساعي سيرًا في آفاق الصحارى, باكيًا حزينًا, بالغ الشجن بالقصائد سعيًا وراء ليلى, في حين أن الرسوم من الإبل – أي الجمال والنوق – تعني تلك التي تترك أثرًا على مساحات ومسافات الرحلات, دون وقوعها في مأزق الفن البديع المتألق في قصائد أثر الحب والغرام.

أحاول الهروب من كل أنواع الرسم والرسوم والمراسم والمراسيم والرسومات, حتى أهدأ قليلاً, محتفظًا في الفؤاد بما كنت أتمناه منذ دهور صبيانيتي الأولى: أن أكون رسامًا, ولقد تركت بعضها خطوطًا فوق حوائط قديمة في قريتي, أقصد بقايا خطوط لا تصنع مجدًا, كالذي حظي به قيس – أي قيس?! إنهم كثيرون, في حياتنا, وفي قلوبنا أيضًا

كلمات لها معنى

عليك أن تمعن في السماء قليلاً, ليلاً أو نهارًا, أقصد عليك أن – تخرج من المدينة وتجلس قليلاً فوق تل من الرمال, وتمعن في السماء قليلاً, إنني أقصد علاجك مما أنت فيه.
عندما تتحرك الفرشاة بالألوان, فإنها تنظر إلى القلم بنصف عين راجية أن يتركها حرة خارج خطوطه المحاصرة.
من الجلد جاء الجلاد, الذي يستخدم سوطه في إلحاق الأذى بالآخرين, والسوط – أيضًا – من الجلد ذاته.
تحتفظ زوجتي بي – بكل فخر – لأنها تترك لي حرية التنفس بين وقت وآخر, وهو ما لم تدركه النظم الحاكمة.
كثير من الحيوانات والحشرات والنباتات تحس بالتغيرات التي تحرّك الليل والنهار والشتاء والصيف, دون أن تقع في مأزق بلادة الثقافة المبالغ فيها.

المصدر: مجلة العربي

——————

محمد مستجاب أديب مصري راحل، كتب القصة القصيرة والرواية والمقال الأدبى، تميزت أعماله بالاستخدام الراقى لمفردات اللغة وصياغة ابداعاته في جو يختلط فيه الحلم مع الأسطورة مع واقعية ساخرة.

ولد محمد مستجاب عام 1938 في مركز ديروط بمحافظة أسيوط، وعمل في الستينات في مشروع بناء “السد العالي” في مدينة أسوان وثقف نفسه بنفسه بعد أن توقف دراسيا عند مستوى شهادة الثانوية. ثم التحق بمعهد الفنون الجميلة ولكن لم يكمل دراسته بالمعهد. عمل بضعة أشهر في العراق وبعد عودته إلى مصر عمل في مجمع اللغة العربية وأحيل إلى التقاعد بعد بلوغه سن الستين عام 1998.
نشر أول قصة قصيرة وكانت بعنوان “الوصية الحادية عشرة” في مجلة الهلال في أغسطس 1969، وقد جذب إليه الأنظار بقوة، وأخذ بعد ذلك ينشر قصصه المتميزة في مجلات عدة.
صدرت روايته الأولى “من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ” عام 1983 التي حصل عنها على جائزة الدولة التشجيعية عام 1984 وترجمت إلى أكثر من لغة. تلتها مجموعته القصصية الأولى “ديروط الشريف” عام 1984. ثم أصدر عدة مجموعات قصصية منها “القصص الأخرى” عام 1995 ثم “قصص قصيرة” عام 1999، ثم “قيام وانهيار آل مستجاب” عام 1999 التي أعيد طبعها ثلاث مرات بعد ذلك. ثم “الحزن يميل للممازحة” عام 1998 وأعيد طبعها أيضاً عدة مرات. ثم أصدر روايتين هما “إنه الرابع من آل مستجاب” عام 2002 و”اللهو الخفي” التي صدرت قبل شهرين من وفاته.وحولت إحدى قصصه إلى فيلم سينمائي عنوانه (الفاس في الراس).

زواياه “بوابة جبر الخاطر” في جريدة أخبار الأدب وجمعها أيضا في كتاب من جزئين حمل نفس الاسم وصدر عام 1999.
كتاباته الثابتة في عدد من الصحف والمجلات أبرزها “الأسبوع” المصرية و”الشرق الأوسط ” و”سيدتي” و”المصور” وقد جمع هذه المقالات في كتب عدة منها “حرق الدم”، و”زهر الغول”، و”أبو رجل مسلوخة”، و”أمير الانتقام الحديث”، و”بعض الونس”، و”الحزينة تفرح”.

توفي يوم السادس والعشرين من يونيو 2005م عن 67 عاما بعد أن اصيب بفشل كبدى. زاويتة في مجلة العربي كانت بعنوان واحة العربي وكتابة زهر الفول وليس زهر الغول

المصدر: http://ar.wikipedia.org/wiki/محمد_مستجاب